مجلة الرسالة/العدد 114/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 114/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1935



هنري باربيس

توفي في أواخر شهر أغسطس المنصرم كاتب وشاعر من أعظم كتاب فرنسا وشعرائها المعاصرين، هو هنري باربيس؛ وكان باربيس زعيم المدرسة الثورية وأعظم كتابها، ولم نمض أشهر قلائل على صدور كتابه الأخير الذي كتبه عن ستالين طاغية روسيا البلشفية، وعن تاريخ الحركات الثورية في روسيا القيصرية، وهو الكتاب الذي أشرنا إليه وقت صدوره في هذا المكان من (الرسالة)

وقد ولد هنري باربيس في ازنيير في سنة 1874، وتلقى تربية جامعية حسنة، ونظم الشعر القوي منذ شبابه، وكتب القصص؛ وظهر لأول مرة في أفق الأدب بصدور ديوانه المسمى (الباكيات في سنة 1895. وفي سنة 1903م نشر قصته (المتضرعون ثم أخرج قصته (جهنم ' في سنة 1908، وامتهن باربيس الصحافة وبرز فيها؛ وفي سنة 1910 تولى تحرير صحيفة الشهيرة ولما نشبت الحرب الكبرى انخرط في سلك الجيش العامل كجندي في المشاة، وأبدى شجاعة فائقة في الذود عن وطنه استحق من أجلها وسام (صليب الحرب)، وفي أثناء الحرب أخرج باربيس أعظم قصصه وهي: (النار وهي مذكرات فرقة محاربة والشعلة وبهما يرتفع باربيس إلى صف أعظم كتاب العصر ويصل إلى ذروة قوته، ولما انتهت الحرب وقع تحول عظيم في تفكير باربيس وفي مبادئه فاعتنق المذهب الشيوعي، وتولى التحرير في جريدة (لومانتيه) الشيوعية التي أنشأها جان جوريس واشتهر بكتاباته الملتهبة، وفي سنة 1920 أصدر باربيس قصته (النور في الهاوية ' وفي العام التالي أخرج قصة قوية أخرى عنوانها: (بعض زوايا القلب ثم أصدر كتاب (الأغلال وفي سنة 1927 أصدر كتابه (بيان إلى العقلاء ومنذ أشهر قلائل أخرج كتابه عن ستالين. وكان باربيس في أعوامه الأخيرة دائم التردد على موسكو وثيق الصلة بزعمائها، وكانت وفاته في موسكو في مستشفى الكرملين بعد مرض قصير. ومما ذكره أنه تزوج من ابنة كاتيل مانديس الكاتب والفنان الشهير، وهي أيضاً كاتبة وأديبة معروفة

قوانين الملكية في روس يخطئ من يعتقد أن روسيا البلشفية تعيش في ظل النظم الشيوعية؛ والحقيقة أنها لا تكاد تطبق اليوم نوعاً من اشتراكية الدولة أو الاشتراكية المخففة؛ وقد اقتنع البلاشفة بعد تجارب شائكة أن الحياة الاقتصادية والاجتماعية المنظمة في ظل الشيوعية ضرب من الخيال. ومما يدل على أن روسيا السوفيتية تعود شيئاً فشيئاً الى النظم الفردية، أن الحكومة البلشفية قد أصدرت أخيراً قانوناً جديداً بتحديد ملكية الأراضي في مختلف الولايات الروسية، ولاسيما في جمهوريات التركمان وأزبكستان وأزربيجان وقازاقستان، وبعض مناطق سيبريا الزراعية، وفيه تفصيل لما يمكن أن يملكه المزارع من الأرض أو الماشية لاستعماله الشخصي؛ والقانون الجديد يتحدث عن وضع اليد والحيازة فقط، على أن تلحقه قوانين أخرى بتثبيت الملكية متى استقر تقسيم الأراضي نهائياً. وليس القانون جديداً في الواقع، فان المزارع (الكولاك) يتمتع منذ أعوام بحق ملكية حديقته وبعض الماشية، ولكن القانون الجديد يزيد في نسبة الملكية إلى حدود لم تعرف من قبل في ظل النظام البلشفي، هذا فضلاً عما يتضمنه من الوعد بتثبيت الملكية وتطمين المزارعين بذلك على مصير أراضيهم ومواشيهم. وبمقتضى هذا القانون يصبح للمزارعين في سيبيريا الحق في امتلاك أرض تبلغ مساحتها إلى هكتار واحد حسب منطقة الأرض، وفي امتلاك الماشية من خمسين رأساً من الرندير إلى مائتي رأس، ومن الكلاب ما شاء. وفي جمهوريات أزربيجان وأزبكستان وما إليها يستطيع المزارع أن يمتلك من 20 إلى 30 في المائة من الهكتار أرضاً زراعية، ومن الماشية جواداً وحماراً وخمس عشرة إلى ثلاثين رأساً من الغنم

وفي هذه القوانين الجديدة دليل قاطع على ما انتهت إليه سياسة السوفييت من التطور نحو الفلاحين. وقد كان لتنفيذ المشاريع الاقتصادية الجديدة أثر كبير في هذا التطور، لأنها أقنعت زعماء البلاشفة بأن الترويح عن المزارعين وتحريرهم من قيود الإنتاج الإجماعي مما يضاعف أسباب الإنتاج والرخاء الزراعي

أعمدة سبعة من الحكمة

لم يمض على وفاة الكولونل لورنس زهاء أربعة أشهر، ومع ذلك فان آثاره وذكرياته تشغل اليوم فراغاً كبيراً في الأدب الإنكليزي، فقد صدرت أول طبعة جديدة تذكارية من كتابه الشهير (سبعة أعمدة من الحكمة وهذه الأعمدة السبعة هي: القاهرة وأزمير وقسطنطينية وحلب وبيروت ودمشق والمدينة. وكان الكولونل لورنس قد بدأ في كتابته منذ سنة 1921، وفيه يقص سيرة أعماله المدهشة في بلاد العرب، وما اشترك في تدبيره من الثورات والانقلابات والوقائع الغريبة التي انتهت بتمكين الإنكليز من الاستيلاء على فلسطين والعراق، وسيرة مغامراته الشخصية، وفيه روايات وأسرار خطيرة عن كثير من القادة والزعماء الذين عملوا مع لورنس. وفي سنة 1926 ظهر كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) وظهرت منه فقط مائة وعشرون نسخة باسم المشتركين، فكأنه لم يطبع ولم يذع في الواقع إلا في دائرة خاصة جدا، ثم لخص منه لورنس كتاباً آخر هو (الثورة في الصحراء) وهو الذي طبع وأذيع بكثرة، وقد كان من أكبر أماني أصدقاء لورنس والمعجبين به، أن يخرج كتابه الشهير في طبعة جديدة ذائعة، والآن تتحقق هذه الأمنية بعد وفاته، ويصبح كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) في متناول كثيرين ممن لم يحظوا باقتنائه

مآسي التاريخ

صدر أخيراً كتاب جديد للمؤرخ الفرنسي ح. لينوتر الذي توفي منذ أشهر قلائل، عنوانه: (مآسي التاريخ وقد اشتهر لينوتر بنوع خاص من التاريخ لبث يكتبه أعواماً طويلة في جريدة الطان تحت عنوان: (التاريخ الصغير) وفيه يتناول من حوادث التاريخ المنسية ومآسيه الطريفة ما يفوق في الحقيقة كثيراً من وقائع الخيال، وتوفر لينوتر على دراسة هذا النوع، حتى أصبح أستاذه الحقيقي، وكانت الثورة الفرنسية وحوادثها العجيبة أعظم مصادره، فتناول كثيراً من حوادثها الخفية وتفاصيلها العجيبة التي يغفل عنها المؤرخ العام وأخرج فيها كتباً ورسائل ساحرة، ومن مؤلفاته الشهيرة في هذا الباب: (من ثورة إلى أخرى) و (من السجن إلى النطع) و (ملك بلا مملكة) و (باريس الثائرة) وغيرها، وأما كتابه الأخير (مآسي التاريخ) فقد كتبه في أواخر حياته، وتناول فيه عدة مآس شهيرة مثل سقوط الجيرونديين، ومصرع الدوق دنجين، ومقتل الكاتب بول لوي كورييه وغيرها، وكتبها بأسلوبه القوي الساحر، الذي يدنو في تفاصيله من الرواية، ويجمع في جوهره عناصر التاريخ المنسية، وقد كانت فصول لينوتر التي تنشرها (الطان) مثلا بديعاً لهذا النوع الشعبي من التاريخ، وكان لينوتر دائب التوفر على إخراجها حتى أواخر أيامه، بل نذكر أن الفصل الأخير الذي كتيه فيها لم ينسر في الطان إلا بعد وفاته بيوم أو اثنين، وقد فاز لينوتر قبل وفاته بنحو عامين بكرسي الأكاديمية، وكان من الخالدين

لقب جديد لربات الجمال

كان لفوز الإسبانية الحسناء كاناريني أليشا نافارو في مباراة الجمال الأوربية العامة وفوزها بلقب (مس أوربا) وقع عميق في أسبانيا حيث يبدي الشعب الأسباني حماسة عظيمة لهذا الفوز لاسيما وانه أول حادث من نوعه في أسبانيا؛ ويؤمل الأسبان أن تفوز فتاتهم بتاج الجمال العالمي. بيد أن بعض المفكرين الأسبان رأوا أن الجمال المادي وحده لا يكفي لأن تتبوأ الفتاة مركزها الممتاز في المجتمع؛ ولابد أن تتحلى إلى جانبه بالصفات الأدبية والمنزلية التي يجب أن تختص بها المرأة، ولذلك أقيمت في مدريد مباراة من نوع خاص بين لفيف من الفتيات الحسان يتبارين للفوز بلقب (ربة الدار)؛ وتضمنت هذه المباراة امتحان الفتيات في أعمال الطهي والكي والخياطة وغيرها من الأعمال المنزلية، ففازت بهذا اللقب الآنسة كونشيتا مانسيجوي دي لارا. ونالت أول لقب من نوعه بين الحسان وهو (ربة الدار)

أغراض المستشرقين

قرأت في (الرسالة) ما كتبه الأستاذ محمد روحي فيصل في أن علماء المشرقيات أبعد الناس عن البحث العلمي المجرد يوم يخوضون الأبحاث الإسلامية، وأنهم يقصدون من الاستشراق خدمة دينهم وسياسة دولهم. وقد لامني لقولي من مقالة في الرسالة إن علماء المشرقيات يحمدون لنشرهم كتب العرب، وإنه كان على سادتنا العلماء أن يأخذوا باليمين آثار السلف يحيونها، حتى لا يطول مقامها في تزييف بعض من تعلموا لغات الشرق واختصوا في علومه، إلا أنني لا أغمط حق العاملين منهم، لتفضلهم بنشر كتبنا. وأرجوا ولا أزال أرجو أن ينقطع فريق من علمائنا وأدبائنا لمساهمة علماء المشرقيات هذه الخدمة الجليلة؛ لأن الكتب كتبنا، والمدنية مدنيتنا، وصاحب البيت أحق الخلائق بالعطف عليه وعلى ما فيه

وقد وقع لصديقي العلامة الشيخ عبد العزيز جاويش، يوم ألقيت في دار المعلمين العليا بالقاهرة (5 مايو سنة 1927) محاضرة في (أثر المستعربين من علماء المشرقيات في الحضارة العربية) وعددت ما نشره علماء المشرقيات في كل أمة غربية من كتبنا، أن قام رحمه الله يعدد أغراض علماء المشرقيات من الغربيين في الدين والسياسة، وما كان موضوع المحاضرة غير التنويه بفضل من خدموا آثار أمتنا فاستفدنا نحن بالعرض. وأذكر أن بعض أساتذة مصر ممن حضروا المجلس تبرموا بكلام الأستاذ جاويش وعدوه خروجا عن الموضوع، لأني لم أمتدح المستشرقين إلا من الوجهة التي أفادوا بها حضارتنا، حتى إن الأستاذ علي الشمسي باشا (وزير المعارف المصري يومئذ) كان ممن حضر فقال: سامح الله الأستاذ جاويش، إن صاحب المحاضرة لم يتعرض لمدح المستشرقين في السياسة والدين، وإنما ذكر افضالهم على لغتنا وحضارتنا بنشر كتبنا. قال ذلك للأستاذ سيد كامل رحمه الله، (راجع المحاضرة في مجلة المجمع العلمي العربي م7 ص 433)

فأنا والحالة هذه إذا امتدحت من علماء المشرقيات، وأعجبت بعلمهم في خدمة آدابنا، فإنما تنويهي بهم من هذه الناحية فقط. وأعلم أن كثيرين منهم يعملون لسياسة بلادهم أولا، وأن منهم دعاة دين متعصبين يتخذون الاستشراق سلماً لخدمة دينهم على نحو ما كان أسلافهم في القرون الوسطى، ومن أحب أن يقف على تخريف المخرفين من المستشرقين، وإنصاف المنصفين منهم في أحكامهم على الإسلام والعرب فليرجع إلى كتابي الأخير (الآلام والحضارة العربية) فمعظم هذا السفر يدور على هذا المحور، وأحب مع هذا ألا يفوتنا أنه ليس من المعقول أن نكلف من لم يتأدبوا بأدبنا، ولم تعمل فيهم أحاسيسنا، ولا دانوا ديننا، أن يعتقدوا ما نعتقد، ويكتبوا فينا ما نحب. فلكل جنس تفكيره، ولكل جيل مدنيته، ولكل إنسان أهواؤه وأغراضه.

محمد كردي علي