مجلة الرسالة/العدد 113/في الكتب

مجلة الرسالة/العدد 113/في الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 09 - 1935



ما كنت أتمنى أن أقرأ

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

ليس أكثر من الكتب في الدنيا، ولعلها الشيء الوحيد الذي يزيد ولا ينقص، ولو أن ما كتبه الناس من أقدم العصور التي بقى لنا منها أثر - ودع ما نقل بعضهم عم بعض - جمع في مكان واحد، لملأ المدينة واسعة كالقاهرة ومعها ضواحيها التي تزحف بها على الريف من ناحية، وعلى الصحراء من نواح، وليس أشد شرها ممن يستقل ذلك، أو لا يرى فيه غناء، وهنا موضع التحرز أو التنبيه إلى وهم قد يسبق إلى بعض الأذهان، فما أعني أن في الموجود من الكتب ما يغني عن الاستزادة أو يصدّ عن التطلع؛ أو ما يكتفي به العقل الإنساني عن المضي في البحث والتقصي، وإنما أعني أنه حسب من شاء أن يقرأ، فما يتسع عمرٌ - مهما طال - للإلمام ببعض هذا الموجود من ثمار العقول، ولو أن أعمار الذين لا خير فيهم أضيفت إلى عمر الواحد منا (!!) وزيدت عليه، لما كانت كافية لتحصيل ذلك كله، ولكني، مع ذلك، أراني أحياناً - وأنا جالس بين ما بقى لي من كتبي - أتحسر وأتمنى: أتحسر لأن مطبوعاً من هؤلاء المؤلفين، على الشعر، أبى إلا أن يكون جاهلا نفسه، وتوهم أنه ناقد أو فيلسوف أو غير ذلك، وذهب يكتب. أو أن كاتباً فذاً غالط نفسه فراح يقرض الشعر، ويجئ بالغث ويحسب أنه صنع شيئاً، وأتمنى لو أن بعضهم نظم قصيدة في معنى يخطر لي، وأراه كان أقدر على صوغه، أو وضع كتاباً في بحث معين، أو كتب قصة مثلا، أو أردف ما كتب بشرح ما يعني، كأنما كل هذه الكتب لا تكتف ولا تقنع!

وأتساءل أحياناً - لو أن أبا العلاء لم ينظم أكثر سقط الزند وبعض اللزوميات، وزادنا من مثل رسالة الغفران، أكان هو ينقص شيئاً أم كان يزيد؟؟ وهل كنا نحن القراء نخسر أم نكسب؟؟ كنا نربح فيما أعتقد، ولم يكن يضيع علينا شيء من نظمه لا نهمله الآن، ولكن أبا العلاء غلط وآثر التكلف، ليرضي غروره، وليتعزى أيضاً بإظهار اقتداره. وإنه لفحل عظيم، وما يطيب لي أن يظن أحد أني أغمطه أو أنزله دون منزلته، وإني لأعلى به عيناً من أن يخطر لي أن في وسعي أن أظلمه، ولكني كنت أود لو زادنا من مثل الرسالة، و يقيني أنه لو كان فعل، لبلغ الذروة واستولى على الأمد

ويؤسفني أحياناً أن الجاحظ لم يكتب قصة. أما لو كان فعل!؟ أين بين كتاب العرب، من كان أقدر على ذلك منه، وأولى بأن يكون أبرع فيه، وأسحر وأفتن؟؟ من له مثل قدرته على الكتابة ووفاء التعبير بلغته؟ من له مثل فطنته ونفاذ نظره، وفكاهته، وحسن تأتيه، ولطف مداخله، وحذقه في التناول والعرض، ودقة في فهم الناس واستبطانهم، والإحاطة بجوانبهم المتخلفة، والتفطن إلى نواحي الجد والهزل فيهم، وإلى مبلغ اختلاط هذا بذاك، وإرباء ذاك على هذا؟؟

أوليت الجاحظ كان مصوراً!؟ أترى كان يستطيع - لو ساعفته الأحوال وتاحت لذلك فرصة - أن يحول مواهبه إلى هذه الجهة؟؟ أكان يسعه أن يسخر قدرته اللفظية على البيان إلى قدرة من نوع آخر، على الأداء، فيثبت ما يريد على اللوح ويدعه، وهو ساكن لا حركة فيه ولا تتابع للحظاته ومناظره، ينطق بما حمله من المعاني؟ ومن يدري؟ إن مطلب الكاتب غير مطلب المصور، وأداة هذا غير أداة ذاك، وأقل ما بينهما من الفروق ووجوه الاختلاف أن الكاتب يقوم أسلوبه على الحركة والتعاقب، وأن المصور لا يسعه إلا أن يثبت لحظة ويعرضها ساكنة، والسكون لا ينفي التعبير والنطق، وقد يكون أنطق وأبلغ في نطقه من الكلام. فهل كان بيان الجاحظ - وهو فيض لا تصده السدود - يستطيع أن يحتمل الحصر والتجمد والتجمع، والنطق بقوة الإبراز لا بفضل الانسياب أو التدفق؟ أعود فأقول، لا أدري؟

وتمنيت، وأنا أدير عيني في كتبي على رفوفها، لو أن هؤلاء الألمان الذين يتفلسفون علينا بما لا نفهم، بينوا لنا - أو لي أنا على الأقل - ماذا يريدون أن يقولوا. عجيب أمرهم والله! قرأت مرة لأحدهم - وأظنه (هجل) فما أذكر الآن بعد هذا الزمن كله - كتاباً في (فلسفة التاريخ) فخرجت منه كما دخلت، وقلت لنفسي: إما إني أنا حمار، وإما أن هذا الرجل لا يحسن العبارة عما في رأسه، ولكني أفهم عن غيره فلماذا أراني لا أفهم عنه؟؟ وكيف يعقل أن أعجز عن فهم ما أخرجه عقل إنسان مثلي؟ وكان في هذا الكتاب فصل عن المدنية الإسلامية أو عن تاريخ العرب - فقد نسيت - خيل إلى أني فهمت أقله، ودارت الأيام، ووقع في يدي كتاب لرجل أمريكي اسمه (دريبر) عن المدنية ونشوئها، يكتب كما يكتب خلق الله - لا الألمان - فإذا فيه فصل طويل عن العرب يعد تطبيقاً لنظرية هجل التي لم أفهمها، فسألت نفسي: لماذا لم يكتب هجل كما يكتب هذا الرجل؟؟ ثم عدت أسألها وأتعجب: لماذا فهم (ديبر) عن (هجل) ولم أفهم أنا عنه؟ وأسأت الظن بنفسي واعتقدت أن بي نقصاً في التدريب العقلي، وراجعت (هجل) وكررت إلى هؤلاء الألمان المعوصين كرة المصمم المستميت، ولكن مضغ الجلاميد أعياني، فنفضت يدي منهم - ومن نفسي - يائساً، وقلت: يا هذا، لقد صدق القائل: كل ميسر لما خلق له، وأنت لم تخلق لتقرأ فلاسفة الألمان، فارجع عنهم، وانج بنفسك منهم

ولست أعرف أن للمتنبي نثراً، وإن شعره لحسبه، فما يحتاج بعد أن قال هذا الشعر أن يصنع شيئاً آخر، أو يجشم نفسه جهداً في باب غيره، ولكني مع هذا أحس بحسرة لأنه لم يشأ أن يترك لنا كتاباً عن مقامه في مصر ورحلته إلى (الأستاذ) كافور! ألا يشعر القارئ معي أن كنوز الأدب العربي ينقصها هذا الكتاب من قلم المتنبي في (كافور)؟ يا لها من تحفة نادرة، ضن بها علينا المتنبي؟؟ أتراه لم يخطر له هذا قط؟ فماذا كان يصنع يا ترى حين لا يعالج النظم؟؟ لقد كان مقلا، وليس ديوانه الذي خلفه بالذي يستنفذ عمر مثله أو جهده، فلماذا يا ترى لم يشغل فراغه الطويل بالكتابة؟ أكان الكلام الجيد لا يؤاتيه إلا منظوماً، لأن عواطفه لا تتدفق إلا على لحن؟ وخواطره لا تنتظم أو تتسق إلا على النغم؟ ربما

وينقص الأدب العربي - في رأيي - اعترافات رواته، فقد ملأوا عالمه بالدخيل والمنحول والمخترع؛ وتركوا لنا نخل ذلك كله وغربلته، فليت واحداً منهم كانت له جرأة (روسو) إذن لارتفعت عن الباحثين تكاليف ثقيلة، ولاستغنوا عن هذه الغرابيل التي لا نراها تغربل شيئاً، ولأمكن أن تنفق الأعمار التي تضيع في هذا البحث، فيما هو أجدى. لو أن الرواة كتبوا اعترافات لخلفوا لنا قصصاً من أمتع ما في الآداب، غربيها وشرقيها، ولكشفوا لنا عن خصائص، نفسية وعقلية، ينفع الناس العلم بها، ولتسنى أن نعلل هذه الفوضى التي أغرق فيها الرواة أدبنا، ولاسيما القديم منه. ومن الذي لا يشتاق أن يعرف لماذا كان الواحد منهم ينظم الأبيات ثم يحشرها في قصيدة لشاعر قديم، أو يخترع القصة أو النادرة ويعزوها إلى هذا أو ذاك من الأولين، ويصر على أن الأمر حق وأنه صادق، ويزعم أنه أخذ ذلك عن فلان وعلان، أو تلقفه من أفواه البدو الضاربين في الصحراء؛ والغريب من أمرهم أنهم ينزلون عن مزية كبيرة في سبيل مزية أصغر منها، ذلك أن اختراعاتهم وتصنيفاتهم تدل على خصب في القريحة، وعلى قوة الخيال ونشاطه، بل على وجود ملكات كافية لأن يكون الواحد منهم شاعراً مجيداً أو قصاصاً بارعاً؛ ولكنهم يزهدون في ذلك، ويظلمون أنفسهم، ويقنعون بأن يكونوا رواة فحسب؛ أي حفاظاً ليس إلا؛ أي خزانة مفتاحها في لسانهم؛ وأغرب من ذلك أنهم لو قنعوا بما حفظوا، وتوخوا الأمانة في الحفظ والرواية، لعدوا علماء، ولكانوا محل الثقة والاطمئنان؛ ولكنهم يأبون لأنفسهم منازل الكرامة، ويروحون يزورون ويفترون ويلفقون، ويظهرون في ذلك من الحذق والبراعة ما لو أظهروا بعضه في غيره لرفعهم مقاماً عالياً. فلابد أن يكون هناك عوج في طباعهم والتواء في عقولهم يزينان لهم الطريق الذي سلكوا، ويعدلان بهم عن المنهج الأقوم، ويغريانهم بإهمال مواهبهم، أو سوء استخدامها

وعلى ذكر الاعترافات أقول إني لا أحب أن أقرأ اعترافات لذلك النواسي الفاجر، وليس هو بأفجر من سواه من أصحابه في زمانه، ولكنه أظهرهم لأنه أعلاهم لساناً وأقواهم بياناً، ومثل سيرته لا يزيد الناس فهماً للحياة وحسن إدراك لها، وما في الأمر إلا أنه كان أجرأ فلم يكتب نقائصه، كما يفعل غيره، ولم يحاول أن يستتر لما ابتلى، ولولا أنه شاعر لما شغل بقصصه أحد، والشهرة هي التي جنت عليه فأبرزت جانب السواء والاستهتاك من حياته، ولولا ذلك لكان شأنه كشأن سواه من أمثاله الذين لا يخلو منهم عصر أو شعب. فلو أنه كتب اعترافات لما كانت لها مزية يفيدها الناس، وماذا كان يمكن أن يكون في اعترافاته مما يجهله الناس، وإن كانوا لا يجاهرون بالعلم به. كل ما كنا خلقاء أن نستفيده هو صورة الحياة، كما عرفها وعاناها، فاسق عظيم

وليت دعبلاً ترك لنا مذكرات! فانه متمرد ظريف، وليس أحب إلى المرء من الوقوف على مظاهر التمرد، ولكن التمرد صنيعه في حياته، وصنيع شعره معه - أو أكثره - فلو أنه كتب مذكرات لما أعوز خصومه الحطب

لو ذهبت أذكر ما كنت أتمنى أن أجد فيه كتاباً، لما فرغت، فما لهذا آخر، فحسبي ما بينت، وليكن كإشارة الفهرس إبراهيم عبد القادر المازني