مجلة الرسالة/العدد 117/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة/العدد 117/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 117
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
ملاحظات: بتاريخ: 30 - 09 - 1935


22 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية السلبية من مذهب نيتشه

الإنسان

للأستاذ خليل هنداوي

بين اليهود نشأت ذرية الكهان، وبينهم هبت ثورة العبيد، واندلعت نيرانه على المبادئ الأرستقراطية. نقموا على المبادئ القائلة بأن الصالح والشريف والقوي والجميل والسعيد هم الذين تحبهم الآلهة، وعملوا على دحضها بمنطق قوي. قالوا إن الضعفاء والعجزة والأشقياء والبؤساء هم الصالحون وحدهم. . . وإن المتألمين والتعساء والمرضى والقبيحين هم وحدهم المقربون إلى الله، ولهم وحدهم أعدت مساكن النعيم. أما النبلاء والجبارون الأقوياء فهم الجاحدون القاسون، وهم في تلك الدار المخذولون والأشقون

جاءت المسيحية فورثت عن اليهودية هذا الميراث. وأكمل الكاهن المسيحي ما بشر به الكاهن اليهودي. وها غبرت عشرون قرناً وهو الظافر المنتصر. فكان أول مشهد من ذلك الانقلاب مسألة النفس والإرادة الحرة المختارة. وفي الحقيقة لا نفس منسلخة عن جسد، ولا وجود للإرادة الحرة، وقد تكون إرادة بلا حرية ولا اختيار. وإنما هنالك إرادات قوية تقوم بأعمال ذات قيمة، وإرادات ضعيفة عملها ضئيل، آراء كالرعد يقصف، هي في الحقيقة فكرة واحدة ترتدي أثواباً مختلفة. فالرعد ليس بشيء ذاتي يقدر على القصف وعلى غير القصف. إنه رعد حين يقصف؛ كذلك شأن مجموعة القوات المتجلية في الرجل القوي لا تبدو ولا تظهر إلا بهذه المظاهر. والعقل الشعبي استطاع بواسطة الافتراض الاختياري أن يفرق بين الكائن والحادث بين الإرادة ومظاهرها، وافتراض أن وراء أعمال البشر ووراء ما تأتيه إرادة القوة كائناً أو نفساً هي علة هذه الأعمال. وهذه النفس هي جوهر حر يظهر كيفما يشاء، ويعمل كما يشاء. وهذا الذي تمثلوه (حراً مختاراً) أصبح العبد يساوي بالسيد، بل يجعله متفوقاً عليه. وهكذا أصبحت قيمة الفرد لا تتوقف على ما يتكون فيه من مجموعة قواته. وبذا زال عندهم تفضيل القوي على الضعيف بفضل منطقهم (لأن الق يعمل بحسب قواه وهو خاطئ لأن عمله بحسب قواه عمل سيئ. والضعيف يعمل بحسب ضعفه وهو ذو حق، لأن عمله بضعف عمل حسن. فالضعيف إذن هو خير من القوي،) ويصف نيتشه وصفاً مؤثراً تلك العوامل التي لجأ إليها العبيد الذين تغلي صدورهم غيظاً وموجدة، ليحطوا من قدر الأسياد، وليحولوا أنفسهم إلى شهداء وقديسين

هذا هو المثل الأعلى للعبد. فهو يحيا بتلك الدعوات المعزية التي ابتدعها. ولكن أثقال ضعفه الراسية على ظهره لينوء بحملها فيتألم ويشكو ويتململ، فيجئ الكاهن لا ليبرئه من دائه، ولا ليقطع أسبابه كما يصنع الطبيب. يجيء لينسى الصابر ما يحسه من ألم وشقاء، وليبث فيه (مواد مخدرة) ترقد الألم ولا تمحوه. يغفى مريضه ويعطيه مادة تضعف فيه القوة الحيوية والعقلية يلقى الزهد والتقشف والبلاهة في نفسه وجسده خدراً إلى حين، فيذهل عن ألمه بل يوشك أن ينفك عن كل إحساس فيه. فيغدو هذا الرجل المنحط (قديساً)، وقد يحيط الكاهن بالرجل فيجعل منه آلة تستغرق كل انتباهه وتجعل منه شيئاً يتحرك بذاته، ويصرفه عن التأمل في نفسه والتفكير فيها، ويلهيه بالانكباب على بهجة حقيرة يسهل عليه نيلها محبة القريب والمحبة والمساعدة المتبادلة، ثم يعمل الكاهن على أن يصرف (قطعانه المريضة) عن آلامهم الذاتية

وإزاء هذه العوامل التي أختلقها عوامل أخرى أبتدعها لمصلحته الخاصة. عوامل خطرة مؤثرة، تنطوي على سموم تنسي المتألم آلامه وتفني فيه قوته الحيوية. وهذا السم هو (الإيمان بالخطيئة)

أما أصل الخطيئة فسببه دافعان ولدا اختياراً في قلب الإنسانية. وهما الضمير الفاسد، والإيمان بدين مكتوب على الإنسان لله. والضمير الفاسد - عند نيتشه - هو نتيجة تشويش في النفس عميق. تسيطر على الإنسان يوم كان وحشاً معتزلاً، ثم انقلب عضواً رئيسياً في قطيع الأحياء، والحكومة هل هي إلى - كما يحتمل الذهن - ظلم مرعب فرضه الأقوياء على الضعفاء، وفجأة وجد المغلوبون على أمرهم أن أسباب الوجود عندهم مقلوبة رأساً على عقب، وألفوا أنهم أصبحوا لا يستطيعون أن يتبعوا بحرية واختيار تلك الغريزة الطبيعية التي كانت تسوقهم. فظلوا يبذلون جهودهم بينهم وبين أنفسهم ليقودوا أنفسهم بفطنة، ويضغطون على إرادتهم خشية أن تجازف بالإساءةإلى الأسياد، ويعملون بتعقل وتأمل. ولكن هذه الغرائز هي جزء من قوة لابد لها أن تبدو مظاهرها وآثارها. فإذا كتب على هذه القوة أن يضغط عليها حينا حتى لا تخرج عن نفسها بأي دافع ما، فهي ولابد مستحيلة إلى قوة خفية تعمل عملها في الباطن. وبمثل هذا التبدل وعلى مثل هذا التحول ولد (الضمير الفاسد). فهو وليد هذا الضغط الباطني الذي تصير عليه الغريزة الطبيعية في الإنسان. وهو كالوحش السجين الذي عضته الوحشة ونازعه حنينه إلى العرين والحرية والصحراء، ينهش جسمه بين قضبان القفص. كذلك الإنسان الابتدائي الأهلي السجين يتألم بنفسه، وغريزة الحياة الكامنة فيه المقيدة بمظاهرها الخارجية أمست تبدو بحالة هيجان باطني

وفكرة الدين المكتوب لله على الإنسان هي فكرة قديمة مترددة في الشرائع القديمة. ففي العصور الأولى كانت كل قبيلة تؤمن بأنها مدينة بخيراتها الحاضرة للذريات السابقة. وأن الأجداد الذين قضوا يصيرون بعد الموت أروحاً قوية تتابع تأثيرها في الأحياء وتواصل إحسانها إليهم. ولكن كل إحسان لابد أن يبذل ثمنه. وهكذا تولد في عقول الناس أنهم مدينون بشيء لآبائهم وأجدادهم. وهم مضطرون إلى تقديم الضحايا لهم جزاء وفاقاً على دفعهم للأذى والضر عنهم. ومن هنا نشأت عبادة الأجداد في فجر كل مدينة، ثم تطورت هذه العبادة قليلاً قليلاً. فالاحترام الذي كان يكنه الإنسان لأجداده جميعاً ما فتئ ينقبض حتى أرتكز في الجد الأصلي للسلالة، ثم نزل هذا الجد بدوره منزلة الإله. وكلما كان الإله قوياً مخيفاً كان شعبه الذي يجله ويعبده أكثر فلاحاً وتقدماً، وفي الظروف التي تنمو فيها عظمة الإله ينمو أيضاً الشعور بذلك الدين المفروض في سبيل احترامه وتزداد خشية الإنسان من قصوره في العمل لربه. وبواسطة هذا المنطق ألفينا أن عاطفة خضوع الإنسان لله بلغت الدرجة القصوى يوم ظفر إله المسيحية بالأوثان. ودانت له الأرباب وعسكر في مناطق بارزة من أوروبا. فآمن الإنسان إذ ذاك بأن الدين قد تضخم. حتى أصبح أجل من أن يوفى. وجد نفسه أنه مدين عاجز لا يملك شيئاً والدائن هو الله. فهو والحالة هذه هدف للقصاص الفظيع. والإنسان في شدته هذه تحرى عن وسائل كثيرة ليطرح عن ظهره هذا الدين الثقيل. فلام الإنسان الأول الذي استحق لعنة الإله. فابتدع (الخطيئة الأصلية) وجرم الطبيعة، وأنكر الغرائز الكامنة فيه، ونظر إليها كجراثيم شر وشقاء، ولعن الوجود نفسه.

وجعل رجاءه كله في العدم وفي حياة ثانية. وفي النهاية أعطى المسألة التي ناء بها ظهره طويلاً هذا الحل الغريب، إن الدين المفروض على الإنسان من قبل الله هو دين لن يقدر على أدائه الإنسان، والإله وحده يفي عن الإله. فوجد الإله أن يضحي بنفسه في سبيل حبه للإنسان واستنقاذه من دين مكتوب عليه، فتمثل إنساناً وقرب نفسه قرباناً. وبهذا الفصل الذي أداه اشترى نفوس الذين يراهم جديرين برحمته ورأفته

يتبع

خليل هنداوي