مجلة الرسالة/العدد 110/شاعرنا العالمي

مجلة الرسالة/العدد 110/شاعرنا العالمي

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 08 - 1935


8 - شاعرنا العالمي

أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

عقيدته الدينية والسياسية: كان لنشأة أبي العتاهية بالكوفة أثر في عقيدته الدينية والسياسية، فقد كانت الكوفة مهد التشيع للعلويين من يوم أن اتخذها علي رضي الله عنه عاصمة خلافته، وآثرها بذلك على المدينة التي كانت عاصمة الخلافة قبله، فنشأ بها أبو العتاهية متشبعا بمذهب الزيدية البترية، لا يتنقص أحدا ولا يرى مع ذلك الخروج على السلطان؛ وكان مجبرا، يقول بالتوحيد، ويزعم أن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء، ثم بنى العالم هذه البنية منهما، وهو حادث العين والصنعة لا محدث له إلا الله تعالى، وسيرد الله كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعا؛ وكان يذهب إلى أن المعارف واقعة بقدر الفكر والاستدلال والبحث طباعا، ويقول بالوعيد وتحريم المكاسب. ولما ظهر الخلاف في خلق القرآن كان ممن يقولون بخلقه، وقد حدث أبو شعيب صاحب أبن أبي دؤاد قال: قلت لأبي العتاهية: القرآن عندك مخلوق أم غير مخلوق؟ فقال: أسألتني عن الله أم عن غير الله؟ قلت عن غير الله، فامسك؛ واعدت عليه فأجابني هذا الجواب حتى فعل ذلك مرارا، فقلت له مالك لا تجيبيني؟ قال: قد أجبتك ولكنك حمار

فهذه هي عقيدة أبي العتاهية لا شيء فيها مما ينسبه إليه بعضهم من الزندقة، وإن كان يخالف فيها المعروف من مذهب الجماعة، ولكن بني العباس كانوا قد نقضوا ما اتفقوا عليه مع بني علي قبل قيام دولتهم، من جعل الأمر شورى بينهم، فاستأثروا به لأنفسهم، وثار بذلك بنو علي عليهم، وتحركت نفوس كثير من العلماء ووجوه الناس لنصرتهم، فلم ير بنو العباس حيلة تنفعهم في ذلك إلا أن يأخذوهم باسم الدين، ليخدعوا به العامة، ويرهبوا به الخاصة، وأحدثوا في ذلك ما لا يعرفه الإسلام من التجسس على الناس في أمور عقائدهم؛ وقد أمر الإسلام أن يؤخذ الناس في ذلك بما يظهر منهم، وأن يترك باطنهم لله تعالى وحده، وإنما السياسة وحدها هي التي أخذت من أخذت في ذلك العهد باسم الزندقة، والدين بريء من هذه الدماء التي سفكت بالشبهة واستبحت بالظنة

فما انتقل أبو العتاهية من الكوفة إلى بغداد، وعرف العباسيون أخذه بالتشيع لأبناء علي، حتى أسترابوا به، وأحاطوه بجواسيسهم الذين بثوهم في الناس لإرهابهم بإلصاق تهمة الزندقة بهم، إذا رأوا فيهم ميلا إلى أعدائهم، فعاش أبو العتاهية في بغداد تحوم حوله هذه الشبهة من أجل تلك الغاية السياسية، واغتر بها بعض الناس فطعنوا بها في عقيدته، وهو أبعد الناس من تلك التهمة الشائنة؛ وقد أمكنه مع هذا أن يقوم بتلك الدعاية الشعرية التي فهم العباسيون غرضه السياسي منها، وأنه يقصد محاربة دولتهم بذلك السلاح الذي أعياهم أمره، وجعل يفتح أعين الناس إلى عيوبهم فلا يعرفون كيف يكسرونه من غير أن يفتضح أمرهم، ولم يجدوا إلا أن يداوروا في أمره، ويأخذوا صاحبه بالشدة مرة وباللين أخرى، ويشككوا الناس في أمر عقيدته ليضعف أثر شعره فيهم، ولا يصل إلى ما يريده منهم، فكانت محاربة بارعة من الجانبين، قام فيها الدهاء السياسي مقام السيف، وأدى فيها أبو العتاهية رسالته الشعرية بدون أن يمكن سيف العباسين من رقبته، وعملوا هم على إفساد غايته بدون أن يفضحوا أمرهم أمام الناس بسفك دمه لأنه ينشر فيهم تلك الدعاية المحبوبة، ويحاول إصلاح نفوسهم بالزهد الذي بعدوا عنه كل البعد، وشغفوا بدنيا العباسيين كل الشغف، وإنا نسوق بعد هذا بعض ما كان يلقاه أبو العتاهية في ذلك لنعرف كيف كانوا يتكلفون إلصاق تلك التهمة به

ذكر النسائي عن محمد بن أبي العتاهية أنه كان لأبيه جارة تشرف عليه، فرأته ليلة يقنت فروت عنه أنه يكلم القمر، واتصل الخبر بحمدويه صاحب الزنادقة، فصار إلى منزلها ليلا وأشرف على أبي العتاهية فرآه يصلي، فلم يزل يرقبه حتى قنت وانصرف إلى مضجعه، وانصرف حمدويه خاسئا

ومن من كان يشنع على أبي العتاهية بهذا رجاء بن سلمة ومنصور ابن عمار، وقد حدث العباس بن ميمون عن رجاء قال: سمعت أبا العتاهية يقول: قرأت البارحة عم يتساءلون، ثم قلت قصيدة أحسن منها. قال وقد قيل إن منصور بن عمار شنع عليه بهذا. ولما قص منصور على الناس مجلس البعوضة قال أبو العتاهية إنما سرق منصور هذا الكلام من رجل كوفي، فبلغ قوله منصورا، فقال أبو العتاهية زنديق، أما ترونه لا يذكر في شعره الجنة ولا النار، وإنما يذكر الموت فقط، فبلغ ذلك أبا العتاهية فقال فيه:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً ... إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها كالملبس الثوبَ من عرى وعورته ... للناس بادية ما إن يُواريها

فأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه ... في كل نفس عماها عن مساويها

عِرفانُها بعيوب الناس تُبصرها ... منهم ولا تبصر العيب الذي فيها

فلم تمض إلا أيام يسيرة حتى مات منصور، فوقف أبو العتاهية على قبره وقال: يغفر الله لك أبا السرى ما كنت رميتني به

وحدث الخليل بن أسد النوشجاني قال: جاءنا أبو العتاهية إلى منزلنا، فقال زعم الناس أني زنديق، والله ما ديني إلا التوحيد، فقلنا له فقل شيئا نتحدث به عنك، فقال:

ألا إننا كلُّنا بائد ... وأيُّ بني آدمٍ خالدُ

وبدؤهم كان من ربهم ... وكلٌّ إلى ربه عائد

فيا عجبا كيف يُعصي الالـ - هـ أم كيف يجحده الجاحد

ولله في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد

وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد

وحدث محمد بن أبي العتاهية قال: لما قال أبي في عتبة:

كأنما عتبة من حسنها ... دُمية قَسٍّ فتنت قَسها

يا رب لو أنسيتنيها بما ... في جنة الفردوس لم أنسها

شنع عليه منصور بن عمار بالزندقة، وقال يتهاون بالجنة ويبتذل ذكراها في شعره بمثل هذا التهاون. وشنع عليه أيضا بقوله:

إن المليك رآك أحـ - سن خلقه ورأى جمالك

فحذ بقدرة نفسه ... حورَ الجنان على مثلك

وقال أيصور الحور على مثال امرأة آدمية والله لا يحتاج إلى مثال، وأوقع له هذا على ألسنة العامة فلقي منهم بلاء

ولا تخفى سماجة هذا النقد، وأن الدين لا يصل في الحرج على الشعراء إلى هذا الحد، وأين ابن عمار في هذا من عبد الملك بن مروان وقد اجتمع ببابه عمر بن أبي ربيعة وكثير عزة وجميل بثينة، فقال لهم أنشدوني أرق ما قلتم في الغواني، فأنشده جميل:

حلفت يميناً يا بثينة صادقا ... فان كنت فيها كاذبا فعميتُ إذا كان جلد غير جلدك مني ... وباشرني دون الشِّعار شربتُ

ولو أن راق الموت يرْقى جنازتي ... بمنطقها في الناطقين حييتُ

وأنشد كثير:

بأبي وأمي أنت من مظلومةٍ ... طَبِنَ العدوُّ لها فغير حالها

لو أن عزَّة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها

وسعى إليَّ بصرْم عزة نسوةُ ... جعل المليك خدودوهن نعالها

وأنشد ابن أبي ربيعة:

ألا ليت قبري يوم تقضى منيتي ... بتلك التي من بين عينيك والفم

وليت طهوري كان ريقك كلَّهُ ... وليت حنوطي من مُشاشك والدَّم

ألا ليت أم الفضل كانت قرينتي ... هنا أو هنا في جنة أو جهنم

فقال عبد الملك لحاجبه: أعط كل واحد منهم ألفين، وأعط صاحب جهنم عشرة آلاف. ولكن هذا عصر وذاك عصر، والناس في كل عصر دين ملوكهم، وإذا كان العباسيون قد تغالوا في أخذ الناس بالزندقة في عصرهم، فلماذا لا يتغالى ابن عمار وغيره في ذلك أيضا؟

عبد المتعال الصعيدي