مجلة الرسالة/العدد 113/الدكتور محمد إقبال

مجلة الرسالة/العدد 113/الدكتور محمد إقبال

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 09 - 1935



أكبر شعراء الهند المسلمين في العصر الحاضر

(إن صوتي قد أوقد النار القديمة في بلاد إيران ولكن العرب

لا يعرفون شيئاً عن نغماتي الشجية)

(إقبال)

بقلم السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي

شدا صديقنا المفضل الشاعر الفيلسوف الدكتور السر محمد إقبال بهذا البيت في ديوانه (بيام مشرق) (أي رسالة الشرق) منذ ثلاث عشرة سنة، ولكنه لم يسمع صدى المعرفة الحقيقة (لنغماته الشجية) من العرب إلى اليوم. وثلاث عشرة سنة مدة طويلة. لأن الشيء إذا مر عليه زمن قليل يقال إنه مضى ودخل في ذمة التاريخ، وليس كل ما دخل حصن الماضي نال رعاية التاريخ. لأن مخالب التاريخ الحديدية لا تقتطف إلا ما هو مؤثر مباشرة في الحوادث المادية ولا تهتم بوجود الكائن الحي بنفسه أياً كان، ولكن هناك أشياء خارجة عن وصول مخالب التاريخ ومؤثرات الزمن مع كونها مؤثرة في الحوادث المادية. وتلك الأشياء هي الحقائق الملهمة، ومنها الشعر أو (النغمات الشجية) كما عبر الدكتور. فالحقيقة الملهمة شيء خالد بعيد المرام عن تلاعب الزمن، وعزيز المنال من مخالب التاريخ، تظمأ الحياة الإنسانية إلى مناسمته في كل زمان، وتتطلع إلى مؤانسته في كل مكان

وعلى هذا أريد أن أعرف إخواني الناطقين بالضاد بتلك (النغمات الشجية) وأن أكون على الأقل ترجماناً لها إن لم أكن راوية، فأقدم اليوم إليهم على صفحات (الرسالة) ترجمة حياة الدكتور بالإيجاز، وسأتبع ذلك بحديث عن شعره وفلسفته وآرائه في نواحي الحياة المختلفة إذا وفقني الله لذلك

انحدر الدكتور السر محمد إقبال من سلالة وثنية عريقة في المجد والشرف من طبقة (بَنْدِتْ) القاطنة ببلاد كشمير في شمال الهند. و (بندت) لقب يلقب به أهل العلم والفضل من طبقة البراهمة التي هي أرفع الطبقات وأعلاها شرفاً وعلماً ونفوذاً في النظ الاجتماعي الوثني في الهند، وقد أشار الدكتور إلى ذلك إذ قال:

مرا بنكَركه درهند وستان ديكَرنمي بينى

برهمن زاده رمزآ شناى روم وتبريزاست

(انظر إلي لا تجد في الهند مثلي

من سلالة برهمن ولكنه يعرف رموز روم وتبريز)

تشرفت عائلة الدكتور باعتناق الإسلام قبل مائتين وخمس وعشرين سنة. وذلك أن أحد أجداده اتصل بولي من أولياء الله من الصوفية المسلمين فأشرب قلبه حب الإسلام فأسلم. وكان من آثار تلك الحادثة أن حسن الاعتقاد في الصوفية المخلصين لا يزال من الأوصاف المميزة لعائلة الدكتور إلى اليوم

ولد الدكتور محمد إقبال في سنة 1876 ميلادية في بلدة سيالكوت مسقط رأس فيلسوف الإسلام العلامة الشهير عبد الحكيم السيالكوتي من إقليم بنجاب في شمال الهند. فلما بلغ سن التعليم أدخله أبوه في مكتب من المكاتب الإسلامية في تلك البلدة، ومن وهبه الله الذكاء المتوقد والحذق الحاد ظهرت بوادره منذ نعومة أظافره. كذلك الدكتور إقبال فانه لم تمض عليه مدة قليلة حتى أتم دراسة المكتب فأدخله أبوه في المدرسة، وفي المدرسة أيضاً بقى مثالاً لحدة الذهن وموضع الإعجاب من جميع أساتذته. فانه لم ينتقل من فصل إلى فصل ولم ينل شهادة بعد شهادة إلا بتفوق على أقرانه وباستحقاق مساعدة مالية شهرية من قبل الحكومة جائزة لنبوغه إلى أن أتم دراسته الثانوية، وبعد إتمام الدراسة الثانوية دخل الدكتور كلية في نفس البلدة، وكان في تلك الكلية أحد كبار العلماء الدين أستاذا للغة الفارسية والعربية وهو شمس العلماء مولانا مير حسن الذي كان يشار إليه بالبنان في الأدب الفارسي والعربي فتتلمذ له الدكتور ونبغ في الفارسية كما تعلم منه العربية أيضاً. وبعد إتمام دراسة الكلية انتقل الدكتور إلى كلية الحكومة ببلدة لاهور حاضرة إقليم بنجاب ونال منها شهادة بتفوق حيث استحق مداليتين ذهبيتين والمساعدة المالية الشهرية من قبل الحكومة. وفي هذه الأثناء انتقلت خدمات المستشرق الشهير السر توماس آرنلد من كلية عليكره إلى كلية لاهور. وكان السر آرنلد هذا مشهوراً بسعة اطلاعه في علوم الفلسفة، وكان عند الدكتور إقبال أيضاً ميل غريزي إلى الفلسفة حيث لم يترك دراستها في نيل جميع شهاداته الماضية فتتلمذ للسر آرنلد. فكان السر آرنلد يعترف دائماً بذكاء تلميذه المتوقد واستعداده للفلسفة ويفتخر به إلى أن أتم الدكتور دراسة الجامعة ونال شهادة مع مدالية ذهبية

عين الدكتور بعد إتمام دراسته مباشرة أستاذاً للفلسفة والسياسة المدنية في الكلية الشرقية بلاهور ثم أستاذاً للفلسفة واللغة الإنجليزية في كلية الحكومة بلاهور. فصنف في أيام تدريسه كتاباً في السياسة المدنية باللغة الأردية. وكان الدكتور طول مدة التدريس في الكليتين حسن الصيت في العلم والفضل عند أساتذتهما، وممدوح الخلال مأثور المحامد عند تلاميذه

لم يسمح للدكتور عشقه للعلوم وطموحه إلى التوسع فيها بأن يقنع بتلك الوظيفة؛ فهجر في سنة 1905 وطنه وأقاربه ثلاث سنوات طلباً للتوسع والمزيد في الفلسفة والقانون وللتحقيقات العلمية الأخرى إلى إنجلترا والتحق بجامعة كمبردج ونال منها شهادة في فلسفة الأخلاق، ثم انتقل إلى ألمانيا والتحق بجامعة مونيخ فيها ونال منها شهادة الدكتوراه في الفلسفة، ثم رجع إلى إنكلترا والتحق بجامعة لندن ونال منها شهادة المحاماة -

إن كثيراً من طلاب الشرق حينما يذهبون إلى الغرب يجدون أنفسهم في عالم جديد لم يخطر ببالهم ولا هجس في ضمائرهم، إذ الفوضى الأخلاقية قد استحكمت عراها، والإباحية قد شيدت وطائد رباها، وأبواب المفاسد المفتوحة، ودواعي الخلاعة مسروحة. فيندفعون في تياره ويضيعون فيه أوقات فراغهم حتى أوقات أشغالهم، ولكن الدكتور لم يضع أوقاته، بل كان يستغل حتى وقت فراغه فقد سعى فيه لخدمة الإسلام بتبليغه إلى العوام، إذ ألقى في غضون قيامه في إنجلترا ست محاضرات في الإسلام بين حشد الخاص والعام. وقد منح الله الدكتور العبقرية الشاملة وأسبغ عليه جميع مزايا النبوغ، فهو ناثر بليغ كما هو ناظم مطبوع، وكاتب بارع كما هو خطيب مصقع فكان لمحاضراته رنة بين الناس ووقع حسن في أوساط العلم والأدب

وإذا كان غاية ما يبتغيه الأستاذ من تلميذه ويتمنى له، لعكوفه على تعليمه ومكابدته في تهذيب نفسه وتنوير عقله، أن يبلغ منزلة في العلم والأدب، وأن يقوم بمهمته أتم قيام، وأن ينوب عنه أحسن مناب لا يشوبه خلل، ولا يعتريه أود ولا يخالطه وهن ولا أمْت. فقد بلغ فيه صديقنا الدكتور إقبال حيث لم تبلغ الآمال والهمم، إذ الدكتور بذكائه المتوقد، وفكره الحاد، وحصافة رأيه، وطول باعه في العلوم والصناعات نال أجل مكان وأخص محل في أنظار جميع أساتذته فكانوا يتباهون به في السر والعلن، ويذكرونه فخراً في مسامرات الأدب وأندية العلم. وهذا هو الذي حفز أستاذه السر توماس آرنلد أن يفوض إليه القيام بأعمال وظيفته بجامعة كمبردج لستة أشهر عند غيابه عنها فخلفه الدكتور أستاذاً بالجامعة، وقام بالمهمة خير قيام تناقلته ألسنة المديح وناطه الذكر الجميل

رجع الدكتور من أوربا إلى الهند في سنة 1908 مزوداً بالعلوم والصناعات ومتأهباً لخدمة وطنه وأبناء دينه، فاستقبله حشد كبير من جميع الأجناس والطبقات والأديان والملل. وأقيمت في تكريمه مأدبة فاخرة ليلة وصوله إلى لاهور هنأه فيها أعيان البلد ورؤساء القوم بسلامة وصوله إلى وطنه، كما اعترف غير واحد من الشعراء والأدباء والعلماء والفضلاء بالقصائد والخطب فيها بعلمه وفضله. ومن ذلك الحين اختار الدكتور لنفسه الحياة الحرة ولم يقبل مناصب الحكومة لكي يجد مجالاً واسعاً لبحوثه العلمية، وميداناً أوسع لخدمة إخوانه ودينه. فبدأ يمارس مهنة الإرشاد القانوني للطالبين

والدكتور بنفسه رجل قنوع، نزيه، عزيز النفس؛ يقنع بالكفاف ويرضى بالميسور، كما عبر عن ذلك في بيت من ديوانه: (رسالة الشرق) قال:

ناز شهان نمى كشم ... زخم كرم نمى خورم

درنكَراى هوس فريب ... همت اين كَداى را

(أنا لا أتحمل دلال الملوك، ولا جرح الإحسان

يا من انخدعت بالطمع! انظر إلى همة هذا الفقير)

فقد رفض غير واحد من مناصب الحكومة التي قدمت إليه وآخرها منصب ممثل الحكومة الهندية لدى حكومة جنوب أفريقيا وهو منصب ذو مرتب باهظ وشرف عظيم

اشتغل الدكتور بعد رجوعه من أوربا في تصنيف ديوانين (أسرار خودي) و (رموز بيخودي) على الترتيب باللغة الفارسية. فنالا إعجاب الجميع من ذوي الفضل والعلم، وترجم الأول الدكتور نكلسن إلى الإنجليزية فذاع به صيت الدكتور في أوربا وأمريكا فمنحته الحكومة في سنة 1923 لقب (السير) اعترافاً بفضله في الشعر وطول باعه في العلوم

وفي سنة 1926 أجبره أحبابه وأصدقاؤه وأهالي لاهور على أن يرشح نفسه لعضوية المجلس التشريعي في إقليم بنجاب. فلم يقبل أولاً. فلما ألحوا عليه كثيراً قبله. فانتخب عضواً بأكثرية ساحقة. فسعى الدكتور سعياً حثيثاً لتخفيف الضرائب الفادحة عن كاهل الفلاح الهندي، ولسن قانون العقاب لكل من يطعن في شارع الدين أو أحد رؤسائه من غير دينه هو، وقد سنّ فعلاً، ولتقرير غاية الإصلاح لإدمان الخمر عند الحكومة حرمتها التامة تنفذ في مدة خمس عشرة سنة. وفي سنة 1928 أثار الدكتور في مجلس بحثاً طريفاً استوقف الأنظار، وهو هل الأراضي من ملكية الحكومة أو ملكية الشعب؟ وفي سنة 1932 عند انتقاد ميزانية الحكومة أثبت بالدلائل الناطقة والشواهد الصادقة أن الأراضي ليست من ملكية الحكومة فلا يجوز للحكومة جمع المال بالضرائب الفادحة على أراضي الفلاح

وفي سنة 1931 انتخبه الحكومة عضواً في مجلس المائدة المستديرة المنعقدة في لندن لإصلاح الهند الدستوري فسافر إلى لندن وعند الرجوع لبى دعوة المؤتمر الإسلامي بالقدس وزار مصر أيضاً وألقى على طلبي منه محاضرة قيمة فلسفية دقيقة في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة موضوعها (الإسلام كالتحول في التاريخ) باللغة الإنجليزية، ولكن من الأسف لم يقدر أحد من السامعين ولا من أركان إدارة الجمعية أن ينتقل تلك المحاضرة القيمة المفيدة إلى العربية للحاضرين أو يكتبها على الأقل وينشرها على صفحات الجرائد للإفادة

وفي أواخر سنة 1928 دعي الدكتور من قبل جمعية إسلامية ببلدة مدراس حاضرة إقليم جنوب الهند لإلقاء محاضرة في الإسلام، فلبى الدعوة، فلما وصل إلى مدراس احتفل به أهالي مدراس من جميع الأجناس والملل احتفالاً باهراً، وأقيمت في تكريمه مآدب كثيرة من قبل جمعيات مختلفة منها جمعية العلماء البراهمة وغيرها من جمعيات الوثنيين؛ ومن مدراس توجه الدكتور إلى حيدر آباد تلبية لدعوة صاحب السمو نظام حيدر آباد فمر بأمارة ميسور، وهي أمارة وثنية كبيرة في جنوب إمارة حيدر آباد، فلما وصل بنجلور بلدة من بلادها استقبله حشد كبير من الطلبة والعلماء والوجهاء، وكان بينهم رئيس الوزراء لأمارة ميسور أمين الملك ميرزا إسماعيل (وهو مسلم) فسافر معهم إلى بلدة ميسور حاضرة إمارة ميسور، ونزل ضيفاً على الأمير الوثني مهراجا ميسور، وأقيمت في تكريمه مآدب كثيرة أهمها مأدبة جامعة ميسور التي خطب فيها الدكتور، وفي هذه المأدبة خطب عالم وثني كبير وهو أستاذ الفلسفة بالجامعة فقال: (إن المسلمين مهما قالوا إن الدكتور إقبال منهم، فان الحقيقة أنه منا جميعاً، هو ليس من ملك دين واحد أو جماعة واحدة، فان افتخر المسلمون بأنه من أبناء دينهم، فلسنا نحن الوثنيين بأقل فخراً منهم بأنه من أبناء وطننا الهند). ومن ميسور توجه الدكتور إلى حيدر آباد، فاستقبله جمع غفير من جميع الأجناس والملل، بينهم أركان الحكومة وأساتذة الجامعة وطلبتها وغيرهم من ذوي الجاه والشرف، وكان طلبة المدارس مصطفين في الشوارع والمحطة ويغنون بأصواتهم الشجية (نشيد المسلم) الذي صنفه الدكتور باللغة الأردية وأوله:

جين وعرب همارا، هندوستان همارا

مسلم هين هم وطن، هي سارا جهان همارا

(إن الصين والعرب لنا، (كما) أن الهند لنا

إننا المسلمون، فالعالم كله وطننا)

نزل الدكتور ضيفاً على سمو نظام حيدر آباد وحظي بالمثول في حضرة سموه، وألقى محاضرات عديدة بالجامعة العثمانية بحيدر آباد، ثم توجه من حيدر آباد إلى الجامعة الإسلامية بعلي قره تلبية لدعوتها، فألقى فيها أيضاً غير محاضرة؛ وجميع هذه المحاضرات التي ألقاها في مدراس، وحيدر آباد، وعلي قره، ست تحتوي على أعمق الأفكار وأدق المعاني، في فلسفة دين الإسلام، وقد سعى الدكتور فيها لتشكيل علم الكلام الجديد على ضوء الفلسفة الحديثة، وقد نشرت في شكل كتاب ونحن مستعدون أن نتحف قراء الرسالة بشيء منها لو تحملوا جفاف الفلسفة في جنب حلاوة الأدب

وفي سنة 1933 دعا الدكتور المغفور له جلالة الملك نادر شاه خان ملك أفغانستان مع عالمين كبيرين هنديين وهما الافوكاتو السيد راس مسعود رئيس الجامعة الإسلامية بعلي قره، وصديقي صاحب الفضيلة الشيخ السيد سليمان الندوي من كبار علماء الدين للاستشارة في تأسيس جامعة بكابل، وفي أمور تعليمية أخرى. فلبى الدكتور الدعوة، وفي هذا السفر صنف الدكتور ديوانه المسمى (مسافر) باللغة الفارسية وفي سنة 1934 سافر الدكتور لزيارة البلاد الإسلامية في المغرب ولمشاهدة الآثار الإسلامية في الأندلس وصنف في هذا السفر ديوناً باللغة الأردية مسمى (بال جبريل) وفي أواخر نفس السنة دعي الدكتور إلى إنجلترا لإلقاء محاضرات في فلسفة الدين في سلسلة محاضرات هيبرت فلبى الدعوة

هذه هي ترجمة حياة الدكتور بالاختصار وموعدنا بالحديث عن شعره المقال الآتي إن شاء الله.

السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي