مجلة الرسالة/العدد 11/خواطر في الشعر العربي

مجلة الرسالة/العدد 11/خواطر في الشعر العربي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 06 - 1933



للأستاذ محمود البشبيشي. المدرّس بدار العلوم

للرسالة الغرّاء فضل على الأدب العربي أن أتاحت لقرّائها فرصا

كثيرة للإطلاع على آراء ناضجة، وبحوث طريفة في الأدب العربي.

ولقد أثار كتابها الفضلاء موضوعات طليّة في هذه الناحية لقيت من

قادة الأدب والباحثين فيه عناية كبيرة، تردد صداها على صفحات

(الرسالة) وفي أندية الأدب، وإذا كان من حق الرسالة على أدباء

العربية أن يشكروا لها حسن مسعاها. فإن من واجبهم أن يبوحوا بما

يهتدون إليه من آراء حيال هذه الموضوعات، ليكون للأدب من

كتاباتهم وبحوثهم مدد لا ينقطع.

أثار الباحث المفضال (الدكتور محمد عوض) مسألة الشعر الذي لا يجري على سنن واحد، وكان موفقاً في تسميته (مجمع البحور) كما كان جدّ موفق في نقده وتجريحه حتى تركه هباءً تذروه الرياح. ولقد كانت صيحة (الدكتور) موفقة، نبّهت رجال العربية إلى خطر داهم ينتظر الشعر العربي من هذه الدعوة الباطلة التي لم تعدم لها أنصارا، ولم تعتمد في قيامها على دليل، لقد طالما صدّعت آذاننا بمثل هذه الدعوة، فمن داع إلى التحرر من القافية، إلى منادٍ بجمود الشعر العربي، إلى طارح لأوزان العروض المأثورة، إلى غير هذه النزعات الطائشة الغامضة، وأخيرا فوجئنا بفكرة التحلل من وحدة البحور، وقرض الشعر على غير نظام والسير فيه على غير هدى، ولقد كنّا نشفق على الشعر ذلك التراث المجيد أن تعبث به المحاولات، ثم يعود إلينا شيء من الطمأنينة، اعتماداً على ما فيه من مناعة تقيه هذه الألاعيب، غير أن دعاة هذه الفوضى الشعرية ما فتئوا يعاودون الكرّة بعد الكرّة يريدون أن يتسللوا في غفلة الرقباء إلى حمى الشعر فيستبيحوه، فإذا تم لهم ذلك لجّوا في طغيانهم، وقضوا على أنصع صفحات الأدب العربي، وأزهى رياضه، وانضر وجوهه، ثم نعبت غربانهم على أطلاله، وقطعوا ما بين حاضر الأمة وماضيها، وبنوا على أطلال ذلك الماضي المجيد، ما خيله لهم أهواؤهم من أمانيّ وأحلام.

لست أدري ماذا ينقم القوم من الشعر؟ وهو الذي ساير الدهر قرونا طوالا، وماشى الحضارات على اختلافها، واتسع للأغراض الشعرية على كثرتها، واستقبل حكمة العرب واليونان بعزة الواثق بنفسه، المعتز بقوته، فما دعاه غرض إلاّ لبّى، وما أهاب به جديد إلاّ استجاب، وما سمعنا أنه قعد عن حكمة المتنبي وأبي تمام، ولا تخاذل دون مباهج الحياة وأغراضها في بغداد والأندلس، ولا قصّر يوم طلب إليه ترجمة (الإلياذة). ولا يوم دعي لنظم (قمبيز) و (كيلوباترا)، بل ما رأيناه نفر ممن حمّلوه ما لم يخلق لأجله فضموا به العلم، وأطالوا به المتون، فالشعر العربي خصب بطبيعته، قابل للتجديد ومسايرة الزمن، ولكن في حدود العقل والمنطق، وفي حدود السليقة العربية، والحضارة العربية.

فماذا يريد القوم بعد ذلك؟ وأيّ غرض يرمون إليه؟ ماذا يريدون بمجمع البحور، وهو نوع لاحظ له من النغم الموسيقي، الذي هو روح الشعر، وسر تقدمه على النثر، هو لون من القول يريد أن يخدع الناس عن نفسه فلا يلبثون أن يعرفوا حقيقته، ويدركوا أنّه لا إلى الشعر ولا إلى النثر.

لقد أبان لهم (الدكتور الفاضل) أن هذا بدع من القول لم تعهده اللغات الأخرى، ولم ينزل إليه شعراؤها النابهون، أمثال (شكسبير) وصاحب الشاهنامة، وعهدنا بأصحاب هذه الدعاوى، إذا أخذهم الدليل أن يتشبثوا بأهداب التجديد، ويجروا وراء الأدب الغربي، فإذا كانت حجتهم داحضة، وأسبابهم واهية، وإذا كان فحول شعراء اللغات الأخرى لم يسفوا إلى (مجمع البحور) فماذا عساهم يقولون؟ ما أظن الباعث لأكثر هؤلاء إلاّ الطموح إلى الشهرة وذيوع الصيت، يستهينون في سبيله بلغتهم، وهي مناط العظمة، وديوان المفاخر، ومظهر الكرامة والعزّة القومية، هم يحسدون الشعراء على مكانتهم! ويحاولن ألاّ يقصروا في كل مظاهر العظمة، فيتعلّقون بأهداب الشعر، فإذا هو نافر منهم، ويرون معاناة الشعر أمراً عسيراً على طبائعهم، شديداً على نفوسهم، ويدركون أن العقبة الكؤود دون الذي يريدون، قوانين دعت إليها طبيعة الشعر كفن من فنون الموسيقى، وأقواها في نظرهم وحدة الوزن والقصيدة أو ما يعبّر عنه بالبحور، فلا يهدأ لهم بال، ولا يقر لهم قرار حتى ينفّروا الناس من هذه القوانين لعلهم أن يحطموها، فتصير طريق الشعر في زعمهم واضحة معبّدة، وعند ذلك يستوي الشاعر والمتشاعر، ويندس في زمرة الشعراء الملهمين من لا يمت إلى الشعر بسبب، وقد نسوا أن الشعر كالموسيقى والصوت الحسن لا ينقاد إلاّ لمطبوع عليه.

رويدكم أيّها الإخوان! فما أنتم ببالغي هذه الغاية! وإن تراءت لكم قريبة المزار، إنّ شعراً يفقد أهم عناصره وهي وحدة الموسيقى لجدير أن تمجه الآذان، وتنفر منه الطباع، وما كان هذا شأنه. فلن يرقى إلى درجة الشعر الصحيح ولن يجد من النفوس إلا احتقارا، ثم لا يلبث أن يقبر في مهده. وانه لخير مما تريدون أن يسمع الإنسان كلاما منثورا منسجما لا تكلف فيه، ولا تتعب أذنه في التوفيق بين أنغام مختلفة متنافرة، لاحظّ لها من الشعر، ولا روح لها من ألفة موسيقية، وان يوماً يستحيل فيه الشعر إلى ما ذهبتم إليه لهو يوم القضاء على الشعر العربي وجناية هذا على الأجيال المستقبلة أخطر مما تتصورون.

ليس يجدي ما تدعون إليه أن يتجلى على الناس في حلّة الشعر وأن يحمل بين يديه قيثارته، فلن تلبث الحلّة الخادعة، أن تبدو مهلهلة شتى الصور والألوان فتقذي بها الأعين، ولن تلبث القيثارة أن تظهر أوتارها المتناثرة فتحجبها الآذان. ولا يلبث ذلك المسمّى شعراً أن يبدو في حلّته عظاماً نخرة، لا تقوى على الهواء فتعود رفاتا سحيقاً، فاعملوا للتجديد إن كنتم صادقين على دعائم ثابتة من القديم، وإذاً يمضي أدبكم العربي المجيد في طريقه قُدُما، ويتسع لما شئتم من جديد نافع.