مجلة الرسالة/العدد 117/القصص

مجلة الرسالة/العدد 117/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 09 - 1935



صور من هوميروس

7 - حروب طروادة

الفدائي الأول

للأستاذ دريني خشبة

رويت الإلهة إذن وشفت ما في أنفسها من ظمأ إلى دماء الضحايا، وإن لم تغفر لديانا البارة، ديانا ربة القمر، إنقاذها للفتاة التعسة إفجنيا، وهي على قاب قوسين من خناجر الكهنة والربيين القساة

لقد أبت الإلهة إلا أن تشرب من ماء الحياة القرمزي المتدفق في عروق عبادها المخلصين من أبناء هيلاس؛ فلما ذهب كالخاس، عراف الحملة، يستوحي أربابه في معبد دلفى هل لها مطلب آخر في ضحية أو قربان بعد تقدمه إفجنيا، ارتفع الصوت الخافت المنبعث من صميم مقصورة الإله الأكبر يقول: (لا. . . . ولكم أن تقلعوا اليوم. . . . فإذا كنتم عند شطئان طروادة، فان لنا دم الفارس الأول الذي تطأ قدماه رمال الشاطئ. . . سيقتل، وسيكون لنا عوض من إفجنيا!)

ودعا إليه أبناءه ايولوس رب الرياح الست فأمرهم أن يكونوا جميعاً في خدمة الأسطول الهيلاني، حتى يصل إلى طروادة. . . . (وأنا أعرفك يا بوريس حين تعصف وتزف، وتصبح ويلا على الجواري أي ويل؛ وأنت يا كوروس، إياك وهذه البوارح التي تصلي بها سفائن القوم، وأنت يا أكويلو؛ وأنت أيضاً يا نيتوس، إن ريحك مجفل، وهبتك هوجاء، ولفحاتك حرور، وأنفاسك سموم، فان لم تترفق بالقوم، وتجر بين أيديهم رخاء، فلأسجننك في الكهف الأسود حتى حين، أما أنت يا ولدي إيودوس، فأحذر أنت تصيب الناس سوافيك أو يسوء فألهم فيك؛ بل كن لهم خادماً أميناً، تدفع ركبهم في رفق، وتملأ شراعهم في أناة. . . . ويسرني أن تسمعوا لنصيحة زفيروس، فهو ألينكم عريكة، وأكثركم صفاء. . . ألقوا إليه بزمامكم، ولا تختلفوا في أمر يلقيه إليكم، أصلح لكم زيوس أحوالكم. . . .)

وهبت الريح فخفقت أفئدة العسكر، وابتهجت أنفس القادة، واجتمع الميرميدون حول أخي يترضونه ويعتذرون عن رجمهم إياه يوم القربان المشئوم، ثم انتشرت الشراع ورفعت المراسي، وهمت الفلك فاحتواه البحر اللجي، وما عتمت أن صارت من الماء والسماء في خضرتين، ومن دروع الجند وزبد الموج في لبدتين، ومن قلوب الشعب الهاتف فوق الشاطئ الشاحب في بحر من الآمال!

واضطرب البحر بعرائس الماء وأبكاره، أسرعن من كل فج يحيين أبطال هيلاس، يخفين الوشائح السوداء التي ادخرنها لأيام الفصل، إن أيام الفصل كانت ميقاتاً

وتوارت الشمس بالحجاب، وبزغ القمر يفضض حواشي الماء، وحملقت النجوم ترى إلى هذا الأسطول اللجب يمخر عباباً من خلفه عباب، ويطوي لجة من ورائها لجة، والملاحون دائبون ما ينون، مرسلين في اللانهاية ألحانهم، مرددةً الرياح أغانيهم وأنغامهم؛ والقادة متكبكبون حول القائد الأعلى، حول أجاممنون، يدرسون تلك الخطة، وينقدون هذه الفكرة، ويدبرون من أمرهم ما يصل بهم إلى نصر عزيز

وتنفس صبح اليوم الثالث. . .

وبدت طروادة العاتية في الأفق الشرقي، متشحةً بالشفق النحاسي، الذي صبغ سماءها بالبنفسج الرائع، تتفجر منه أنهار من الدم!!

طروادة!

ذات الأبراج المشيدة، والقباب المنيفة!

إليوم!!

بنية نبتيون إله البحار يوم نفاه زيوس من جنة الأولمب، ونفي معه أبوللو، فساعده في بنائها بموسيقاه!!

يا ما أروعه منظراً أن ترى إلى أبوللو العظيم يعزف على قيثارة المرنة، فتثب الحجارة وتتراقص، وتقفز إلى مكانها من أسوارك يا إليوم!!

طروادة يا ذات الحول!

أين تنام هيلين الساعة سالمة حالمة، وأيان تتقلب ترب فينوس ملء ذراعي باريس!!

ويحك يا منالاويس!

إنه ينظر بعينين مشدوهتين إلى أسوار طروادة، يتمنى لو تندك على العاشقين الآثمين!! (. . . أهو الآن يقبلها، ويجني جنا خديها بفمه النهم المشتعل؟ أم هو يضمها إليه في عنف، غير آبه لقلبي الخافق المضطرب!. . . . . .)

منالايوس! لابد مما ليس منه بد. . .

لقد ترامت أخبار الحملة الهيلانية إلى طروادة فهب أهلها البواسل يستعدون ويستعدون جيرانهم فنصروهم ولبو نداءهم، وهرعوا إليهم من كل فج عميق، وهاهي مشارف الجبال وقننها وسفوحها، ونتوء الشاطئ وصخوره ومغاوره، وهاهي ليديا المتيقظة، وإيوليا المتحفزة، وإيونيا الرابضة. . . هاهي البلاد جميعاً تضج بالجند، وتعج بالسلاح، وتقعقع بآلة الحرب، وتدق طبول الوغى، وتذكي نيران الحراسة في قمم الجبال، فلا تغفل عين ولا تهمد همة، ولا يتسرب إلى النفوس كلال

واقترب الأسطول من الشاطئ. . .

ولكن أحداً لم يجسر أن يجازف بنفسه، لأن القتيل الأول، هو أول من يهبط إلى الأرض، كما أخبرت النبوة في معبد دلفى!

ومرت أيام: والهيلانيون في سفائنهم ينظرون إلى أبراج طروادة وفجاجها، ويتحرقون شوقاً إلى لقاء جنودها، ومنالايوس يحرق الأرم هو الآخر؛ ولكن أحداً لا يرضى أن يكون الفدائي الأول. . . (لأني إذا نزلت إلى هذا البر المخوف فسيكون الموت محتوماً علي، دون أن أستطيع إلى قتل أحد من هذا الجند من سبيل، وأنا لم أحظر إلى هنا لأكون قرباناً للإلهة، ولكن لأزاحم وأنافح وأصول، فان قتلت بعدها، فبعشرات وعشرات، لا كما يقتل كلب البرية غير مفدى. . .)

برتسيلوس البطل

بيد أن هيلانياً مقاحماً، هيلانياً واحداً، من خيرة القادة ومذاويدهم، عز عليه ألا يكون في هذا الجيش العرمرم، على ما جمع من صناديد اليونان ومغاويرهم، فدائي واحد يتلقى الطعنة الأولى النجلاء، بثغر باسم، وقلب لا يجزع ونفس مؤمنة مطمئنة لا تهلع في موقف الموت، ولا تفرق إذا حم القضاء!

كبر على بروتسيلوس أن يرمي قومه بجبن ليست لهم يد فيه، وكبر عليه أن يقف ألف ألف لو شاءوا دكوا الجبال وزلزلو السماوات، من دون هذا البلد الذي لا يتقدمون ولا يتأخرون، كأنما حربهم هزل، ونفيرهم مكاء، وعزمهم تلفيق. أو كأنما ملأو الدنيا وعيد لتمتلئ عليهم سخرية وضحكاً!

كبر على برتسيلوس ألا يكون هو شهيد هذا الموقف فارتخص نفسهن وهانت عليه الحياة، وتفهت في عينيه لذائذ هذا العيش الذليل؛ ثم استخار أربابه، واستعاذ بسيد الأولمب وما هو إلا أن لمح الشمس يذر قرنها في خدر الشرق، فوق جبين طروادة، حتى قذف بنفسه على الشاطئ، وأرسل في الخافقين صيحة الحرب كأنها رعد يميد به جانب الجبل، وتهم من قصفه أسوار المدينة؛ ثم جال جولة هنا وجولة هناك، وإذ بالسهام ترشقه من كل مكان، وإذا هو ملقى على أديم الثرى مضرجاً بدمه، معفر بأول نقع الوغى

رحلة من الدار الآخرة

وذاع خبر مقتله حتى انتهى إلى تساليا، حيث زوجته المفجعة، فحزنت عليه حزناً أمض قلبها، وشف جسمها، وأقض مضجعها، وصير الحياة في عينيها حلكاً شديداً وظلاماً قائماً؛. . . . (برتسيلوس! أهكذا يا حبيبي ذكرت كل شيء في ميدان المجد والشرف، ونسيت فيه كل شيء؟ أهكذا يا حبيبي ذكرت التضحية والأقدام حين تخاذل مواطنوك عن مواطن التضحية والأقدام، فغامرت بنفسك في هذا المعترك المضطرب، ونسيت أن ورائك قلباً ينعقد رجاؤه بك، ونفساً ترف من خلف البحار فوقك، وروحاً لا سكن لها إلا صدرك الحنون، وعينين لا يعرفان جمال الحياة إلا في وجهك المشرق، وأذنين ما التذتا إلا الموسيقى المنسكبة من فمك!! برتسيلوس! ما قيمة الحياة بعدك يا حبيبي! من لزوجتك التعسة يوم يفخر النساء بأزواجهن؟ من للمحزونة الكاسفة لاؤوداميا؟ ما أشق الحياة علي بعدك يا رجلي ومن كنت كل شيء لي!

لا أسخط عليكم يا أربابي!

بل أنا أصلي لكم، أصلي لكم بدموعي وقلبي! أصلي لكم بأحشائي التي تتمزق، ورأسي الذي يحترق! أصلي لكم بلساني الذي يجف من شرق في حلقي، وكان حديث برتسيلوس يرطبه وينديه! أصلي لكم يا أرباب الأولمب عسى أن تلين قلوبكم لي، فأرى حبيبي وأموت!!

رجية يسيرة على مقدرتكم يا أرباب الأولمب! إما أن أقضي فأستريح من هذا الكمد الممض، والبث المؤلم، وإما أن تأذنوا فيعود برتسيلوس، فأراه وأموت!

أتمنى عليكم أن يعود فأكلمه. . . أملأ أذني وقلبي من موسيقاه! أناديه باسمه ويناديني باسمي! يعانقني وأعانقه! يرى إلى عبراتي وأنظر إلى عبراته! يبتسم لي في رضاه وفرحه، وابتسم له في انكساري ولوعتي!

ائذنوا يا أرباب الأولمب، فأنا ما أفتأ أصلي لكم، وأتوسل إليكم بدمه الزكي، وروحه الأبي، وقلبه الكبير!

ارحموا ذلي، ورقوا لهواني، وارثوا لحالي!. . . . . .)

وصيرت بنواحيها إشراق الصباح ظلمة من الحزن لا أول لها ولا آخر؛ وأرسلت في الليل البهيم أناتها المؤلمة، وزفراتها الحارة؛ ووصلت بكاءها الطويل بصلاتها الخاشعة، حتى ارتجفت قواعد الأولمب، واهتزت عروشه الذهبية، وانعقدت بينه وبين لاؤوداميا قنطرة من الحزن، عبرت عليها بركات الآلهة إلى فؤادها المكلوم، فمسحت عبراتها، وهدأت من روعها، وبشرتها بعودة برتسيلوس!

وفي هادئة ليلة مقمرة، سكن هواؤها وصدح بلبلها، وأنشد البدر لحنه الصافي على آراده الفضية ليغمرها بهاءً وروعة، خرجت لاؤوداميا المحزونة من قصرها المنيف، لتلقى روح برتسيلوس يهدهده هرمز الكريم بين يديه، حتى يكون تلقاء زوجته فترتمي بين ذراعيه!

ويغرقان في طوفان من القبل!

ويغرقان في لجة من العبرات!

ويقص عليها برتسيلوس أنباء مقتله. . . فتبكي. . . وتبكي. . . وتعاتبه لاؤوداميا. . . وتعذله. . . ولكن الساعات الثلاثة التي سمحت بها الآلهة للقائهما تمر كاللمح. . . فينبههما هرمز إلى انقضائها. . . وما تكاد تسمع نذير هرمز، وتعرف أن زوجها عائد أدراجه إلى هيز، فيظل فيها إلى الأبد، حتى تصعق مكانها، وتخر مغشياً عليها. . . وتموتّ!

فوا رحمتاً للزوجين السعيدين

(لها بقية)

دريني خشبة