مجلة الرسالة/العدد 114/إلى الأستاذ البرازي

مجلة الرسالة/العدد 114/إلى الأستاذ البرازي

مجلة الرسالة - العدد 114
إلى الأستاذ البرازي
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1935



حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني

للأستاذ صالح بن علي الحامد العلوي

قرأت ما سطره قلمكم أيها الأستاذ الفاضل في العدد 108 من الرسالة الغراء رداً عليّ وعلى الأستاذ علي الطنطاوي وما كدت أوغل في أسطره حتى أرسلت زفرة حارة تتخللها آهة من أعماق صدري لا لأنك خالفتني في رأيي أو لأنك أتيت لتدافع عن الفقه الروماني أو غيره. ولكن لتلك الروح التي تبدو من خلال سطوره، وروح الافتتان بأوربا وما تقوله أوربا والاستماتة في سبيل الدفاع عنها والفناء فيها وعدم الاستقلال أمام ما تمليه من الآراء والتقريرات، ثم الوقوف مع الإسلام بروح ميتة تزعمونها روح العدل وإنصاف البحث العلمي كما سماها لكم الشيوخ المحنكون، والحقيقة غير ذلك. ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد فقط ولكنه تعدى إلى الإزراء بالعصبية الدينية واستهجان العاطفة القومية ودعوة الشباب المسلم إلى هذا التقليد الأعمى الذي تسمونه الإنصاف لأوربا، وإلى الاقتداء بأئمة أوربا الأبرار الذين لا ينطقون عندكم عن الهوى بل عن علم وبحث وإنصاف. هذه النزعة الغالية جعلتني أرسل الآهة تلو الآهة على الشباب المسلم المتعلم منا معاشر العرب ممن يفدون على أوربا القوية المادية بقلوب فارغة وطباع فطيرة غير مجهزين من سلاح الإسلام إلا بوراثة اسمه، يأتون ليكرعوا من غمار موارد أوربا ويتشبعوا من علومها وثقافتها. فتنفحهم من فتونها وحبها وتملأ صدورهم الفارغة مما تشاء هي لا ما يشاء الآباء. فيعودون وقد تشبعوا بثقافة أوربا وأخلاق أوربا والتعصب لأوربا أيضاً. وقد يكونون مزودين من كل شيء إلا من تعاليم الإسلام والحماس للإسلام، وماذا يصنعون أمام أوربا وقد أتاهم هواها قبل أن يعرفوا الهوى؟ إن أمثال هؤلاء لا يعدون عندي إلا جرائم لآبائهم تتكرر بتكرر أنفاسهم

ووالله إننا لا نكره ذات أروبا ولا علوم أروبا ولا ثقافة أروبا وكنا نكره هذه النزفة الغالية، وهذه الثقافة الببغاوية الصورية التي يتمشدق بها بعض الشبان المتطرفين. أما علومها وأما ثقافتها الجدية وصناعاتها النافعة فإننا في مقدمة من يحبذها ويدعو إليها ولكن بعد غرس العصبية الدينية والعاطفة القومية في نفوس الناشئة حذراً من هذا الفناء وهذا الإدغام المشين

ولست أدعي انطباق كل ما قلت عليك يا حضرة مناظري الأديب! كلا! ولكني أقوله بمناسبة ما رأيته ملموساً في مقالك من نزعة الافتتان بأروبا وتقليدها ودفاعك عنها دفاع المستميت، ثم تظلمك لعلمائها بعبارات جعلتني أتخيل أننا صرنا في عصر صار فيه الشرق رب الصولة والدولة وكان الغرب على عكس ذلك، وكأنك قمت محتسباً تستعطف العالم لإنصاف الغرب الضعيف المظلوم من بني الشرق وعنت الشباب

وماذا صنعنا سوى أننا أنكرنا أن يكون الفقه الإسلامي متأثراً بالقوانين الرومانية، وأنه إذا كان بين الفقهين تشابه فليس الحكم على أن الفقه الإسلامي هو المتأثر بأولى من العكس، فأدلة الفقه الإسلامي صريحة والمستنبطون منها وهم مؤسسو المذاهب لا يجوز أن يقال بتأثرهم بالقانون الروماني إذا لم يتصلوا بالرومان ولم يعرفوا لغتهم ونشأوا ودرجوا في محيط إسلامي وفي ثقافة إسلامية محضة، ومن خطل الرأي وعدم الإنصاف أن يقال لمجرد وجود التشابه بين الفقهين إن الفقه الإسلامي هو المتأثر أو الآخذ مع فقد الدليل وتوفر القرائن على ضده، ولم لا يقول زاعمو التأثر إن هذا التشابه وليد المصادفة؛ إذا أن الدين الإسلامي أتى في أحكامه بما يوافق العقل السليم من العدل والانصاف، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح، فما أمرنا بأمر فقال العقل السليم ليته نهي عنه، ولا نهى عن أمر فقال العقل السليم ليته أمر به، هكذا وصفه بعض الصحابة، وعن هذا نشأ الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في مسئلة الوجوب بالعقل أو بالشرع والقول بالتحسين والتقبيح العقليين؛ فلا يبعد أن تكون العقول التي عنت بوضع القوانين لتحديد الحقوق وفصل الخصومات، قد صادفت بعض ما قرر الفقه الإسلامي الملازم لمطابقة العقل في قضائه وأحكامه، وقد نقلنا حكاية اختفاء القوانين الرومانية وزعم ظهورها بعد، وأن تاريخ ظهورها بزعمهم كان بعد تأسيس المذاهب وانصرام عصر أئمتها ومن المستحيل تأثرهم بشيء لما يظهر بعدُ من اختفائه، وإذا كنا رجحنا أن القوانين الرومانية هي الآخذة عن الفقه الإسلامي فلم نقل ذلك اعتباطاً ولكن ببراهين نعتقدها كافية في ذلك، وأخذ أروبا عن علوم العرب غير مجهول كما تكرره المجلات العلمية عند كل مناسبة

القول باختفاء القوانين الرومانية ثم ظهورها أما القول بأن القوانين الرومانية قد اختفت ودرست ثم ظهرت فجأة؛ فلسنا نحن منحليه وإنما قاله علماء غربيون، فقد حكى جيبون أن هذه القوانين - أي قوانين الإثنتي عشرة لوحة - بقيت إلى زمان جستنيان ثم فقدت، ونقل العلامة موسهيم الجرمني في تاريخ الكنيسة في حوادث القرن الثاني عشر في العدد 5 من الفصل الأول من القسم الثاني من الكتاب الثالث: إن الملك لوثاريوس اكتشف في افتتاح أمْلَغي سنة 1137 نسخة مجموع الشريعة الشهيرة التي كانت مجهولة على أجيال كثيرة؛ فأتى بها الملك الآن إلى مدينة بيزا. . . . الخ

ولا شك أن القوانين المعمول بها قبل ظهور هذه القوانين كانت مغايرة لها أي مغايرة كما سيأتي. وأول من ابتدع هذه الحكاية أي حكاية اختفائها واكتشافها هولود فيكوس سنة 1501م، ثم راجت هذه الحكاية وانتشرت في القرون الوسطى إلى الآن (انظر جيبون جزء 4 صفحة 555)، وقال اللورد ماكنزي في كتابه على القانون الروماني صحيفة 6 إن هذا القانون (يعني قانون الإثنتي عشرة لوحة) لم يصل إلى أيدينا وغاية معلوماتنا فيه تستند على بعض أوراق مفرقة وبعض ملاحظات تاريخية مما فقدت آثاره. . . . الخ

القوانين الرومانية القديمة

أما القوانين الرومانية القديمة؛ فهذه نماذج منها ذكرها الأستاذ عبد الجليل سعد قال: إن فقه الرومانيين الأولين كان أشبه شيء بالفصول المضحكة (انظر تاريخ الدولة الرومانية للعلامة جيبون جزء 4 صفحة 527) وذلك لأن جميع معاملاتهم كانت لا تخلو من الحركات والطقوس، وكانوا لا يفرقون بين المعاملات والأحوال الشخصية، بل كانت الصيغة المستعملة واحدة للجميع وهي ما يسمونه: (مانسيباشيو) فإذا أراد أي إنسان إجراء أي عمل قانوني سواء كان زواجاً أو بيعاً أو وصية أو غيره، فعليه أن يحضر القباني ومعه الميزان، وعليه أن يحضر الشهود الذين يشترط ألا يقل عددهم عن خمسة، وعندئذٍ يبتدئون في عمل الطقوس المفروضة؛ فيتلون بعض العبارات ويصنعون بعض الإشارات أو الحركات، ثم يمسك المشتري أو الموصى إليه أو الموهوب له قطعة من النحاس ويضرب بها في كفة الميزان ليقلد الطريقة القديمة المتبعة في وزن البدل، ثم بعد ذلك يتفوه الطرف الثاني بجُمَلٍ معلومة تدل على أنه قابل ومقر على هذا العمل (انظر ماين على القوانين القديمة صحفية 295 و305) فلم يكن إذن لدى الرومانيين القدماء عقود مختلفة تتوقف على النية، بل كان من الضروري إجراء حركات معينة، فكان الخصمان في الدعوى يتكافحان أمام القاضي، وكان المتظلم يمسك بخصمه من قفاه ويتضرع إلى إخوانه أن يساعدوه، وكان الموصي إليه لا بد وأن يخلع لباسه ويقفز ويرقص! وكان الأب هو الحاكم والقاضي في أسرته. وجميع أفرادها داخلون في ملكه يتصرف فيهم كما يتصرف الإنسان في ملكه المنقول، فله بيعهم كالعبيد سواء كانوا نساء أو رجالاً (راجع جيبون صحيفة 563 جزء 4) ولم يكن حق الملكية معروفاً لديهم على النسق الذي نعرفه، بل كان الملوك يقطعون الإقطاعاتللضباط والعساكر، وهؤلاء يجبون الخراج من أصحابها المزارعين (ماين صحيفة 265)، ومن أراد الزواج يذهب ويشتري زوجته من والدها على الصورة المتقدمة مع إحضار القباني والميزان والشهود، ثم قال: ومن يطلع على أحكام هذا القانون يجد بعضها في غاية الشدة والقسوة كمعاملة المدين المفلس، فانه كان يمهل ثلاثين يوماً وهو مسجون مكبل بالحديد والقيود والسلاسل التي لا تقل وزنها عن خمسة عشر رطلا ثم يعرض ثلاث مرات في السوق العمومي لاستجداء الأصحاب والأقارب، وبعد انتهاء الثلاثين يوماً إما أن يعدم أو يصير عبداً للدائن يبيعه ويقضي دينه، وإذا كان له جملة دائنين حق لهم أن يجزئوا لحمه قطعاً وينتقم كل منهم لنفسه بتقسيم بدنه هذا التقسيم الشنيع (انظر جيبون جزء 4 صحيفة 589 إلى600) وكانت أحكام الرومان الجنائية قاسية للغاية، فكانوا يلقون المذنب لافتراس الوحوش الكاسرة في محل يسمى: الأنفتياتر. . . الخ ما ذكره

هذا بعض ما قاله العلماء الغربيون عن الفقه الروماني القديم ومخالفته للجديد، وهو كاف - بلا شك - في خرق الإجماع الذي ادعيته عندهم يا حضرة الأستاذ على استمرار القانون المعهود بينهم من ذلك العهد، ولا نناقشك الآن في أصل احتجاجاتك بسكوت الأوربيين عن جرح القانون الروماني المعهود لديكم أو تلفيقه إلا بهذا، ولا نعيد لك ما قاله العلامة ابن تيمية، ولا أبو الوليد ابن خيره؛ فقد يكون كل كلام لا يروج لديكم إلا إذا كان عليه الطابع الأوربي، فذاك عند بعض قضاء لا يرد قائله، غير أننا سنمهلكم وننتظر حتى يأتي يوم تصيح بكم فيه أوربا الحبيبة: أن أصلحوا معلوماتكم، وغيروا مُذكراتكم، فعند ذلك تخفون لصوتها قائلين: غطى هواك وما ألقى علي بصري!

سقوط قياس القانون الروماني بالقرآن

قلت أيها الأستاذ في الصفحة 1216 من الرسالة: (إن البينات تختلف بحسب الأمور المراد إثباتها، فإذا كانت هذه الأمور غير مدونة بنفسها كالحديث الشريف فلابد حينئذ من ذكر الأسانيد وسرد الروايات، أما إذا كان المراد إثباته مدوناً بنفسه لم يعد مجال حينئذ إلى الأخذ بطريق الرواية والإسناد، وصار لا بد من التدليل عليه بنسخه الأصلية، التي وضع بها، أو بالنسخة التي أخذت من هذه، فالقرآن الكريم مثلاً لما كان قد دون في العهد الذي نزل فيه وجمعت صحفه المدونة في عهد الخليفة الأول، وانتقلت إلينا نسخ مخطوطة منه كتبت في عهد قريب من عهد نزوله، لم يلجأ إلى الرواية لثبات صحته؛ وكذلك أيضاً شأن الشرع الروماني الخ) وقلت في صفحة 1215: (لئن جاز في نظرنا لأحد من النصارى أو اليهود المتعصبين أن يجزم بأن القرآن الذي بأيدينا هو غير القرآن الذي أنزل على محمد ()، وأنه مختلف من جماعة من علماء المسلمين الحديثين، مكتفياً للتدليل على ذلك بأن يقول لنا: هاتوا دليلكم، فقد حق كذلك لصاحبي المقالين المتحمسين أن يزعما ما زعماه) فما أغناك أيها الأستاذ عن قياس القانون الروماني بالقرآن الكريم؛ وزعمك أن الاستناد في إثبات كونه هو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي نسخة المخطوطة القديمة الموجودة، لا روايته الصحيحة، فحينئذ هو عندك في نسبته إلى الشارع (كنسبة القانون الروماني المعروف إلى جوستنيان؛ وهذا تقرير لا أعلم مسلماً قاله قبلك أيها الأستاذ الفاضل، فالعمدة في إثبات القرآن الكريم ليست نسخة المخطوطة فحسب، بل المقرر حتى عند تلاميذ المدارس الابتدائية أن العمدة في إثبات القرآن الكريم إنما هو التواتر، والتواتر أقوى الأسانيد وقد تلقاه الجيل عن الجيل؛ ورواه الخلف عن السلف بالتواتر في كل عصر من عهد نزوله إلى اليوم، ولم يقل أحد بأن العمدة في ثبات القرآن إنما هي نسخة المخطوطة القديمة فقط. وكيف يقاس القانون الروماني الذي لا يعلمه إلا الأفراد من المتعلمين بكتاب يتلى في كل مسجد وزاوية، بل في كل بيت في بلاد الإسلام، وفرض على كل فرد من المسلمين تلاوة شيء منه في كل يوم خمس مرات، ذلك بعد أن حفظه الجم الغفير عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عصره، حتى ثبت أنه قتل في يوم اليمامة فقط سبعون قارئاً، وروته الألوف عن الألوف من ذلك العصر، وهكذا دواليك إلى اليوم، ولا يبلغ الطفل المسلم سن التميز إلا ويوجه لتعلم القرآن الكريم قبل دراسته لأي شيء كان

أين يكون قانون لا يعرفه إلا الأفراد من المتصدين لدراسة الحقوق من كتاب يدرسه العابد في محرابه، والتاجر في سوقه، والزارع في ريفه؛ ويشترك في تلاوته الشريف والوضيع، والذكر والأنثى من الطفل الصغير إلى الشيخ الكبير، حتى أننا لو فرضنا أن المدنية العصرية قد عمت العالم وتخللت أوساطه الرفيعة والمنحطة، وأريد أن يتلى القرآن بالمذياع على كل ذي مصحف لانفتحت عند سماعه مائة مليون مصحف في شرق الأرض وغربها، ولو أخطأ القارئ في فاتحته لرد عليه عند ذلك فوق ثلثمائة مليون صوت من أنحاء الدنيا!

هل يقاس هذا إلى ذاك إلا إذا قيست الذبالة بالغزالة؟

وقلت: أما المناقضات التي وقع فيها. . . صالح العلوي. . . فأشير منها إلى ما جاء في السطر الثاني من الجانب الأول من الصفحة الـ 781 من الرسالة، فبعد أن قال: إن الفقه الروماني اختفى ثم اكتشف ولم يظهر ولم يعمل به إلا في القرن الثاني عشر وأنه لم يكن معروفاً حتى عند الرومان أنفسهم قبل القرن الحادي عشر) وقال في السطر 22 من الصفحة نفسها (إن دعوى اختفائه أكذوبة) ثم ما لبث أن استند إلى قول العلامة سافنيه: (إن القوانين الرومانية لم تختف لأنها ظلت معمولاً بها إلى اليوم من غير انقطاع الخ

ومحصل ما نسبته إلي أيها الأستاذ أنني أؤيد دعوى اختفاء القوانين ثم اكتشافها ثم أدعي أنها لم تختف بل بقيت معمولاً بها وأستند لذلك بقول سافنيه:

هكذا شاء قلمك يا أستاذ الحقوق أن يصنع، وهكذا أراد أن يمسخ الحق ليصوره باطلاً فيقطع من عباراتي ما شاء ويصل، ولا يتورع من أن يبلع بعض الكلمات بلعاً؛ ذلك ليبني مما قلته تناقضاً

وانظروا أيها القراء ثم احكموا، أما ما قلته في السطر الثاني من الصفحة 781 فهذا نصه بالحرف: (ثم إن الفقه الروماني - على زعم أنه اختفى ثم اكتشف - لم يظهر ولم يعمل به إلا في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر بعد الميلاد، أما قبل الحادي عشر فانه لم يكن معروفاً حتى عند الرومان أنفسهم، ولا شك أن الفقه الإسلامي قد قرر وصنف الخ) فقلت هنا على زعم أنه اكتشف الخ، لأبين أن تأثير الفقه الإسلامي بالفقه الروماني غير معقول حتى على زعم أن الفقه الروماني الموجود هو القديم نفسه وأنه اختفى ثم اكتشف لأنه على هذا الزعم لم يظهر بزعمهم إلا بعد الحادي عشر وقد وجد فقهاء الإسلام وألفوا وصنفوا قبل ذلك بزمن طويل وهناك قلت: وما قيمة زعم تأثر الفقهاء بالقوانين الرومانية إذا كان مصنفو الفقهاء وأئمتهم ومنهم: مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي الخ. درسوا وألفوا وصنفوا قبل أن توجد أو تعرف القوانين الرومانية للرومان أنفسهم. أليست هذه مهزلة مضحكة؟

وقلت إنني قلت في السطر 22 من الصفحة نفسها (إن دعوى اختفائه أكذوبة) وجعلتها بين قوسين، وهذا يفهم أنها بالحرف، وأصلها بالنص: (إن دعوى اختفاء الفقه الروماني ثم ظهوره بعد ستة قرون أكذوبة لا مرية فيها، وقد كان الفقه الروماني معروفاً وهو أشبه بالفصول المضحكة)، ولكن قلمك يا أستاذ الحقوق أدى منها هذه الكلمات الثلاث أو الأربع وذهبت الكلمات الباقية ضحية في سبيل خلق التناقض الموهوم!

وأما العبارة الأخيرة فلم تذكر سطرها ولا جانبها، وقد يكون ذلك لكونها تبعد عما قبلها بأسطر والغرض إيهام القراء وجود التناقض في عبارة متصلة وقد ذكرتها أعني العبارة الأخيرة بنصها ولك الشكر، غير إنك اختزلتها اختزالاً كي تجعلني أمام القراء ملزماً بها بزعمك بالاعتراف بأن الفقه الروماني الحديث هو القديم، والعبارة (ثم إن حكاية اختفائها وبروزها في القرن الحادي عشر لم يقل بها غير هولود فيكوس سنة 1501 م ثم راجت. أنظر جيبون 4 صفحة 555، وقد اعتبرها بعض العلماء إذ ذاك غير حقيقة فقد قال القانوني الشهير سافنيه إن القوانين الرومانية لم تختلف لأنها ظلت معمولاً بها إلى اليوم من غير انقطاع. اهـ، ويعني بها القوانين القديمة المقدم ذكرها) هذه عباراتي حرفياً، وبهذا وذاك ينكشف للقارئ الكريم أنني لم أقل إن الفقه الروماني اختفى ثم اكتشف إلا وأنا مبين بأن مبين ذلك زعم، وقلت إن للرومان قانوناً معروفاً كله همجية وقسوة، وهو الذي لم يختف وهو المعنى بقوله سافنيه، وكلامي صريح في ذلك وبهذا يتضح ألا تناقض وإن كان فإنما هو في مخيلة الكاتب الأديب!

يا حبذا العصبية والعاطفة القومية! وتقول أيها الأستاذ: فأولى بشبابنا ألا يكونوا أسرى عواطفهم من تعصب للدين ثم تقول: (إن في دعاواهم ما يضر بالإسلام ويسئ بثقافته الظنون) فيا عجباً لك أيها الأستاذ أدفاعنا عن الإسلام بالبرهان والمنطق يضر بالإسلاموتعصبنا لديننا يسيء بثقافتنا الظنون؟ هكذا تعصبنا نحن فقط يضر بديننا؟ لماذا يضر التعصب (على فرض وجوده) بنا وبديننا ولم يضر بأروبا ولا بدينها وقد ضربت فيه الرقم القياسي وبلغت النهاية؟ ألم تتقول أروبا على الإسلام بما ليس فيه وتقذف أهله بما يندى له جبين الشرف، وترمي نبينا العربي صلى الله عليه وآله وسلم بفري تصرخ منها الحقيقة ويضج لها التاريخ؟ فعلت ذاك ولا تزال تفعل إلى اليوم. فهل أضر بها لديكم فتيلاً؟ لقد أشبع الأوربيون ديننا زوراً وأوسعوا تاريخنا مسخاً وتشويهاً مما لو جمعنا بازائه كل ما قاله متعصبو المسلمين فيهم لما كانت نسبته إليه إلا كنسبة التأفيف إلى حرب البسوس؛ وهاهم أولاء يملأون الدنيا تبشيراً بدينهم، ودعاية لهم غير آبهين عند ذلك بأن يسفهوا الأديان ويكيلوا أنواع الأفك على مشرعيها. فهل أضر ذلك أيها الأستاذ بمسيحيتهم؟ وهل أساء بثقافتهم لديكم الظنون؟ أو هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت

أما إذا قمنا لندافع عن ديننا بالتي هي أحسن ونظهر فضل تشريعه على العالم ببراهين كافية وأدلة وافية متذرعين بأقوال بعض الأروبيين أنفسهم غير قاذفين لأحد ولا متهجمين على أحد قلتم إننا متعصبون نسرف في القول على علماء أروبا الذين لا يمكن أن يزوروا، وأنهم وضعوا الحقيقة في أعلى المنازل وجعلوها فوق كل شيء لأن فلاناً ألف كتاباً عن النبي صلى الله عليه وعليه وآله وسلم، وفلاناً قال كلمات تعتبر ثناء على الاسلام، والآخر مدح فلاناً المؤرخ العربي وقال إنه من سلف علمائنا، فأولئك قوم رضى الله عنهم ورضوا عنه، فاصمتوا فلن يقولوا إلا حقاً، ولن يخبروا إلا صدقاً. ومعنى هذا أغلقوا أبواب البحث عن أروبا وتلقوا كل ما تلقيه عليكم بالتسليم. هكذا احتججتم وبهذا قضيتم؛ فما لكم كيف تحكمون؟

أما العصبية أيها الأستاذ فما أعظم رزء قومنا بفقدها. وأما العاطفة القومية فما أحوج أمتنا إلى الشعور بها فإننا الآن في زمان لا ملاذ فيه إلا للقوة ولا صولة فيه إلا للعصبية. فنحن في عهد تنشد فيه العصبية وتحمد فيه العاطفة الدينية، ومن لا يتعصب لدينه لا يتعصب لقومه ولا وطنه؛ وهل تلتمس القومية عند من لا عصبية له إلا كما تلتمس عند الديوث خلال الشرف. إنني أنصحكم أيها الشباب عن هذا الضعف وأحذركم عن هذا التلاشي والاندماج في أروبا، إنكم في حاجة لغير هذا

فيا شباب العرب! كونوا في عصبيتكم لدينكم ناراً تتلهب، وكونوا في عواطفكم أعاصير تلوي بكل ما هو أمامها من باطل وبغي. وكونوا في مبادئكم جبالاً لا تعبأ بالزلازل ولا تحركها هوج العواصف

إن المجد والحرية يدعوانكم من وراء القرون أن تتقدموا إلى الأمام. فتجهزوا يا أبناء جنود الفتوح وسلالة فوارس بدر. فحيا الله عصبية العروبة وعاطفة الإسلام، وسلام على صدور امتلأت أحناؤها بنور الإسلام، وفي سبيل الله نفوس للآباء أزهقت طعناً بالرماح وقعصاً بالسيوف ضحايا على أعتاب الإسلام!

سنغافورة

صالح بن علي الحامد العلوي