مجلة الرسالة/العدد 114/من تراثنا العلمي

مجلة الرسالة/العدد 114/من تراثنا العلمي

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1935


2 - كتاب في البَيْزَرَة

وصف وتحليل لنسخة فريدة من كتاب مفقود، في علم ضائع،

لمؤلف مجهول

للأستاذ علي الطنطاوي

(أبواب الكتاب)

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الذي له في كل لطيف من خلقه مُعجز يُتفكرُ فيه، وخفي من صُنعهُ يتنبهُ به عليه، ونعم تقتضي مواصلة حمده، ومننٌ تحث على متابعة شكره. والذي ميز كل نوع من حيوان خلقه على حدته، وأبانه بشكله وصورته، وجعل له من الآلة ما يلائم طبعه ومُركبه، ويسره للأمر الذي خلق له، ويُؤديه إلى مصلحته، وقوام جسمه. وجعلنا من أشرف ذلك كله نوعاً، وأتمه معرفة، وجمع فينا بالقوة ما فرقه في تلك الأصناف بالآلة، فليس منها شيء مخصوص بحالٍ له فيها مصلحة إلا ونحن قادرون على مثلها؛ كذوات الأوبار التي جعلت لها وقاءً وكسوة تلزمها ولا تعدمها، فإنا بفضل حيلة العقل نستعمل مثل ذلك إذا احتجنا إليه، ونفارقه إذا استغنينا عنه؛ وكذوات الحد والشوكة من صدف أو مخلب، فان له مكان ما نستعمله من السيوف والرماح وسائر الأسلحة؛ وكذوات الحافر والظلف فان لنا أمثال ذلك مما ننتعله ونتقي أذى الأرض به. وجعل لنا خدماً وأعواناً، وزينة وجمالاً، وأكلاً وأقواتاً؛ فبعض نمتطيه، وبعض نقتنيه، وبعض نغتذيه. وأحل لنا صيد البر والبحر والهواء؛ نقتنص الوحش من كناسها، ونحطمها من معاقلها، ونستنزل الطير من الهواء، ونستخرج الحوت من الماء. ولم يكلنا في ذلك إلى مبلغ حيلتنا حتى عضدنا عليه، وسهل السبيل إليه، بأن خلق لنا من تلك الأنواع أشخاصاً أغراها بغير من سائر أجناسها، ووصلها من آلة الخلْفَه وسلاح البنية، وقبول التأديب والتضْرية، والانطباع على الأكفّ، والاستجابة فد على موضع الصنع فيها، وموقع الانتفاع بها، كالفهد والكلب وسائر الضواري، والبازي والشاهين وسائر الجوارح كلما يحويه من ذلك لنا كاسب وعلينا كادح، وبمصلحتنا عائد؛ نستوزعه جل جلاله الشكر على ما منحناه من هذه الموهبة، وفضلنا به من هذه المكرمة، وفوائد قسمه؛ ونرغب إليه جل جلاله في العون على طاعته، ومقابلة إحسانه باستحقاقه. وصلى الله على محمد نبيه الصادق الأمين، البشير النذير، وعلى آله الطيبين الأخيار وسلم تسليما، وعلى الأئمة من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب حتى تنتهي إلى العزيز بالله أمير المؤمنين فتشمله ونسله إلى يوم الدين

إن للصيد فوائد جمة، وملاذ ممتعة، ومحاسن بينة، وخصائص في ظلف النفس ونزاهتها وجلالة المكاسب وطيبها كثيرة؛ فيه يستفاد النشاط والأريحية، والمنافع الظاهرة والباطنة والمران والرياضة، والخفوف والحركة، وانبعاث الشهوة واتساع الخطوة، وخفة الركاب، وأمن من الأوصاب؛ مع ما فيه من الآداب البارعة، والأمثال السائرة، ومسائل الفقه الدقيقة، والأخبار المأثورة ما نحن مجتهدون في شرحه وتلخيصه، وتفصيله وتبويبه في هذا الكتاب المترجم بكتاب (البَيزرة) على مبلغ حفظنا، ومنتهى وسعنا، وبحسب ما يحضرنا، وينتظم لنا اتباعاً فيما لا يجوز الابتداع فيه، وابتداعاً فيما أغفله من تقدمنا ممن يدعيه، ونحن مقدمون ذكر الأبواب التي تشتمل على ذلك ليتأتى كل باب منها في معناه، وبالله الحول والقوة، ومنه عز وجل التوفيق والمعونة

(باب) من كانت له رغبة في الصيد وعنده شيء من آلته من الأنبياء صلوات الله عليهم، وأصحاب رسول الله ومن الأشراف

(باب) تمرين الخيل بالصيد والضراءة، وجرأة الفارس على ركوبها باقتحام العقاب، وتسنّم الهضاب، والحدور والانصباب

(باب) ما قيل في طرد كل صنف من وحش وطير

(باب) فضائل الصيد، وأنه لا يكاد يحب الصيد ويؤثره إلا رجلان متباينان في الحال، متقاربان في علو الهمة: إما ملك ذو ثروة، أو زاهد ذو قناعة، وكلاهما يرمي إليه من طريق الهمة إما لما تداوله الملوك من الطلب وحب الغلبة الخ. . . والفقير الزاهد لظلف نفسه عن دنيء المكاسب، ورغبتها الخ، فمن هذه الطبقة من يقتات من صيده ما يكفيه، ويتصدق بما يفضل عنه توقياً من المعاملة والمبايعة، ونهم من يبيع ما فضل عن قوته، ويعود بثمنه في سائر مصلحته، وكانت هذه حال الخليل بن أحمد الفرهودي مع فضله وأدبه وكمال علمه وآلاته الخ. . . وكان جلة الناس في عصره يجتذبونه الخ. . . فأحد من كاتبه سليمان بن علي الهاشمي، فكتب الخليل بن أحمد إليه:

أبلغ سليمان إني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال

شحي بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال

(قال) وقلما رأيت صائداً إلا تبينت فيه من سيما القناعة الخ. . . وقال أرسطا طاليس: أول الصناعات الضرورية الصيد، ثم البناء ثم الفلاحة. ولو أن رجلاً سقط إلى بلدة ليس بها أنيس ولا زرع لم تكن له همة إلا حفظ جسمه ونفسه بالغذاء الخ. . . ويغدو للصيد اثنان متفاوتان: صعلوك متسحق الأطمار. وملك جبار، فينكفئ الصعلوك غانماً، وينكفئ الملك غارماً، وإنما يشتركان في لذة الظفر الخ. . . وقال أبو العباس السفاح لأبي دلامة سل!. . . فقال: كلباً، قال: ويلك وما تصنع بكلب؟ قال: قلت سل، والكلب حاجتي، قال: هو لك، قال: ودابة تكون للصيد، قال: ودابة! قال: وغلام يركبها ويتصيد عليها، قال: وغلام! قال: وجارية تصلح لنا صيدنا وتعالج طعامنا، قال: وجارية! قال أبو دلامة: كلب ودابة وغلام وجارية! هؤلاء عيال! لابد من دار! قال: ودار! قال: ولابد من غلة وضيعة لهؤلاء، قال: قد أقطعناك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة قال: ما الغامرة؟ قال: التي لا نبات فيها، قال: أنا أقطعك خمسمائة جريب في فيافي بني أسد، قال: قد جعلنا لك المائتين عامرة بقى لك شيء؟ قال: أقبل يدك، قال: أما هذه فدعها! قال: ما منعت عيالي شيئاً أهون عليهم فقدا من هذا

وقيل لبعض من كان مدمناً على الصيد من حكماء الملوك الخ. . . وقيل للزاهد المشغوف بالصيد الخ. . . وهذا كتاب كليلة ودمنة الخ. . . وكانت ملوك الأعاجم تجمع أصنافها (أي الحيوانات)، وتدخل أصاغر أولادها عليها وتعرفها الخ. . .

وأشرف الغذاء الذي يحفظ به الأعضاء، وليس شيء أشبه بها وأسرع استحالة إليها من اللحم، وأفضل اللحمان ما استدعته الشهوة، وتقبلته الطبيعة بقوة عليه، ولا لحم أسرع انهضاماً وأخص بالشهوة موقعاً من لحم الصيد المكدود، لأن ذلك ينضجه الخ. . .

وإن كان الحيوان غليظاً، عكست هذه الأسباب طبعه، ونفت ضرره، وقمعت كيموسه؛ وربما أكل اللطيف الخفيف على تعنف وتكره، فكان إلى أن يأخذ من الأعضاء، أقرب من أن تأخذ منه الأعضاء

وتأول الرواة امرئ القيس في قوله:

رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ ... مخرِج كَفَّيْه من سُتَرهِ

فأتَتْه الوحشُ واردَةً ... فَتمّتى النزْعَ من يَسرِهِ

فَرَماها في فراِئصِها ... من إزاء الحوض أو عُقَرِهِ

مطعمٌ للصيد ليسَ لهُ ... غيرها كسبٌ على كبرِهِ

على المدح بإدمان الصيد، ويمن الطائر فيه؛ واستثناؤه بقوله على كبره زائد عندهم في المدح لوصفه أنه يتكلف من ذلك مع فدح السن وأخذها منه شيئاً لا يعجزه مع هذه الحال، ولا يلحقه فيها ما يعرض للمسن من الفتور والكلال؛ وبنو ثعل بنو عمه لأنهم فخذ من طيء، وكندة فخذ من مرّة، ومرّة أخو طيء فلم يرد غير المدح؛ وهذا الرامي عمرو الثعلي، وكان من أرمى الناس الخ. . .

وفي أبيات امرئ القيس هذه، أدب من أدب الصيد، ولطائف حيله، وهو قوله: فتمتى النزع من يسره، وتمتى وتمطى واحد، أبدلت التاء من الطاء، وفي تمتى معنيان: أحدهما الاعتماد والتوسط من قولهم حصلته في متى كمى، فتمتاه بمعنى تعمد متاه (كذا) والآخر بمعنى إبدال التاء من الطاء يريد التمطي وهو أن مريد الصيد بالرمي يتمطى بيساره نحو الأرض مرات حتى يؤنس الطريدة فتألف ذلك منه ولا تذعر له، ثم حينئذ يستغرق نزعه ويمضي سهمه

ولا يزال امرؤ القيس في كثير من شعره يفخر بالصيد، وأكل لحمه، كقوله الخ. . .

ومن فضائل الصيد ما فيه من التبريز على ركوب الخيل صعوداً، وحدوراً، وكراً، وانكفاء، وتعطفاً، وانثناء الخ. . .

وقال بعض الحكماء: قلما يعمش ناظر زهرة، أو يزمن مريغ طريدة، يعني بذلك الخ. . .

وليس يكبر الملك الرئيس العظيم الوقور، إذا أثيرت الطريدة أن يستخف نفسه في اراغتها، ويستحفز فرسه في أثرها الخ. . . وحكي عن عظماء الأكاسرة الخ. . . وعن الخلفاء الراشدين الخ. . .

ومنها ما يسنح فيه من النشاط والأريحية الخ. . . وربما قويت النفس حينئذ، وانبسطت الحرارة الغريزية فعملت في كوامن العلل. أخبرني غير واحد ممن شاهد مثل ذلك: أنه رأى من غدا إلى الصيد وهو يجد صداعاً مزمناً، فظفر فعرض له رعاف حلل ما كان في رأسه، وآخر كانت به سلعة يجبن عن بطها قويت عليها الطبيعة فانبطت، وآخر كان في بدنه جرح الخ. . . وربما عكس ما يعرض له من ذلك ذميم حالاته، فآلت إلى ضدها من الخيرية حتى يتشجع إن كان جباناً، ويجود وإن كان بخيلاً، ويتطلق وجه وإن كان عبوساً

أخبرني بعض الأدباء، عن رجل من الشعراء، قصد بعض الكبراء فتعذر عليه ما أمله عنده، وحال بينه وبينه الحجاب وكان آلفاً للصيد، مغري به، فعمد الشاعر إلى رقاع لطاف، فكتب فيها ما قاله من الشعر في مديحه، وصاد عدة من الظباء والأرانب والثعالب، وشد تلك الرقاع في أذناب بعضها وآذان بعض، وراعى خروجه إلى الصيد، فلما خرج كمن له في مظانه ثم أطلقها فلما ظفر بها واستبشر، ورأى تلك الرقاع ووقف عليها زاد في طربه واستظرف الرجل واستلطفه وتنبه على رعي ذمامه، وأمر بطلبه فأحضر ونال منه خيراً كثيراً

ومن شأن النفس أن تتبع ما عزها، وبعد من إدراكها الخ. . . وهذا شبيه بما تأوله يحي بن خالد البرمكي في توصية ولده بتقديم العدات أمام الهبات فانه قال لهم الخ. . .

ولو أن محاول حرب، أو مقارع جيش، ملك عدوه قبل مكافحته إياه حتف أنفه، أو انفل جيشه من سوء تدبيره فانصرف، أو جاءه ضارعاً طالباً لأمانه، لما كان مقدار السرور بذلك كمقداره لو نازله فقهره، أو بارزه فأسره، وهذا بين في الملاعب بالشطرنج الخ. . .

لا أستلذ العيش لم أدأب له ... طلباً وسعياً في الهواجر والغلس

وأرى حراماً أن يواتيني الغنى ... حتى يحاول بالعناء ويلتمس

فاحبس نوالك عن أخيك موقراً ... فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس

ومن فضل العلم بالصيد ما حكاه لي أبي عن إسحاق بن إبراهيم السندي عن عبد الملك بن صالح الهاشمي عن خالد بن برمك؛ أنه كان نظر وهو على سطح قرية نازل مع قحطبة حين فصلوا من خراسان وبينهم وبين عدوهم مسيرة أيام إلى أقاطيع ظباء مقبلة من البر حتى كادت تخالط العسكر، فقال لقحطبة: ناد في الناس بالإسراج والإلجام وأخذ الأهبة، فتشوف قحطبة فلم ير شيئاً يروعه، فقال لخالد: ما هذا الرأي؟ فقال: أما ترى الوحش قد أقبلت، إن وراءها لجمعاً يكشفهاً؛ فما تمالك الناس أن يتأهبوا حتى رأوا الطليعة، ولولا علم خالد بالصيد لكان ذلك العسكر قد اصطلم

وعذل بعض أبناء الملوك في الاستهتار بالصيد والشغف به الخ

ولما شهد أبو علقمة المرى عند سوار أو غيره من القضاة؛ وقف في قبول شهادته، فقال له أبو علقمة: الخ

ومن فضائل الصيد أنه كان الملك من ملوك فارس الخ. . .

وكانت لبهرام شوبين حظية الخ. . .

وذكر الأصمعي عن الحارث بن مصرف الخ. . .

ووقف بعض الملوك بصومعة حكيم من الرهبان فناداه فاستجاب له فقال له: ما اللذة فقال له: كبائر اللذات أربع، فعن أيهن تسأل؟ فقال: صفهن لي، فقال: هل تصيدت قط؟ قال: لا (وسأله عن خصال) قال: لا، قال: فما بقى لك من اللذات؟

يتبع

علي الطنطاوي