مجلة الرسالة/العدد 108/للتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 108/للتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1935



الرافعي

بقلم تلميذه وصديقه الأستاذ محمد سعيد العريان

(بيان كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم) سعد زغلول

بيني وبين الأستاذ مصطفى صادق الرافعي عهد وذمة، وله علي حرمة المعلم والأب والصديق؛ أفترى كل أولئك يمنحني الحق أن أكتب عنه كما عرفته، وأخذت عنه، واستمعت إليه، واستمتعت بفنه وأدبه ومجلسه؛ أم تراه سيغضب إذ يراني أتناول حياته وأدبه فأنشر منهما على الناس، ثم لا أنبئه بما اعتزمت إلا حين تنبئه الصحائف المنشورة، على حين أجالسه كل مساء. . . .؟

وإني لحريص على رضاه، وما أعلم أنه يغضبه أن يحسن رأيي فيه أو يسوء؛ فانه ليعلم علمي أن ذلك حق الأدب، لا يمنع منه تفاوت المنازل أو تداني الرتب، ولا يؤثر فيه حق المعلم والأب والصديق، بل لعله إذ يغضب أن يكون غضبه من أنه يؤثر العيش في عزلته التي رضيها لنفسه، بعيداً من ضوضاء الحياة وصخب الناس، منعزلاً في (طنطا) الحبيبة إليه، عن مجالي الأدب ومزدحم المتأدبين في (القاهرة)

على أني إلى ذلك لا أستطيع أن أرد طلبة للأستاذ الزيات، وهو قد طلب إلي أن أكتب هذا الفصل عن الرافعي، على علم منزلته عندي ومنزلتي عنده؛ أفتشفع لي هذه المعذرة عند الأستاذ الرافعي أم سيشفع لي الأستاذ الزيات. .؟

تمهيد

سمعت اسم الرافعي لأول مرة مقترنا إلى نشيده الخالد: (اسلمي يا مصر. . .) في حفل حاشد بطنطا؛ وكان لاسمه يومئذ في أذني رنين عذل، امتزج بأنغام ذلك النشيد، وتألف لي منهما لحن علويٌّ ساحر، فيه جمال وعذوبة، وفيه اعتزام وقوة. على أني لم أكن أعرف يومئذ أهو الرافعي صاحب (الأخبار)، أم رافعي آخر، تجمع بينهما وحدة اللقب وشرعة الوطنية

ومضت سنوات، وشدوت من العلم ما شدوت، وإذا صديق يدفع إلى كتاب (رسائ الأحزان)

كنت يومئذ في بكرة الشباب، في تلك السن التي تدفع الفتى إلى الحياة بعينين مغمضتين، وفكر حالم، ورأس يزدحم بالأماني؛ وقلب مملوء بالثقة؛ ثم لا يكاد يفتح عينيه على حقائق هذا الوجود، حتى يعرف أن دنيه من دنيا الناس، ويحس الفرق بين علام قلبه وعالم حسه، وتسخر منه الدنيا سخريتها الأليمة؛ فيلجأ إلى وحدته الصامتة يذرف دمع عينيه ودمع قلبه، فلا يطرب إلا لأنغام الحزن، ولا يسري عنه إلا رسائل الأحزان. . .!

واستهواني عنوان الكتاب، فتناولته اقلب صفحاته، لا أكاد أفهم جملة إلى جملة. . حتى انتهيت إلى قصيدته (حيلة مرآتها) فإذا شعر عذب يخالط النفس، وينفذ في رفق إلى القلب؛ وإذا أنا أعيدها مرة ومرة، فلا أدع الكتاب حتى أستظهر القصيدة. وحبب إلي هذا الشعر الساحر أن أعود إلى الكتاب فأقرأه في روية ومهل لعلني أن استدرك ما فاتني من معانيه؛ وأدخر لنفسي قوة من سحر بيانه، وصدق عواطفه؛ وعدت إليه أقرؤه قراءة الشعر، أفهمه بفكري وشعوري، وأنظر فيه بعيني وقلبي؛ فإذا الكتاب يكشف لي عن معناه. .

وأحببت الرافعي من يومئذ، فرحت أتتبع آثاره في الصحف والكتب، لا يفوتني منها شيء. وأشهد، لقد كنت اجهد جهداً شديداً في فهم كتابة الرافعي؛ لأني لم يكن لي عهد بمثلها فيما أقرأ، وما كنت أقرأ من قبل إلا لإزجاء الفراغ، التمسه في ذلك النوع الهين من أدب القصص والصحف؛ على أنني كنت إلى جانب ذلك أحب الشعر، أقرؤه فأفهم ما أقرأ، فكان لي من ذلك ما أعنني على فهم الرافعي، ثم الإعجاب به من بعد، ثم ألا يعجبني إلا مثل ما يكتب. . .

صلتي بالرافعي:

كنت اعرفه واسمع عنه، على حين لا يعرفني ولا يسمع بي، وليس عجيباً؛ وكنت ألقاه في الطريق منطلقاً إلى غرض، يهز في يمناه العصا، ويتأبط بيسراه عديداً من الصحف والمجلات والكتب، واسع الخطو لا يتمهل، ماشياً على حيد الطريق لا يميل، ناظراً إلى الأمام لا يتلفت إلا حين يهم باجتياز الشارع؛ فإذا ألقيت إليه تحية، رفع يمناه بالعصا إلى رأسه من غير أن ينظر يمنة أو يسرة أو تضيق خطاه؛ وكنت أرى ذلك فأحسبه نوعاً من الكبر وأرستقراطية العلماء، فباعد ذلك بيني وبينه إلى حين. . .

ففي خريف سنة 1932 اجتمع بطنطا طائفة من الشباب على تأليف رابطة أدبية باسم (جماعة الثقافة الإسلامية)، تقوم أغراضها على العناية بشؤون الأدب والاجتماع، والعمل على أحياء مجد العرب والإسلام. وتذاكر المجتمعون فيمن يمكن أن ينضم إلى الجماعة من أهل الرأي لتقوى به على تنفيذ أغراضها، فكان اسم الرافعي أول هذه الأسماء

وذهبت إليه عن أمر الجماعة في وفد ثلاثة، فلقينا الرجل مرحباً مبتسماً وقادنا إلى (دار كتبه)، ثم جلس وجلسنا؛ وفي تلك الغرفة التي تتنزل فيها عليه الحكمة ويلقى الوحي، جلسنا إليه ساعة يجاذبنا ونجاذبه الحديث ما نكاد نشعر أن الزمن يمر

كان جالساً خلف مكتب تكاد تكون اكتب من فوقه تحجبه عن عيني محدثه؛ وعن يمينه وشماله مناضد قد ازدحمت عليها الكتب في غير ترتيب ولا نظام، تطل من بين صفحاتها المطوية قصاصات تنبئك أن قارئها لم يفرغ منها بعد، أو أن له وقفة عند هذا الموضع من الكتاب سيعود إليها؛ وعلى حيطان الغرفة أصونة الكتب المتراصة، لا يبدو من خلفها لون الجدار. . .

ومضى يتحدث إلينا حديث المعلم، وحديث الأب، وحديث الصديق؛ فما شئت من حكمة، وما أكبرت من عطف، وما استعذبت من فكاهة؛ وللرافعي فكاهة رائقة يخترعها لوقتها لا تملك معها إلا أن تضحك وتدع التوقر المصنوع؛ على أن له في فكاهته مذاهب عقلية بديعة، تحس فيها روحه الشاعرة، وفنه البكر، وحكمته المتزنه، وسخريته اللاذعة؛ ويكاد يكون كثير من مقالات الرافعي برهاناً على ذلك، فقلما تخلو إحداها من دعابة طريفة أو نكتة مبتكرة

وطال بنا المجلس وخشينا أن نكون قد أثقلنا عليه فهممنا بالانصراف، وإذا هو يطلب إلينا البقاء، ويلح علينا في تكرار الزيارة، ويكشف لنا عن سروره بألا نغب مجلسه، وعرفت الرافعي عرفاً تاماً من يومئذ فلزمته، وعرفني هو أيضاً فأصفاني عطفه ومودته

اختبار!

وجلست إليه في الزورة الثانية وبين يديه صحفه وكتبه، فدفع إلي صحيفة يومية كان منشوراً فيها يومئذ قصيدة لشاعر كبير، وطلب إلي رأيي في القصيدة. لم أتنبه ساعتئذ إلى غرضه، وحسبته يقصد إلى أن يشاركني في لذة عقلية أحسها في هذا الشعر؛ فتناولت الصحيفة وقرأت القصيدة، ثم دفعتها إليه وقد أشرت بالقلم إلى عيون أبياتها ورأيي فيها، وتناولها مني ليرى اختياري، فما عرفت إلا وقتئذ أنه كان يختبرني؛ ولكني - والحمد لله - نجحت في الامتحان قدراً من النجاح. . .!

وتكرر هذا الاختبار مرات وهو لا يحسبني أدرك ما يعني، على أن إدراكي هذا قد جعلني من بعد أكثر تدقيقاً في اختيار الحسن مما أقرأ. وأولاني ثقته على الأيام، فكان علي من بعد أن أقرأ أكثر ما يهدي إليه من الكتب، لأشير له إلى المواضع التي يصح أن يقرأها منها، وأدع ما لا جدوى عليه من قراءته ضناً بوقته؛ وكنت أنا أكثر ربحاً بذاك. . .

الشيخ الرافعي. . . .

كثير من الذين يقرأون للرافعي ويعجبون به، لا يعرفون عنه إلا هذا الأدب الحي الذي يقرأون؛ بل أن اكثر هؤلاء القراء ليتخيلونه شيخاً معتجر العمامة، مطلق العذبة، مسترسل اللحية، مما يقرأون له من بحوث في الدين، وآراء في التصوف، وحرص على تراث السلف، وفطنة في فهم القرآن، مما لا يدركه إلا الشيوخ، بل مما لا يدركه الشيوخ. . . وكثيراً ما تصل إليه الرسائل بعنوان: (صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى صادق الرافعي. . .) أو (صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر. . .)

ومن طريف هذا الباب رسالة جاءته من (حلب) منذ قريب، يبدي كاتبها دهشته أن يرى صورة الرافعي منشورة في (الرسالة) إلى جانب مقالته في عدد الهجرة، مطربشاً، حليق اللحية، أنيق الثياب، على غير ما كان يحسب؛ ويتساءل كاتب الرسالة: لماذا يا سيدي أبدلت ثياباً بثياب، وهجرت العمامة والجبة والقفطان، إلى الحلة والطربوش؟ ألك رأى في مدنية أوربا في المظاهر الأوربية غير الرأي الذي نقرؤه لك. . .؟) وما كان هذا السائل في حاجة إلى جواب، لو أنه عرف أن الرافعي لم يلبس العمامة قط، وهذا لباسه الذي نشأ عليه منذ كان صبياً يدرج في طربوشه وسراويله القصيرة، يوم كان تلميذاً يدرس الفرنسية إلى جانب العربية بمدرسة المنصورة. . .

نشأته:

على أن نشأة الرافعي كان لها أثر بالغ في الاتجاه العقلي الذي برز فيه وتفرد به؛ فهو قد نشأ في بيت له نسب عريق في الإسلام. وأنت إذا رجعت إلى تأريخ القضاء في مصر إلى قرن مضى، رأيت لاسم (الرافعي) تأريخاً في كل ديوان من دواوين القضاء والإفتاء. وقبل نزوح الشيخ محمد الرافعي الكبير من (طرابلس الشام) لم يكن معروفاً لمذهب أبى حنيفة أتباع في مصر؛ فهو شيخ الحنفية في هذه الديار غير منازع، وقد تخرج على يديه أكثر علماء الحنفية الذين نشروا المذهب، ومن تلاميذه المرحوم الشيخ محمد البحراوي الكبير؛ كما تخرج على يدي أخيه الشيخ عبد القادر الرافعي كثير منهم، ومن تلاميذ أخيه شيخ الشيوخ الآن فضيلة الأستاذ محمد بخيت مفتي الدولة السابق، مد الله في حياته. وقد مضى زمن كانت فيه وظائف الإفتاء كلها محبوسة على (آل الرافعي)، حتى ذكر اللورد كرومر في بعض تقاريره: (إن من هذه الأسرة أربعين قاضياً شرعياً). . وأبو المترجم له (الشيخ عبد الرزاق الرافعي) كان رئيساً للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم، وكان رجلاً ورعاً له صلابة في الدين، وشدة في الحق، ما برح يذكرها مع الإعجاب معاصروه من شيوخ طنطا. وبيت الرافعي في (طرابلس الشام) من البيوت الرفيعة وما يزال كعبة يحج إليها العلماء. وأسم (الرافعي) معروف في تأريخ الفقه الإسلامي منذ قرون. . .

فالأستاذ مصطفى صادق الرافعي وأن كان قد تربى تربية مدنية كالتي ينشأ عليها أكثر أبناء هذا الجيل لم يزل بعض أهله؛ وقد حمل عن آبائه الراية يقتحم بها في سبيل الدين، وينافح الشرك، ويدعو إلى الله. وما جهاده في ذلك - على تسلط أسباب الفتنة والزيغ في هذا الزمان إلا حلقة من سلسلة جهاد طويل، أفرغها آباؤه حلقة حلقة منذ انحدر أولهم من صلب الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. . .

الرافعي الشاعر

أفرأيت الرافعي وهذا منشؤه ونسبه يقنع بالقدر الضئيل من العلم لذا تلقاه في المدرسة؛ ومن أين للرافعي أن يعرف هذه القناعة. . .؟

فما هو إلا أن ترك المدرسة حتى انكب على كتب الدين والعربية يستبطن أسرارها وينبش عن دفائنها؛ فحصل ما حصل من علوم اللغة الدين، وبلغ ما بلغ من أساليب البلاغة وأسرار العربية. وكان في نفس الرافعي هوى قديم أن يكون شاعراً. . . فأخذ يقرض الشعر، أتم طبع الجزء الأول من ديوانه ولما يبلغ الثالثة والعشرين. . . وقدم بين يدي ديوانه مقدمة بليغة، كانت وحدها البرهان على أن هذا الشاب النحيل الضاوي الجسد يعرف أين موضعه بين أدباء العربية في غد. . . وما أحاول أن أتكلم عن الرافعي الشاعر الأديب في ديوانه وعن مقدمة ديوانه بأبلغ مما قال عنه العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي، وهو يومئذ أديب العصر وأبلغ منشئ في العالم العربي؛ فقد كتب في عدد يونيو سنة 1903 من مجلة الضياء، في تقريظ الجزء الأول من ديوان الرافعي ما يأتي:

(وقد صدره الناظم بمقدمة طويلة في تعريف الشعر، ذهب فيها مذهباً عزيزاً في البلاغة، وتبسط ما شاء في وصف الشعر، وتقسيمه، وبيان مزيته، في كلام تضمن من فنون المجاز، وضروب الخيال، ما إذا تدبرته وجدته هو الشعر بعينه. . .

ثم انتقد الأستاذ اليازجي بعض ألفاظ في الديوان، وعقب عليها بقوله:

(. . . على أن هذا لا ينزل من قدر الديوان وأن كان يستحب أن يخلو منه؛ لأن المرآة النقية لا تستر أدنى غبار، ومن كملت محاسنه ظهر في جنبها أقل العيوب؛ وما انتقدنا هذه المواضع إلا ضناً بمثل هذا النظم أن تتعلق به هذه الشوائب، ورجاء أن يتنبه إلى مثلها في المنتظر، فأن الناظم - كما بلغنا - لم يتجاوز الثالثة والعشرين سنيه؛ ولا ريب أن من أدرك هذه المنزلة في مثل هذه السن، سيكون من الأفراد المجلين في هذا العصر، وممن سيحلون جيد البلاغة بقلائد النظم والنثر. . .)

الرافعي وحافظ

لم يكن الشيخ إبراهيم اليازجي وحده هو الذي تنبأ للرافعي الشاب بالمنزلة الرفيعة التي يتبوؤها اليوم؛ فقد نال يومئذ اكبر قسط من عناية الأدباء في عصره؛ وهذه أبيات لشاعر مصر الكبير المرحوم حافظ إبراهيم، بعث بها إلى الرافعي في سنة 1906 تدل بنفسها على مقدار احتفال أدباء العصر بهذا الناشئ الجبار:

أراك وأنت نبْت اليوم تمشي ... بشعرك فوق هام الأوّلينا

وأوتيت (النبوَّة) في المعاني ... وما جاوزتَ حدَّ (الأربعينا)

فزنْ تاج الرياسة بعد (سامي) ... كما زانتْ فرائدُه الجبينا

وهذا الصولجان فكن حريصاً ... على مُلْكِ القريض وكن أميناً

وحسبك أن مُطْريَك (ابن هاني) ... وأنك قد غدوت له قريناً نبوءتان

لم يتناول الرافعي في الجزء الأول من ديوانه إلا ما يتناوله الشباب من فنون الشعر، ولم يكن معروفاً له اتجاه أدبي إلى غير هذا اللون من شعر الشباب؛ على أن نبوءة من وراء الغيب جاءت على لسان الأستاذ الإمام (محمد عبده)، في كتاب بعث به إلى الرافعي سنة 1321هـ (1903م) تدعو إلى العجب والتأمل؛ إذ ختم كتابه إلى الرافعي بهذه العبارة:

(. . . أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق به الباطل؛ وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل.)

أفكان الشيخ محمد عبده يلقي الغيب، فيعلم من شأن الرافعي في غده مقامه في الدفاع عن الحق والذود عن لغة القرآن؛ أم استجاب الله دعاءه للرافعي كما استجاب دعاءه لحافظ. . .

وأشبه أن يكون نبوءة أخرى ما كتبه المرحوم الزعيم مصطفى كامل باشا من تقريظه ديوان الرافعي في جريدة اللواء: (وسيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان. . .)

ولما هم الكاظمي الشاعر أن يسافر إلى الأندلس في سنة 1905 كتب الرافعي: (ثق أني أسافر مطمئناً وأنت بقيتي في مصر. . .)

(للحديث بقية)

محمد سعيد العريان