مجلة الرسالة/العدد 120/القصص

مجلة الرسالة/العدد 120/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 10 - 1935



صور من هوميروس

10 - حروب طروادة

معركة بين الآلهة. . .

للأستاذ دريني خشبة

وقفت نَدْمانَةُ الآلهة (هيب) اللعوب الهيفاء، تسقي أربابها خمراً! وكان الأولمب يزخر بسادته

فهذا زيوس العظيم مستوياً على عرشه الضخم المرصع بالجوهر والياقوت

وهذا أبوللو سيد الشمس، وصاحب القوس، يوقع على قيثارته أشجى ألحانه

وهذا فالكان، الحداد القذر، قد بدا في حلة جديدة ذات ألوان صارخة

وذاك مارس الجبار، إله الحرب، يلاعب الأسنة، ويداعب الصَّعْدَةَ المُرِنَّة

وذلك هرمز، عزرائيل هيدز الكريم، ورسول الآلهة إلى سكان الأرض، يرسل في الملأ نظراته الساخرة، ونكاته المنكرة

وهذه حيرا،، مليكة الأولمب، تود لو تضرم النار في قصور مولاها، إن لم يقض بانتصار الإغريق!

وهذي مينرفا. . . الحكيمة الراشدة. . . تصمت صمتاً أبلغ من وحي الأولمب كله، ترى هل تستطيع تسخير هذه العصبة من الأرباب لسحق باريس وقومه وأحلافه!

ثم طائفة كبيرة من الآلهة وأنصاف الآلهة. . .

وهيب اللعوب تسقي الجميع خمراً!!

وللخمر الأولمبية، كما لخمر هذه الأرض، نشوة وسورة، ولها على رؤوس أربابها صولة وسلطان، وهي مثلها تُرَوِّي حتى تبلغ المُشاش، وتتغلغل حتى لتمتزج بالدم!

وهيب تروح وتجيء، حلوة بسامة. . . كأنها مدامة!

وروى الجميع إلا حيرا!!

وانتشى الجميع إلا مينرفا!! لقد كانتا ما تفكران إلا في هذه الساحة الحمراء، وما يقع فيها من بلاء!

أليس قد ذهب الهيلانيون ينتقمون لكبريائهما من باريس ومن قوم باريس؟

ألم تنصح عروس الماء، إيونونيه، لباريس ألا يصيخ لفينوس، وأن يعطي التفاحة لمينرفا؟

ألم تحذره من التعرض لنقمة الربتين العظيمتين؟

غير أنه أبى!!

وآثر الجمال والحب، ثم الشقاء والحرب، مع فينوس، على القوة والصولة، والملك الكبير، والحكمة والنورانية، مع حيرا أو مينرفا!!

وبذلك جلب على نفسه وقومه وبال هذه الحرب ونكالها!

وليس اليوم أروح إلى قلب حيرا، وأرضى إلى نفس مينرفا، من أن تنصرا جحافل الهيلانيين، وتثبتا في ساحة الحرب أقدامهم!

ولكن أخيل منفرد في معسكره وهو مفئود محزون!

وقد وعدته أمه بالأثئار له، وكلمت فيه زيوس سيد الأولمب، ولم تزل به تسلط عليه ذكريات غرامهما القديم حتى زلزلت أركانه، وسلبت جنانه، وانتزعت منه وعداً قدسياً بأن ينتقم من أجاممنون، وجنوده لأخيلها العزيز!

تانِكم إذن حيرا ومنرفا

وذاكم زيوس كبير أرباب الأولمب

أما أبوللو، فهو لا ينسى أن فضحه أجاممنون في بنت كاهنه، وهو ما يفتأ يتربص بالقوم، ويدبر لهم سوء المنقلب!

وأما فينوس،. . .،. . .؟. . .

فتلك أبر بباريس وبقوم باريس، وهي أبداً ستحمي باريس وجند باريس!! لأنها ستذكر له أبداً أنه نصرها على حيرا. . . وأيدها على مينرفا!!

وكذلك أوقدت هذه الحرب العداوة والبغضاء بين الآلهة، وأضرمت النيران في قصور الأولمب!

فللآلهة في جبل (إيدا) معسكران، كما لبني الموتى حول طروادة معسكران!!

أوشك منالايوس أن يفتك بباريس، لولا أن أنقذته فينوس ولقيته هيلين عاذلة مغضبة، لكنه نسي نفسه بين ذراعيها، واستماحها أن تدع حديث الحرب إلى نشوة الحب،. . . (على أن أعود فأثأر لنفسي من منالايوس العنيد، الذي لولا حماية مينرفا وحيرا له لبطشت به وجعلته خبراً في الذاهبين. . .)

وكان العهد بين بريام الملك، وأجاممنون قائد الهيلانيين، أن يلقي المغلوب السَّلمَ، فلما فرّ باريس تقدم أجاممنون وطلب أن يسلم الطرواديون هيلين الأرجيفيه، وأن يقدموا دروع باريس وسيفه، وفرسه، وجميع عدته الحربية، لتكون أثراً خالداً يحتفظ به الإغريق ويتوارثونه رمزاً لمجدهم الحربي، وتذكاراً لفوزهم وغلبهم

بيد أن الطرواديين رفضوا هذا الطلب: (لأن أحداً من المتبارزين لم يظفر بالآخر، ولأن قطرة من الدم لم تصبغ أديم الأرض فتكون شاهد النصر)

وكانت بين الفريق مهادنة

فخشيت حيرا ومينرفا أن يطول أمدها، واتفقتا على أن تذهب مينرفا هذه المرة أيضاً فتضع حداً لهذا السلام الذي يشمل الساحة، وأن تثير الحرب من جديد!

وذهبت مينرفا فاندست بين صفوف الطرواديين؛ وسحرت نفسها فبدت في عدة (لاودوكوس) البطل الطروادي وهيئته، ثم وترت قوسها وأرسلت سهماً مراشاً نفذ في جسم منالايوس إذ هو يبحث عبثاً عن باريس. . .

وتجددت الحرب بين الفريقين بسبب هذه السهم، فكانت حرباً زبوناً، طاشت من هولها الأحلام، وبلغت القلوب الحناجر وزاغت الأبصار فما ترى إلا حميماً. . .

وعز على فينوس أن ينهزم جند طروادة، وهم أولياؤها وصنائعها، فذكرت أن لها في أرباب الأولمب عاشقاً هيماناً يترضاها ويلتمس وصلة منها تشفي قلبه الخفق، وتداوي هواه الثائر، وأعصابه التي مزقها الحب، وأذابها لظى الغرام، فانطلقت إليه تغريه بكل ابتسامة تلين الحديد، وكل نظرة ساجية تفجر الماء من الصخر، أن يقوم من فوره فينفخ من روحه في قلوب الطرواديين، ويؤيد بنصره صفوفهم. . .

ذلك هو مارس، مسعر الحروب وموري لظاها!

وطرب الطرواديون لوجود رب القتال في صفوفهم يناصب أعداءهم الحرب فيجعلها ضراماً، ويصلصل دروعه فيوقع في قلوبهم الرعب، ويثير في نفوسهم الهلع، ويروعهم ترويعاً. . .

وكانت إلى جانبه فينوس تنفث فيه سحرها، فكان لا يلقى فارساً إلا طعنه فيكبه على وجهه، ثم يشكه فيجفوه من الأرض، كأنما يتخذ منه هزواً وسخرياً!!

وهرع أبوللو فأمطر الهيلانيين وأبلا من سهامه التي ما مست أحداً إلا أردته، وما أقصدت صدراً إلا شقته. . .

وساء منقلب الهيلانيين!

وعز على حيرا ومينرفا أن ينهزم أصحابهما، وأن يصلوها من مارس وأبوللو نارا حامية، وهزيمة منكرة، ثم لا يكون بحسبهم ضربات مارس اللزاب، وسهام أبوللو المفوَّقة، بل تطحنهم هذه الصواعق الجهنمية التي سلطها كبير الآلهة عليهم؛ زيوس؛ سيد الأولمب، الذي أصبح كل همه أن ينتقم لأخيل بن حبيبته ذيتيس من هؤلاء الإغريق ناكري الجميل!!

وعبست حيرا عبوساً ثقيلاً، ودعت إليها مينرفا، وجلستا تفكران! وبدا لهما أن يذهبا إلى الأولمب فيستدعيا رب البحار العظيم، نبتيون، فيضع حداً لهذه القسوة التي يبديها مارس وزميله أبوللو. . .

ولكن كيف السبيل إلى غل يد زيوس، ورد صواعقه التي تنحط على الإغريق من عل، فلا تبقي عليهم ولا تذر؟

آه! لا سبيل إلى ذلك إلا بمنطقة فينوس السحرية! سستوس! تلك المنطقة العجيبة التي تغوي كل من نظر إليها، وتشعل في قلبه لظى من الهوى، وضراماً من الحب. لا بأس إذن من ممالقة فينوس حتى تنزل عن منطقتها أياماً لمليكة الأولمب وكبيرة رباته، ثم لتذهب مليكة الأولمب بمنطقة فينوس لتعبث كثيراً - أو قليلاً - بقلب زيوس، الذي ما يفتأ يرسل صواعقه على الإغريق من جبل (إيدا)، وليس شك أن سيصبو زيوس حين يرى منطقة فينوس تزين خصر حيرا وتبرز مفاتن صدرها؛ فإذا عصفت به فورة التشهي، وحاول قبلة واحدة من آثر زوجاته إليه، فلا بأس من أن تمنحه إياها. . . ولكن. . . لتنتهز سكرته العميقة وتسلط عليه إله النوم الجبار - الذي هو دائماً في خدمتها أينما سارت - فيغرقه في سبات عميق، ويظل به يداعب أجفانه، ويعسل أحلامه، حتى يكون نبتيون قد انكشف لمارس وصاحبه، وأجنادهما، فيقذف الرعب في قلوبهم، ويزلزل أركانهم، ويوهي عزائمهم؛ ويختلط حابلهم بنابلهم فيولون مدبرين لا يلوي أحد على أحد!. . .

وقد أفلحت خطة حيرا. . .

فهذا مارس ما يكاد يلمح نبتيون حتى يذكر هذه الأيام السوداء التي صب عليه فيها رب البحار سوط عذابه، فيخفق قلبه، وترتعد فرائصه، ويكبو زنده، وتذهب ريحه وتنحطم شوكته. . . ثم يقذفه نبتيون بسهم، وقل أن تطيش سهام نبتيون، فيصرخ إله الكريهة صرخة كريهة، وينفتل من الحلبة الحمراء مولياً عقبه، ساخطاً على فينوس، وما يجر إليه غرام فينوس!!!

وولى في أثره أتباعه الطغاة، آلهة الشرور، إيريس رب الشغب، وفوبوس رب الرعب، وميتوس رب الخوف، وديميوس رب الفزع، وباللور رب الهلع. . . عصبة الإجرام وشرذمة الآثام، والطغمة الباغية من أوشاب الأرباب!!

وأفيق الإغريق مما حل بهم من روع. . .

ونظروا فرأوا مارس وملأه مولين الأدبار، والدم يتدفق من جراحهم جميعاً؛ فأفرخ روعهم، وأمن سربهم، ثم لموا شعثهم وهجموا على أعدائهم هجمة رجل واحد، فأدالوا لأنفسهم، وثأروا لكبريائهم، وانصرفوا يتفقدون جرحاهم، ويحرّقون جثث قتلاهم الشهداء!

يا للهول!

لقد قتل إمبريوس البطل! قتله تيوسير، غير راحم شبابه، ولا مبق على عوده الفينان!

وأمفيما خوس!! لقد صرعه هكتور بن بريام، غير راث لأمه العجوز الهرمة، ولا آبه بالباكين حوله والمعولين!!

وديوميد!! زين شباب هيلاس، وآثر فتيانها إلى قلوب الآلهة! لقد جرحه باريس بسهم أوشك أن يكون قاتلاً! لولا أن أدركه جنوده فأسعفوه، وضمدوا جرحه وإلى المعسكر حملوه!

وأجاممنون! لقد برز في المعمعة، ودل على الفروسية التي بهرت الطرواديين، بيد أنه أصيب بسهم نفذ فيه، فارتد على عقبه يصرخ ويتلوى!

وأوليسيز!! أوليسيز العظيم!! لقد أرسل إليه سوكوس، أمهر رماة طروادة، بسهم مفَوَّق، فجعله ينتفض كما ينتفض المحموم، ويخر إلى الأرض فيتأود كمن لدغته أفعى، ولولا أن أدركه أجاكس ومنالايوس فأسعفاه لكان من الغابرين! وأجاكس كذلك! لقد أتاه سهم كاد يذهب به لولا بقية من حياة!!

ومخاون! لقد روعه باريس هو الآخر فشكى وبكى!!

أرأيت؟

لقد نال الطرواديون وأحلافهم من جموع الهيلانيين، ولولا أن أغاث هؤلاء نبتيون القاهر، لكانت ملحمة فاصلة في هذه الحرب الشعواء!

وكأن السماء قد أيقظت ضمائر اليونانيين، وبرهنت لهم أن أخيل ما دام لا يخوض معهم المعمعة، فلا نصر لهم ولا غلبة، ولا محيص من هذه الهزائم المتتالية، والجروح التي لما تكن قصاصاً لولا أن أدركهم نبتيون!

عرف اليونانيون هذا، وآمنوا بعد هذا الفزع الأكبر أن لو كان أخيل بينهم يوم هذه الكريهة لما حفلوا بمارس وأتباعه، ولأظفرتهم آلهتهم بأعدائهم، ومارس وملئه، وأبوللو وجنوده جميعاً. . .

وانطلق نسطور فعرض على أجاممنون مصالحة أخيل وإرضاءه، وبعد لأي رضى القائد العام أن ينطلق نسطور وأوليسيز وأجاكس وفونيكس إلى معسكر أخيل، مندوبين عن القائد، ليعرضوا عليه صلحاً شريفاً، وموثقاً كريماً، يرضاه الطرفان؛ ولكن أخيل يثور لكرامته، ويأبى إلا. . . بريسيز. . . ثم لا يشترك في حرب ضد الطرواديين. . .

ويلح أوليسيز على صديقه القديم. . . . ولكن صديقه القديم ما يزداد إلا شماساً، وما يزداد إلا أنفة. . .

ويكون فونيكس قد نالت منه حجج أخيل، ويكون قد خلبه بيانه، وبهره حسن منطقه، وطلاقة لسانه، وعظيم شجاعته، فيؤثر البقاء معه، مخاصماً الهيلانيين جميعاً حتى يرضى أخيل فيتركه أوليسيز وصاحباه، ويعودون إلى أجاممنون. . . بخفي أخيل!!

وهكذا تتم كل هذه الأحداث الجسام. . .

وزيوس يغط في نومه الهادئ الناعم يوماً بأكمله. . حتى يبطل السحر، وتذهب الرُّقية، فيهب الإله الأكبر من سباته حيران أسفاً. . . لأنه ينظر من ذروة جبل إيدا، فيرى إلى نبتيون الجبار يصول في ساحة طروادة ويجول، ويصرع الأبطال، ويجندل الأقران، ويرى إلى مارس العتيد، وجنوده الأقوياء، يفرون من وجه سيد البحار، لا يلوون على شيء. . .

ويرى أيضاً إلى أخيل ما يزال منفرداً في فسطاطه، قريباً من سفائنه، والحزن يمضه، ويوهي جلده، فيحزن الإله الأكبر وينفذ إيريس إلى نبتيون ليزجره، ويأمره أن يغادر المعمعان في الحال، وإلا أرسل عليه سيد الأولمب صواعقه، وهناك لا يكون له حول ولا تكون له قوة. . .

ويغادر نبتيون الموقعة، ولكن بعد دمر الطرواديين تدميراً!. . .

(لها بقية)

دريني خشبة