مجلة الرسالة/العدد 117/كأس تفيض

مجلة الرسالة/العدد 117/كأس تفيض

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 09 - 1935



للأستاذ محمود غنيم

لكَ اللهُ لا تشكو ولا تتبرَّمُ ... فؤادكَ فيَّاضُ وثغرك مُلجَمُ

يفيض لسانُ المرء إن ضاق صدرُه ... ويطفحُ زيتُ الكيل والكيلُ مفَعم

وهل يُطبق العصفورُ فاهُ على الشجى ... ويمتلئُ الحاكي فلا يترنَّمُ؟

تعللتُ دهراً بالمنى فإذا بها ... قواريرُ من مسِّ الصَّبا تتحطَّم

لعمرك ما أدري على أيِّ منطق ... أُشاهدُ في مصرَ الحظوظَ تقسَّمُ

حملنا على الأقدار وهي بريئة ... وقلنا: هي الأقدارُ تُعطي وتَحرِم

فمن يَك ذا قُرْبى وصهر فأنني ... بمصرَ وحيدُ لا شقيقُ ولا حَم

فلا غروَ أني قد سكنتُ بأرضها ... كما سكنت أهرامُها والمقطَّم

وقفت مكاني لا أرِيم وإِخْمَصي ... على الشوك من طول السُّرَى تتورّم

كأني إطارُ دائرُ حولَ محور ... يسير بلا بطءٍ ولا يتقدَّم

وما أنا ممن تخطئ العينُ مثلَه ... ولكن تعامى القومُ عنيَ أو عَمُوا

أيذوي شبابي بين جدران قرية ... يبابٍ كأنَّ الصمتَ فيها مخيِّم

أكادُ من الصمت الذي هو شاملي ... إذا حُسِبَ الأحياءُ لم أك منهمُ

وعاشرتُ أهليها سنين وإنني ... غريبُ بإحساسي وروحيَ عنهمُ

يقولون: خضراءُ المرابع نضرَةُ ... فقلتُ: هبوها لستُ شاًة تسَوِّمُ

على رسلِكم إني أقيمُ بقفرةٍ ... يجوز على الأحياءِ فيها الترحُّم

سئمتُ بها لوناً من العيش واحداً ... فدارِي بها داري وصحبي همُ همُ

حياةُ كسطح الماء والماءُ راكدُ ... فليس بها شيءُ يَسُرُّ وُيؤلم

وما أبتغي إلا حياةً عنيفةً ... تسرّ فأرضى أو تسوءُ فأنقِم

حياةُ كلجِّ البحر والبحرُ زاخرُ ... تدُوِّي بها الأنواءُ والرعد يَهزِم

حياةُ بها جِدُّ ولهوُ، بها رضاً ... وسُخْطُ، لها طعمان: شهدُ وعلقم

فمن مبلغُ بنت المعز بأن لي ... فؤاداً عليها كالطيور يحوِّم؟

وأَنيَ من سبعٍ خلَوْنَ محافظُ ... على العهد إن خان العهودَ متَّيم فان تجفني مصرُ فحسبيَ أنني ... أحُج إليها كلَّ عام وأُحرم

حنانيك إني قد برمتُ بفتيةٍ ... أروحُ وأغدو كلِّ يومٍ إليهمُ

صغارُ نربيهم بمثل عقولهم ... ونبنيهمو لكنَّنا نتهدَّم

لأُوشِكُ أن أرتدَّ طفلاً لطولِ ما ... أُمَّثل دورَ الطفل بين يديهمُ

فصولُ بدأناها وسوف نعيدها ... دواليكَ، واللحنُ المكرَّر يُسأم

وما كنت أُعْنَى بالنتيجة طالباً ... فصرت بها في هدأة الليلِ أحلُم

فمن كان يرثى قلبُه لمعذَّبِ ... فأجدر شخصٍ بالرثاءِ المعلِّم

على كتفيهِ يبلغُ المجدَ غيرُهُ ... فما هو إلا للتسلُّق سُلَّمُ

وَدِدْتُ لَوَ أنّي عدت للدرس ناشئاً ... أسيرُ وفي يمناي لوحُ ومِرقم

يقولون: منطيقُ أغرُّ بيانهُ ... فقلت لهم: لكنَّ حظِّي أبكم

أرى الحظُ مُنقاداً لكل مهرِّج ... فأما على الأكفاء فهْو مُحرَّم

يفوز به من يقطع السْبل مُلحفاً ... ويغشى بيوتَ الناس والناسُ نوَّم

ورُب أمور يخجل الحرَّ ذكرُها ... وبعضُ الذيُ يرْوَى عن الناس يُكتم

وكائن ترى الحرَّ الأبيّةَ نفسُه ... يضيع له حقُ وآخرُ يُهضم

فيا ليتني أغضيتُ جفني على القذَى ... وعلَّمت نفسي بعضّ ما ليس تَعلم

فلو أن نفسي طاوعتني فرضتها ... على الهوْن لم أخسَرْ وغيريَ يغنم

ألا فليَسُدْ من شاء حسبيَ أنني ... ضَنَنْتُ بماء الوجه حين تكرَّموا

نظمتُ فما أطريت غيري تزلُّفا ... ولكن لنفسي لا لغيريَ أنظم

ولم أتغزَّل في الكرام وفضلهم ... وغيري بهم لا بالكواعبِ مُغرم

وإني لمغبونُ إذا صرتُ قيصراً ... وطوَّق بالنعماء جيديَ منْعم

(كوم حماده)

محمود غنيم