مجلة الرسالة/العدد 110/دراسات في الأدب الإنكليزي
مجلة الرسالة/العدد 110/دراسات في الأدب الإنكليزي
2 - وليم وردزورث
بقلم جريس القسوس
المتاخمون -
وعلى أثر هذه الهبة أخلد وردزورث إلى السكينة في بيته الجديد في (راسيدوم لودج) في مقاطعة دور تشاير منقطعا عن العالم وعاكفا على المطالعة والإنتاج، وفي بيته هذا نظم مأساته الشعرية المشهورة (المتاخمون)، وقد ضمنها خلاصة عقيدته التي أقتبسها من (وليم فودون) وفيها يدعو إلى حل الشرائع والسنن الاجتماعية وهدم الفروق بين الطبقات البشرية والمناداة بتأسيس هيئة اجتماعية جديدة شعارها المساواة والديمقراطية، أما تأسيسا فعن طريق الدعاية والجدل، لا عن طريق العنف والشدة كما كان يؤمن في بدء حياته. ولعل هذه الفلسفة أقرب ما تكون لمبدأ الشيوعية الجديدة. بيد أن وردزورث لم يطل تمسكه بهذه العقيدة بل نبذها حالما تحقق صعوبة نجاحها وتنفيذها
كولردج ووردزورث
كان كولدرج الشاعر الشهير يقطن في بيت قريب من مسكن شاعرنا، فلما علم بوجود ناظم (المقطعات الوصفية) في جواره رأي أن يزوره. ولما التقيا كان أول ما فعلاه أن تبادلا قراءة منظوماتهما وخصوصا (الكوخ المتهدم) أو (مرغريت) وقد ضمت مؤخرا إلى قصيدته المشهورة (النزهة والمتاخمون لوردزورث ومأساة أوساريا لكولردج
ولقد كتبت دوروثي رسالة إلى أحد أصدقائها تقول فيها: (لقد كانت خسارتك عظيمة في عدم مشاهدتك كولردج. إنه لرجل عظيم حقا، ولا ينطق إلا بحديث طلي عذب يشف عن سمو روحه وقوة إدراكه، وإنه لأسود الحاجب صلت الجبين) وعلى أثر زيارة كولردج له كتب عنه يقول: (أنني لأستصغر نفسي إذا ما قورنت به). وفي رسالة له يشير إلى دوروثي بأنها (امرأة حقا، وتتجلى أنوثتها في طبيعتها وفي روحها وعقلها. هي ساذجة الطبع، قوية العاطفة عفيفة النفس، ذات عين ثاقبة دقيقة الكشف والملاحظة). ويقو وردزورث عن صديقه كولردج: (لم أر مثيلا بين الرجال)
فلا غرو إذن أن نجد شاعرنا وشقيقته بعد تبادل مثل هذه العواطف مع كولدرج ينزحان إلى قرية صديقهما غب زيارته لهما بشهر. هناك وجد كل منهما له في الآخر مكملا. فبينا كان كولدرج رجل خيال وأحلام، كان وردزورث شاعر الطبيعة والحقيقة. وليس أحوج من المصادقة بين الشعراء إلى التباين في الأهواء والأذواق الأدبية والفنية
وما كاد يستتب أمرهما حتى شرعا في مراسلة (نيو منثلي مقزين)، فساهما في نظم قصة موضوعها (الملاح القديم أما مصدر هذه القصة فهو حلم قصة عليهما أحد الأصدقاء فرأيا أن يحوكاه في قصة شعرية. غير أنهما عدلا عن الاشتراك في نظمها لما لقياه من المشقة في اقتسام مواضيعها الرئيسية. فقد قررا أولا أن ينظم وردزورث الأجزاء التي تتجلى فيها الأشياء والحوادث عادية مألوفة، وأن يقتصر كولردج على ما يعتمد فيه على الخيال الرائع والتصوير الشائق. ولالتباسهما في التمييز ما بين هذين النوعين من الفن آثر كولدرج أن يختص بنظمها وحده، ففعل ذلك بعد أن نظم وردزورث بضعة أبيات منها. ويعزى إلى وردزورث استنباط الطائر الميمون أحد أبطال هذه القصة. أما الفلسفة التي تتضمنها هذه القصة فهي أن يحب الإنسان ما على الأرض على السواء حيوانا كان أو إنسانا أو جمادا، ما دامت كلها من خلقه تعالى
ولقد عزم الشاعران على دراسة اللغة الألمانية والإلمام بثقافتها ذريعة إلى تفهم فلسفتها الغنية. لهذا قررا السفر إلى ألمانيا، بيد أن أحوالهما المادية كانت مضعضعة إلى حد رأيا معه أن يسدا عوزهما عن طريق النشر. لهذا أصدرا في سبتمبر 1798 مجلدا جامعا لأشعارهما أسمياه (قصص شعرية غنائية) ولم يكن لكولدرج فيه غير ثلاث قصائد إحداها (الملاح القديم) ولسوء الحظ لم يصادف الكتاب رواجا كبيرا في بدء الأمر، كما يظهر من رسالة بعثت بها سار زوج كولدرج إليهما بعيد سفرهما إلى ألمانيا تقول فيها من ضمن ما كتبته لهما (لم يلق الكتاب الإقبال المرجو)
سافر الشاعران ودوروثي إلى ألمانيا مخلفين زوجة كولدرج وأطفالها في رعاية بول أحد أصدقائهم. وقد رأوا أنهم بانفصالهم يقلون من المحادثة باللغة الإنكليزية ويكثرون من ممارسة اللغة الألمانية، لهذا قصد كولدرج راتزبرج ليقضي هناك بقية الشتاء؛ أما وردزورث وشقيقته فآثرا البقاء في مدينة غوسلار حيث نظم قصائده في (الطفولة الإنكليزية). ولم يستفد وردزورث من هذه السياحة بقدر ما استفاده صديقه كولدرج، فقد أصبح كولدرج قادرا على النطق باللغة الألمانية كأبنائها، وعلى أثر رجوعه من ألمانيا ترجم كتاب (ولنشتين) للفيلسوف شيلر. إلا أن إلمام وردزورث اليسير بهذه اللغة لم يكن بعيد الأثر في حياته الأدبية. رجع وردزورث وشقيقته من ألمانيا يحدوهما الشوق والحنين إلى أرض الطفولة، وكان ذلك في ربيع سنة 1799، وفي طريقهما عرجا على سوكبرن ليزورا أصدقاءهما آل هتشنسن. وما كاد كولدرج يسمع بذلك حتى لحق بهما إلى سوكبرن في صيف تلك السنة
في إقليم البحيرات مرة ثانية
وفي هذه الزيارة أتيح لوردزورث أن يرود هو وكولردج ودوروثي وبعض الأصدقاء إقليم البحيرات مرة ثانية، وخصوصا مع عصبة كهذه دأبها التأمل، وفي حين اكتملت فيه عقلية وردزورث وأرهف حسه للتشبع من جمال الطبيعة في هذا الإقليم الذي ألفه منذ صباه. وإقليم البحيرات من أجمل البقاع في بلاد الإنكليزي على الإطلاق، وهو يقع على حدود سكوتلندا في مقاطعتي وستمولند وكمبولند حيث ولد شاعرنا. وفيه نحو ست بحيرات متقاربة، تحيط بها جبال شاهقة وتطوقها مناظر طبيعية رائعة. في هذا الإقليم قضى كل من كولدرج وسذي قسما من حياته، وفي هذا المحيط نشأ شاعرنا وترعرع، فلا غرو إذا أمه بعيد رجوعه من ألمانيا. ولاستطابته المقام والعيش في هذه البقعة استأجر فيها بيتا سماه (كوخ الحمامة). وفي القسم الأول من قصيدته (المعتزل صورة رائعة لحياةأولئك الأدباء في ذلك البيت. ولقد ذاع صيت هذا الإقليم واشتهر باشتهار أصحابه الشعراء ورواده الأدباء فأصبح ولا يزال محجة لأهل الأدب والفن يقصدونه من جميع الأقطار الأوربية ليتعرفوا إلى البقعة التي خلدت أسماء شعراء البحيرة وخلدت في أشعارهم. وجعل مؤخرا من بيت وردزورث ورفاقه متحفا أودع فيه كل ما خلفه من آثار تظل تدل عليه وتنطق بنبوغه على مدى الأيام. ولقد وضع وردزورث سنة 1810 مقدمة لكتاب (مناظر منتخبة من كمبرلند) لولكنسن، وهو وصف بارع لهذه البيئة وسكانها
في تلك البقعة أخذ نجم وردزورث يسطع في سماء الشعر إذ ثم شرع ينظم قصائده الخالدة التي تعد فتحا جديدا في الأدب الإنكليزي، كيف لا وقد أتيح له أن يحتك بزهرة الأدباء في ذلك العصر كسر هتشنسون ولامب ودي كونس وسكوت وسر همفري ديفي. فكانت عصبة دأبها البحث والتأمل والتحقيق والإنتاج الأدبي. وكثيرا ما كان يقوم بنزهات قصيرة مصطحبا شقيقته دورثي وأخاه يوحنا، فيرتادون شواطئ البحيرات ويتسلقون الجبال والآكام ويهبطون الوديان والمنعرجات وشاعرنا في تنقلاته هذه كثير التأمل دقيق الملاحظة والاستقراء، فلا يفوته منظر جميل دون أن يصفه، ولا خاطر رقيق إلا ويسجله. في ذلك الإقليم أتم قصائده الكبرى التي تمثل نزعته وتشرح فلسفته، أهمها (المعتزل والفصل الأول من (النزهة (والفاتحة وفي قصائده هذه وفي غيرها من منظومات هذا الأوان تلمح روحا وثابة ونفسا نزاعة مستعصية؛ وسنقول كلمة في (النزهة) و (الفاتحة) عند الكلام على شعره
(يتبع)
جريس القسوس