مجلة الرسالة/العدد 11/من أدب الجاحظ
مجلة الرسالة/العدد 11/من أدب الجاحظ
للأستاذ توفيق الحكيم
أستاذنا الكبير الدكتور طه
إني أشكر أهل الكهف الذين قادوني إليك. وإذا كان هذا هو الغرض من بعثهم في كتابي فقد حق البعث نجح. الحقيقة أن رعاية الدكتور طه أثمن ما منحني القدّيسون الثلاثة من كنوز. وأن صداقته التي أطمح إليها يوم أكون خليقاً بها هي مفتاح عملي الأدبي في المستقبل. إنه ليشق علي أن يمضي الأسبوع ولا ألقى الدكتور. فلقد وجدت في حديثه الجميل زاداً روحياً لا غنى لي عنه.
تشرفت بلقاء الأستاذ الجليل لطفي بك، ودار بيننا حديث طويل أرويه إن شاء الله عند اللقاء.
وبعد فقد كنت أقرأ الجاحظ منذ عامين فألفيت عنده كلاما كالحوار التمثيلي لم أر مثله في الأغاني. وقد بدا لي أن أنقل هذا الحوار على شكل (منظر صغير) دون تغيير في الألفاظ والمعاني. إنما سمحت لنفسي ببعض الحذف وبعض الملائمة بين وضع الحوار الأصلي والوضع المسرحي بغير أن أمس جوهر الموضوع. حتى يبقي الفضل للجاحظ وللأدب العربي، والحق إنه حوار يذكر بألفريد دي موسيه في (كوميدياته وأمثاله) أن عناصر كل نوع من أنواع الأدب والفكر موجودة عند العرب لكنها مجرد عناصر. فلماذا لا نستخرج هذه العناصر ونفصلها ونبوبها؟ لماذا لا نضع مثلا كل حوار من هذا الطراز في الشكل التمثيلي على قدر المستطاع. ونجمعه على انه نماذج تمثيلية من الأدب العربي. أو على أنه القديم بإلباسه حلّة جديدة دون تغيير للب؟ إذا صح هذا فإن مجال العمل في الأدب العربي القديم متسع. ولن تفرغ منه أجيال قادمة برمتها. والدكتور أول من بحث وحفر ونقب في آثار الأدب العربي. وأول من أدخل روح البحث والتنقيب في الجامعة. والجامعات هي ميدان لمثل هذا العمل. إذا كان الدكتور لا يوافقني على أن عناصر القصص التمثيلي موجودة عند العرب. فما تراه يقول في هذا (المنظر) وهو من تأليف الجاحظ:
الفراق المنظر: باب دار كبير، جارية كأنها قضيب يتثنى. يدنو منها شيخ ويسلم عليها فترد السلام بلسان منكسر وقلب حزين.
الشيخ: - يا سيدتي! إني شيخ غريب أصابني عطش فأمري لي بشربة من ماء تؤجري.
الجارية: إليك عني يا شيخ، فإني مشغولة عن سقي الماء وادخار الأجر!
الشيخ: يا سيدتي لأيّة علة؟
الجارية: (بعد تردد) لأني عاشقة من لا ينصفني، وأريد من لا يريدني!
الشيخ: (يتأملها) يا سيدتي، هل على بسيط الأرض من تريدينه ولا يريدك
الجارية: انه لعمري على ذلك الفضل الذي ركب الله فيه من الجمال والدلال.
الشيخ: يا سيدتي، فما وقوفك في الدهليز؟
الجارية: هو طريقه، وهذا أوان اجتيازه.
الشيخ: يا سيدتي. هل اجتمعتما في خلوة في وقت من الأوقات أم حب مستحدث؟
الجارية: (تتنفس الصعداء وتسيل دموعها على خديها كطل على ورد وتنشئ تقول):
وكنا كغصني بان وسط روضة ... نشم جنا اللذات في عيشة رغد
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطع ... فيا من رأى فردا يحن إلى فرد؟
الشيخ: يا هذه ما بلغ من عشقك هذا الفتى؟
الجارية: أرى الشمس على حائطه أحسن منها على حائط غيره، وربما أراه بغتة فأبهت وتهرب الروح من جسدي، وأبقى الأسبوع والأسبوعين بغير عقل
الشيخ: عزيز عليّ؛ وأنت على ما بك من الضنى وشغل القلب بالهوى وانحلال الجسم وضعف القوى، ما أرى بك من صفاء اللون ورقة البشرة. فكيف لو لم يكن بك من الهوى شيء؟ أراك كنت مفتنة في أرض البصرة!
الجارية: كنت والله يا شيخ قبل محبتي لهذا الغلام تحفة الدلال والجمال والكمال. ولقد فتنت جميع ملوك البصرة وفتنني هذا الغلام.
الشيخ: يا هذه ما لذي فرّق بينكما؟
الجارية: نوائب الدهر وأوابد الحدثان. ولحديثي وحديثه شأن من الشأن. وأنبئك أمري: إني كنت اقتصدت في بعض أيام النيروز، فأمرت فزين لي وله نجلس بأنواع الفرش وأواني الذهب، ونضدنا الرياحين والشقائق والمنثور وأنواع البهار. وكنت دعوت لحبيبي عدة من متظرفات البصرة فيهن من الجواري جارية شهران وكان شراؤها عليه من مدينة عمان ثمانمائة ألف درهم، وكانت الجارية قد ولعت بي، وكانت أول من أجابت الدعوة وجائتني منهن. فلمّا حصلت عندي رمت بنفسها عليّ تقطعني عضا وقرصا. . . فبينا نحن كذلك إذ دخل عليّ حبيبي. فلمّا نظر إلينا اشمئزّ لذلك، وصدف عني وعنها صدوف المهرة العربية إذا سمعت صلاصل اللجم، وعضّ على أنامله وولّى خارجا. فأنا يا شيخ منذ ثلاث سنين أسلّ سخيمته، وأستعطفه فلا ينظر إليّ بعين، ولا يكتب إليّ بحرف، ولا يكلّم لي رسولا.
الشيخ: يا هذه، أفمن العرب هو أم من العجم؟
الجارية: هو من جلّة ملوك البصرة.
الشيخ: من أولاد نيابها أو من أولاد تجارها؟
الجارية: من عظيم ملوكها.
الشيخ: أشيخ هو أم شاب؟
الجارية: (تنظر إليه شزراً): إنك لأحمق. أقول هو مثل القمر ليلة البدر أمرد أجرد، وطرّة رقعاء كحنك الغراب تعلوه شقرة في بياض. عطر اللباس ضارب بالسيف، طاعن بالرمح، لاعب بالنرد والشطرنج، ضارب بالعود والطنبور، يغني وينقر على أعدل وزن لا يعيبه شيء إلاّ انحرافه عني لا نقصاً لي منه بل حقداً لما رآني عليه.
الشيخ: يا هذه وكيف صبرك عنه؟
الجارية: (حالي معه كحال القائل):
أمّا النهار فمستهام واله ... وجفون عيني ساجفات تدمع
والليل قد أرعى النجوم مفكرا ... حتى الصباح ومقلتي لا تهجع
كيف اصطباري عن غزال شارد ... في لحظ عينيه سهام تصرع
الشيخ: يا سيدتي، ما أسمه وأين يكون؟
الجارية: تصنع به ماذا؟
الشيخ: أجهد في لقائه وأتعرف الفضل بينكما في الحال.
الجارية: على شريطة الشيخ: وما هي؟
الجارية: تلقانا إذا لقيته وتحمل لنا إليه رقعة.
الشيخ: لا أكره ذاك
الجارية: هو ضمرة بن المضيرة بن المهلّب بن أبي صفرة. يكنى بأبي شجاع، وقصره في المربد الأعلى. وهو أشهر من أن يخفى. (تصيح في الدار): يا جواري دواة وقرطاسا. .
الشيخ: يا سيدتي وجب حقك عليّ. ولزمتك حرمتي لطول وقوفي عليك، وكنت قد سألت شربة ماء. . .
الجارية: أستغفر الله! ما فهمنا عنك. (تصيح في الدار): أخرج إلينا شرابا من ماء وغير ماء (تقبل وصيفتان تحملان الدواة والقرطاس وتشمّر الجارية عن ساعدين كأنهما طومارا فضة ثم تحمل القلم وتكتب الرقعة. ثم تقبل ثلاثون وصيفة بأيديهن الكؤوس والجامات والأقداح مملوءة ماء وثلجاً وفقاعا وشرابا فيشرب الشيخ. .)
الشيخ: يا سيدتي. مع قدرتك على هذا من استواء الحال وكثرة الخدم والعبيد والجواري، فلم لا تأمرين إحدى الجواري أن تقف مراعية للغلام حتى إذا مرّ أعلمتك فتخرجين إليه.؟.
الجارية: لا تغلط يا شيخ.!
الشيخ: (يفهم مرادها ويطرق خجلاً من هفوته)!
انتهى المنظر. وكان في مقدوري أن أجعل منه فصلاً كبيراً. لكني آثرت أن أبقيه على أصله. لأن المسألة عندي هل نظهر العناصر مع بقائها على شكلها أو نتصرف بها ونستعملها كما نشاء؟ سنتكلم في هذا إذا التقينا في الأسبوع القادم.