مجلة الرسالة/العدد 108/حافظ بك إبراهيم

مجلة الرسالة/العدد 108/حافظ بك إبراهيم

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1935



بمناسبة ذكراه

بقلم السيد أحمد العجان

تتمة

- 12 -

نصائحه إلى البائسين:

1 - الهجرة خير للفقير:

إن ضيق العيش لا يرضى به إلا ذليل خطمه الذل، وجبان أقعده الخوف؛ والكسل والعجز والخمول آفة المصري، وكثير من الشرقيين ضربوا في الأرض، وركبوا البحار، فأثروا

أليس خيراً للمعدم أن يجوس خلال البلاد، يطلب سعة ويبتغي سعادة؟ لقد سبقه في الهجرة كثير من أبناء الشام، ورجال الشرق:

ما عابهم أنهم من الأرض قد نثروا ... فالشهب منثورة مذ كانت الشهب

ولم يَضِرْهم سراء في مناكبها ... فكل حي له في الكون له مضطرب

رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا ... إلى المجرة ركباً صاعداً ركبوا

أو قيل في الشمس للراجين منتجع ... مدوا لها سبباً في الجو وانتدبوا

وقديماً غادر هو الوطن، ونزح عن بلاده، يطلب عيشاً، ويروم رزقاً:

نزحت عن الديار أروم رزقي ... وأضرب في المهامه والتخوم

ولولا سورة للمجد عندي ... قنعت بعيشتي قنع الظليم

وكان في مقدوره أن يتقاعد لو كان يرتضي وجدان مواطنيه، ولكنه يأبى أن يكون خاملاً:

فيا ليت لي وجدان قومي فأرتضي ... حياتي، ولا أشقى بما أنا طالبه

ينامون تحت الضيم والأرض رحبة ... لمن بات يأبى جانب الذل جانبه

يضيق على السوري رحب بلاده ... فيركب الأهوال ما هو راكبه

ويخرج بالرومي مذهب رزقه ... فتفرج في عرض البلاد مذاهبه

وعجيب أن يقيم بيننا الغربي فيثرى ويخصب، ونحن قعود عن منافسته وسبقه ومجارات سابق الغربي واسبق واعتصم ... بالمرؤات، وبالبأس اعتصاما

جانب الأطماع وانهج نهجه ... واجعل الرحمة والتقوى لزاما

ومتط العزم جوادا للعلا ... واجعل الحكمة للعزم زماما

ومع هذا الفقر الذي ساءل من اجله السراة والمترفين، والذي من أجله حبب الهجرة ودعا إلى الارتحال ابتغاء الرزق، ومع حاجته إلى الأنصار والأعوان يمدون له يد المساعدة، ويقدمون له العطايا، فانه جد حريص على كرامته، يحتفظ بها ويرعاها

ولقد راق لديه ما فعل (فيكتور هيجو) بعد أن زج في السجن، وحشد في زمرة السفاكين والمجرمين، وأراد الولاة الغاصبون أن يمنوا عليه بالعفو، فأبى واستكبر أن تسدي إليه العفو يد مذنب أثيم:

عاف في منفاه أن يدنو به ... عفو ذاك القاهر المغتصب

بشروره بالتداني ونسوا ... انه ذاك العصامي الأبي

كتب المنفى سطراً للذي ... جاده بالعفو فأقر أو اعجب:

أبريء عنه يعفو مذنب؟ ... كيف تسدي العفو كف المذنب؟

وكثير من العلماء النابهين، والشعراء والكاتبين، والأئمة والزعماء، درجوا في منابت الفقر، وقاسوا محن العيش، فطلبوا الجاه في العلم، والشرف في الكرامة، والهيبة في الإباء، وخلقوا لأنفسهم مجداً لا يقاس به عرض الدنيا: فلقد كان بشار بن برد الشاعر النابه منى أوئلكم الفقراء، إذ كان أبوه طياناً يضرب اللبن، وكان أبو العتاهية يبيع الفخار بالكوفة، والجاحظ يبيع الخبز والسمك، وأبو تمام يسقي ماء بالجرة في جامع مصر، كما كان أبو حنيفة بزازاً، وكما هو مشاهد الآن في زعامة الأمم الراقية أمثال روزفلت، وهتلر، وموسوليني

إن الظروف القاسية تحطم عظماء الرجال ولكنها لا تجرؤ أن تحطم التفاؤل عند المتفائلين، وهؤلاء الذين يجالدون آلام الجوع والمسغبة، وفي قلوبهم إيمان وفي ضمائرهم حياة، ليس شيمتهم التفاؤل فقط، ولكنه التفاؤل الرخيص

وكان حافظ رحمه الله أحد هؤلاء المتفائلين، كما ينطق بذلك شعره صريحاً بينا:

على أنني لا أركب اليأس مركباً ... ولا أكبر البأساء حين تغير نفسي برغم الحادثات فتية ... عودي على رغم الكوارث مورق

فيا قلب لا تجزع إذا عضك الأسى ... فإنك بعد اليوم لن تتألما

ولآن تتابعت عليه تارات الأحداث، وطوارق الغير، فإن ذلك لا يثنيه عن عزمه، ولا يقعده عن غايته، مادامت العلياء رائدة، وشرف الغاية مأربه:

مرحباً بالخطب يبلوني إذا ... كانت العلياء فيه السببا

عقني الدهر ولولا أنني ... أوثر الحسنى؛ عققت الأدباء

- 13 -

لقد مدح حافظ كل ذي جاه في الدولة، أو ذا تصريف في أمور البلاد، أو من أنس منه الخير يجلب والشر يتقى، وهو طبيعي في رجل كحافظ تجرد من القوة، وأصفر من المال، فركن إلى الولاة والحاكمين يتقي عواديهم ويأمن جورهم، وقد يناله خيرهم، ويدركه نفعهم

ولكنه في مدحه الذي من أجله عرض ألفاظ اللغة، (ونبش بطون الكتب وقلبا أحشاء القواميس، ثم أستخرج من الألفاظ أطلاها وأحلاها، ومن المعاني أسماها وأعلاها، وصاغ من كليهما مدحة تهز الممدوح وتطربه،) لم يخالف ضميره ولم يتجر بوطنيته، ولم يرق ماء وجهه ويمتهن كرامته. بل كان يقف عند دهاء السياسة وحزم الرجولة، ولين الجانب حيث لا مغمز ولا تجريح

مدح الخليفة وسلاطين الدولة العثمانية، وخديو مصر وأمرائها، ورجال مصر وسراتها، بل مدح اللورد كرومر وملك الإنجليز ومندوب الإنجليز. ولكن ما كان يمدحهم تملقا ورياء، بل كان أشبه بالتشبيه يقدمه الشاعر لتصغي الأسماع إليه وتتعلق القلوب بما بعده، ثم يتناول مطالب الشعب يقدمها، وشكايات الوطن يلفت الأنظار إليها، وقد ينتقد في السياسة، ويتهكم بمسلك الحاكمين، كما حدث في قصيدته التي رفعها إلى عميد الدولة البريطانية بعد حادثة دنشواي

قصر الدبارة هل أتاك حديثنا ... فالشرق ريع له وضج المغرب

أهلا بساكنك الكريم ومرحباً ... بعد التحية إنني أتعتب

ماذا أقول وأنت أصدق ناقل ... عنا ولكن السياسة تكذب

أنقمت منا أن نحس؟ وإنما ... هذا الذي تدعوا إليه وتندب أنت الذي يعزى إليه صلاحنا ... فيما تقرره لديك وتكتب

أو كلما باح الحزين بأنةٍ ... أمست إلى معنى التعصب تنسب؟

فأجعل شعارك رحمة ومودة ... إن القلوب مع المودة تكسب

لقد طبع حافظ مدحه بطابع المصلحة للمجتمع، والنفع للوطن، والتعبير عن أحاسيسه وآلامه والذود عن شرفه وكرامته. وكان هذا المدح يتقدم به في قصائده كالتشبيب عند السابقين كما في قصيدته التي رفعها لسمو الأمير عباس الثاني في عيد رأس السنة الهجرية

قصرت عليك العمر وهو قصير ... وغالبت فيك الشوق وهو قدير

وأنشأت في صدري لحسنك دولة ... لها الحب جند والولاء سفير

فؤادي لها عرش وأنت مليكه ... ودونك من تلك الضلع ستور

وما انتفضت يوماً عليك جوانحي ... ولا حل في قلبي سواك أمير

ثم انتقل - بعد أن عرض للهوى والصبابة والغرام - إلى آمال الوطن ومطالبه:

أمولاي إن الشرق قد لاح نجمه ... وآن له بعد الممات نشور

مضى زمن والغرب يسطو بحوله ... علي ومالي في الأنام ظهير

إلى أن أتاح الله للصفر نهضة ... فقلت غرار الخطب وهو طرير

جرت أمة اليابان شوطاً إلى العلا ... ومصر على آثارها ستسير

وما يمنع المصري أدراك شأوها ... وأنت لطلاب العلا لنصير

فقف موقف الفاروق وانظر لأمة ... إليك بحبات القلوب تشير

- 14 -

في مصر فقراء وأيتام وذوو خصاصة، ولهم حقوق على المجتمع الذي يعيشون فيه ويعملون له

1 - لهم حق التعليم حتى يرتفع مستواهم، وتعلو منازلهم وحتى يتضامنوا مع المجتمع في بناء مجده بوحي من الضمير ووازع من النفس، لا بطريق السخرة والاجبار، وحتى تكون العلاقة بين أفراده وهيئاته بعضهم مع بعض علاقة محبة وإخلاص وولاء، لا علاقة سيادة وغطرسة وكبرياء

2 - ولهم حق تيسير سبل الرزق؛ بفتح أبواب العمل امامهم، والسهر على صوالحهم، ورعاية شؤونهم؛ حتى يعيشوا وأسراتهم في مأمن من الجوع والخصاصة، وحتى لا يشغلوا المجتمع بسرقاتهم وسطوهم

3 - ولهم حق المعالجة في بيوت الشفاء والمصحات، حتى تسلم جسومهم من العلل، وتصح أبدانهم من الأسقام. فنحن في ميدان نهضة، وكل نهضة لابد لها من عدة، فلتكن عدتنا رجالاً أشداء البنية أصحاء الأجساد سليمي العقل، نابهين حازمين كي يكون منهم الجندي الباسل، والزارع النشيط، والصانع الحاذق، والوطني الغيور، إلى أخر ما يتطلبه الوطن ليسلم، وتستدعيه النهضة لتدوم.

4 - على أن منهم العاجز الضعيف، واليتامى الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، كل أولئك في حاجة إلى ملاجئ يأوون إليها، ومدارس يتعلمون بها ما ينفع الجماعة ويدر عليهم الخير

5 - ثم من فوق ذلك، ومن قبل كل ذلك، لهم حق قد يعلو على كل الحقوق في جلال شانه وخطره، ذلك هو أن يشعروا بعطف ذوي الجاه وأرباب النفوذ وأولياء الأمور، حتى يشربوا في قلوبهم حبهم، ويولوهم الطاعة التي تحقق لهم رغباتهم

هذه حقوق الشعب المسكين كما يراها حافظ، فهو يرقب فرصة اعتلاء سعد منصة الحكم فيتقدم إليه يقول:

يا سعد أن بمصر أيـ - تاماً تؤمل فيك سعدا

قد قام بينهم وبين العلـ - م ضيق الحال سدا

مازلت أرجو أن أر - اك أبا، وان ألقاك جداً

حتى غدوت أبا له ... أضحت عيال القطر وُلْدا

فاردد لنا عهد الأما - م وكن بنا الرجل المفدى

عليكم حقوق للبلاد أجلها ... تعهد روض العلم فالروض مقفر

قصارى مني أوطانكم أن ترى لكم ... يداً تبتني مجداً ورأساً يفكر

فتعلموا فالعلم مفتاح العلا ... لم يبق باباً للسعادة مغلقاً

وقصيدته في سبيل (الجامعة) تبين رأيه في التعليم، وأنه لا يقنع في الأوليات السطحية، بل بالثقافة الرشيدة والدراسة الحكيمة، وأن ألف كتاب لا تعدل مدرسة عالية أو جامعة منظمة؛ لأننا نستبدل بالكتاتيب داء الجهل بداء اشد خطراً وهو الغرور

ذر الكتاتيب منشيها بلا عدد ... ذر الرماد بعين الحاذق الإرب

فأنشأوا ألف كتاب وقد علموا ... أن المصابيح لا تغني عن الشهب

هبوا الأجيرة أو الحراث قد بلغا ... حد القراءة في صحف وفي كتب

من المداوي إذا ما علة عرضت؟ ... من المدافع عن عرض وعن نشب

ومن يروض مياه النيل أن جنحت ... وأنذرت مصر بالويلات والحر؟

ومنى يوكل بالقسطاس بينكم ... حتى يرى الحق ذا حول وذا غلب؟

ومن يميط ستار الجهل إن طمست ... معالم القصد بين الشك والريب؟

فما لكم أيها الأقوام جامعة ... إلا بجامعة موصولة السبب

والحق أن حافظاً صورة من النفسية المصرية العامة في هذه الفترة، فترة الانتقال والحيرة والاصطدام في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهو على ذلك قد أدى رسالته في الحياة، وقام بواجبه نحو وطنه وشعبه، لأنه بصر بآلامه، وتغنى بالأمل المنشود، والمصلحة المرجوة، ووقع على قيثارة الحنان أناشيد الأسى وأنات البائسين، فجزاه الله كفاء وفائه الجنة وحسن المقام وخلود الذكر

السيد أحمد العجان