مجلة الرسالة/العدد 113/من تراثنا العلمي

مجلة الرسالة/العدد 113/من تراثنا العلمي

مجلة الرسالة - العدد 113
من تراثنا العلمي
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 09 - 1935



كتاب في البَيْزَرَة

وصف وتحليل لنسخة فريدة من كتاب مفقود، في علم ضائع،

لمؤلف مجهول

للأستاذ علي الطنطاوي

البَيْزَرَة (أو البَزْدَرَة): علم يبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث حفظ صحتها، وإزالة مرضها، ومعرفة العلامات الدالة على قوتها في الصيد، وضعفها فيه - قاله في كشف الظنون

والكلمة معرّبة، وهي من قولهم (بَيْزار) معّرب (بازْدّار) و (بازْيار)، أي حافظ البازي وصاحبه، والجمع (بيازرة) كما في التاج واللسان، قال الكُميْت:

كأن سوابقها في الغبار ... صقور تعارض بيزارها

وجاءت بالدال في قول أبي فراس:

ثمّ تقدمت إلى الفهّاد ... والبازداريين باستعداد

قال الشيخ داود الأنطاكي: وغايته اقتناص ما يشق اصطياده واللهو والرياضة، وشرح الصدور، وتسكين نحو الجذام والنقرس والمفاصل لتوالى الفرح، وسكون الغضب الخ

وقد سموه علم البزدرة (أو البيزرة)، إضافة له أشرف أنواعه وأخفها، وهي البزاة

ولخصه في (التذكرة) في مقدمة وثلاثة مباحث:

فالمقدمة في كيفية اهتداء الناس إلى اتخاذ الطيور، وأول متخذ لها، وما هو المعتبر منها

والمبحث الأول في كيفية الاستدلال على الجيّد منها باللون والصفة، وفي ذكر طرق التعليم

والمبحث الثاني في أوقات الإرسال وكيفية الصيد، واختلاف حال الطيور

والمبحث الثالث في علامات الصحة والمرض وطب الجوارح

وقد كان هذا العلم مزدهراً معروفاً أيام عز العرب وازدهار مدنيتهم، ثم ضاع فيما ضاع من تراث الأجداد، وفقدت كتبه كلها، ونسيه الناس، فلم يكد يذكره أحد ممن ألفّ في تاريخ الثقافة الاسلامية، ولم بيقى بين أيدينا من المراجع في هذا العلم إلا هذا الفصل الذي كتبه الشيخ داود الانطاكي في كتابه تذكرة أولي الألباب وكلمة في كشف الظنون للحاج خليفة لا تعدو الأسطر الثلاثة، نقلا عن جامع السعادة لكاشكري زاده، وكلمة في مُعْلم (دائرة معارف) البستاني تحت عنوان: بزدرة

على أن للمتقدمين كتباً كثيرة في هذا العلم عدّ منها أبن النديم في الفهرست: كتاب الجوارح لمحمد بن عبد الله بن عمر البازيار، وكتاب البزاة للفرس، وكتاب البزاة للروم، وكتاب البزاة للترك، وكتاب البزاة للعرب، وكتاب البزاة واللعب بها لأبي دلف العجلي وسماه أبن خلكان كتاب البزاة والصيد

ومن الكتب المؤلفة في هذا العلم كتاب (القانون الواضح) ذكره في كشف الظنون نقلا عن جامع السعادة لكاشكري زاده ووصفه بأنه كاف في هذا العلم ولم يسم مؤلفه

وذكر الشاعر الكبير الأستاذ الشيخ رضا الشبيبي (وزير المعارف العراقية اليوم) في مجلة المقتبس أن في الخزانة التيمورية كتاباً اسمه (القانون في البيزرة) ولعله هو

وذكر أن من كتب هذا العلم كتاب (أنس الملا بوحش الفلا) تأليف محمد بزمنكلي نقيب الجيش المصري في أواخر القرن الثامن، وهو في خزانة باريز تحت الرقم 2834، والقواعد المحبرة في البيطرة والبزْدَرَة للأنطاكي

وهناك آثار تعم الصيد بالكلاب والنبل والنشاب وهي كثيرة منها: كتاب المصائد والمطارد لكشاجم ذكره أبن خلكان في الوفيات، وانتهاز الفرص في الصيد والقنص للشيخ تقي الدين الناثري ألفه بزبيد سنة 910، ذكره الحاج خليفة في كشف الظنون وغيرها

وقد تكلم في طباع الجوارح وأحوالها كثيرون منهم: الدّميري في حياة الحيوان. والقزويني في عجائب المخلوقات وغيرهما

وفي الأدب العربي أدب للصيد قائم برأسه، يعرف بالطرديات نبغ فيه جماعة منهم: أبو نواس، وأبو فراس، وكشاجم، والحلي وغيرهم

وفي سنة 1332هـ وجد الأستاذ الشيخ رضا الشبيبي بين (نفيسات آثار شعثها الإهمال، وطمسها الابتذال، منبوذة في ناحية غامضة، نبذك سقط المتاع، ملقاة نالت منها الأرضة والحشرات، أضعاف ما اقتبسه منها العقول النيرات. قد علاها من الزبل وسلح الطيور ونحوها ما غير محاسنها، وأخلق كريم ديباجتها) وجد بين هذه الآثار كتاباً في البيزرة، وأول شيء في هذا الكتاب إغفال تسمية مؤلفه فيه، وأنه خالٍ من البسملة والحمدلة، عار من تقديم مقدمة قبل الشروع في المقصود، وعلة ذلك انقطاع دابر هذا الفن وأهله حتى لم تتألف من مشاهيرهم إلا طبقة محدودة. . . وليس هذا الكتاب مما ألف للإسكندر الرومي ثم نقل إلى العربية كما يظهر مما جاء على ظهره وهذا نصه: (كتاب البيزرة صنفه الحكماء المتقدمين (كذا) للملك الاسكندر الرومي؛ وهو كتاب عجيب مما يصلح بالملوك إذ لابد لكل ملك من مسير إلى صيد بأحد هذه الطيور الجوارح)، والذي أوقع الوراقين في هذا الوهم ما ورد في نحر الكتاب من أن ثقات الروم من أهل المعرفة؛ ذكروا أن الاسكندر الرومي قال للحكماء المحتفين بخدمته: (أريد أن تعرفوني بطبيعة البازي وأمراضه وعلامة كل مرض ودائه وهل طبيعته تقارب طبيعة الآدمي أم لا؟) وأنت تعلم قصور هذه العبارة عما يدعون، كيف وفي الكتاب نقل كثير عن حكماء العرب والمستعربين، ومنهم من صحب الرشيد!! فالكتاب إذن من طرائف عصر عربي راقٍ كما يظهر أيضاً من أسلوب إنشائه السهل الممتنع البليغ. ولا يبعد أن يكون مؤلفه من رجال أواخر القرن الثالث أو الرابع للهجرة. يدلنا على ذلك أن المسعودي المتوفى سنة 346 أورد في مروج الذهب عن الجوارح فصلين ترجح - بقول الأستاذ - أنهما منقولان عن هذا الكتاب باختلاف يسير

وروى لنا خبير أن في خزانة باريز كتاباً رقمه 2831 بدون اسم إلا أنه كتب على ظهره بخط غير خطه: (كتاب الجوارح والبزدرة تصنيف الفيلسوف (أبو) بكر بن يوسف بن أبي بكر أبن حسن بن محمد القاسمي القرشي العلوي الأشعري) تاريخ كتابته سنة 848هـ

فاسم هذا الكتاب طبق المحز وأصاب المفصل من الكتاب المماثل أمامي الآن، لكن لا تزال حقيقة مؤلفه مبهمة مجهولة. هذا وكتابنا جزآن أو مقالتان، في المقالة الأولى 52 باباً في تاريخ الصيد بالجوارح وتقسيمها إلى أقسامها وكيفية ترتيبها وسياستها ثم إرسالها إلى غايتها

وفي المقالة الثانية 63 باباً في أدواء الجوارح وعللها وما يتخذ لعلاجها من المركبات فجملة الأبواب 115 باباً في حجم 145 قائمة أو 290 صحيفة صغيرة مخطوطة خطاً واضحاً متأخراً، أغاليطه يخطئها العد، وفي آخره: (وقع الفراغ من كتابة هذه البيزرة نهار السبت 12 جمادى الأخرى سنة 1201 من الهجرة على يد ملامط ابن عبد الله الطرفي) اهـ.

كلام الأستاذ الشبيبي

أما الكتاب الذي أصفه اليوم فقد وقع عليه صديقنا الوراق العالم الشيخ حمدي السفرجلاني في خزانة قديمة في دمشق فعرف قدره فاشتراه. ثم كانت له قصة انتهت بأن بيع الكتاب إلى أحد المولعين بالكتب القديمة من الإفرنج وبقيت منه النسخة الفوتوغرافية التي أصفها عند الأستاذ السفرجلاني

وكتابنا - وإن لم يعرف مؤلفه - من أقدم الكتب المصنفة في هذا العلم وأجلها. فقد وضع للعزيز بالله أبي منصور نزار بن المعز معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بالله محمد بن المهدي العبيدي الفاطمي صاحب مصر والشام المتوفى في الحمام يوم الثلاثاء 28 رمضان سنة 386هـ

وكانُ مغرى بالصيد، يصيد بالحبل والجارح من الطير ويصيد بالسباع. وكان مؤلف الكتاب كما يتحدث عن نفسه من بيازرة العزيز والمقربين إليه، وكان غالباً في التشيع لا يذكر العزيز مرة إلا صلى عليه وسلم! ومن قوله وهو يتحدث عن بازٍ: (ولم أر في المدة التي لزمت فيها الصيد ومبلغها عشرون سنة إلى أن صنفت كتابي هذا في علم البيزرة مثل هذا البازي على كثرة ما رأيت منها. ولقد وصل إلينا في ليلة واحدة مائة باز من الشرق والغرب. فكم تراه يصل في كل سنة محمولاً إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه، مما لم يحمل إلى ملك قبله كثيرة وجوده، وكل ذلك أتولى تدبيره، وأمارس تضريته، والاصطياد به الخ)

وقال في آخر الكتاب:

(وقد كان مؤلف هذا الكتاب في جملة البيازرة متقدماً عليهم - لا في جملة واحد منهم لا يحسن شيئاً من البيزرة، ثم أفرده أمير المؤمنين صلى الله عليه عنهم، وله من العمر إحدى عشرة سنة، وعلمه وهو لا يملك عشرة دراهم وعليه ثواب - ثم خرج في صناعته إلى ما قد شاهده الناس وعرفوه، ورقى أمير المؤمنين صلى الله عليه منزلته إلى أن صار اقطاعه عشرين ألف دينار، وبلغ المنزلة التي لو رآها في النوم لما صدقها، فلا يخْف عن الناس ما كان فيه، وما صار إليه)

والكتاب كله من النمط العالي في إنشائه وأسلوبه، وهو مشحون بالفوائد والأخبار الأدبية، والأشعار المستملحة، والقصص اللطيفة، ويقع في 300 صفحة مكتوبة بخط قريب من النسخى، قليلة أخطاؤه، مشكول شكلاً لا يعتمد عليه دائماً، فيه إشارات خاصة كانت توضع على الحروف المهملة ثم أهملت، ومقدار المكتوب من الصفحة (18 - 10) سنتيمترا، وفيه 13 سطراً وفي آخره: (وقد وصينا بما فيه الصلاح لمن انتهى إليه وعمل به، وبالله نستعين وعليه نتوكل

تم الكتاب والحمد لله رب العالمين، كما هو أهله ومستحقه، وصلى الله على نبيه محمد خاتم النبيين، وعلى الأئمة من عترته الطاهرين الأخيار وسلم تسليماً)

وبعد ذلك ست صفحات يختلف خطها قليلاً عن خط الكتاب فيها:

باب النفقة على البيازرة وما يصل من أموال أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين إليهم في كل سنة

وباب في أحكام الصيد الشرعية وما يحل من ذلك وما يحرم في خمس صفحات في الثلاث الأخيرة منها خرم يصعب معه قراءتها وقد صرح بأن هذه الأحكام على المذهب الشيعي وعرض بالمذاهب الأخرى

وليس في أول الكتاب أو آخره ما يدل على تاريخ كتابته ولكني عثرت في وسطه على جملة مكتوبة تحت (باب ذكر ما يحتاج إليه البازي في القرنصة) بخط الناسخ هذا نصها:

(وكتب هذا الكتاب تاريخ سنة خمسمائة في شهر شوال) وإذن فيكون عمر النسخة التي نصفها أكثر من ثمانية قرون

هذا وسنعرض على القراء خلاصة أبواب الكتاب، ونماذج منه صالحة في مقالة أخرى، فقد طال بنا نفس الكلام، والله المستعان

علي الطنطاوي