مجلة الرسالة/العدد 120/رحلة إلى حدود مصر الغربية

مجلة الرسالة/العدد 120/رحلة إلى حدود مصر الغربية

مجلة الرسالة - العدد 120
رحلة إلى حدود مصر الغربية
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 10 - 1935



مرسى مطروح، سيوه، السلوم

للأستاذ الرحالة محمد ثابت

شددت رحالي إلى الناحية الغربية من الديار المصرية، تلك الناحية التي نجهل عن أهلها الشيء الكثير، فكان أن بدأت بخط أدكو ورشيد، فمررنا بأراض شبه صحراوية، بها مزارع متناثرة غير متصلة، وبخاصة حول أدكو، وهنا أدهشني نشاط الأهلين في الكد وراء كسب عيشهم حتى الأطفال، فتراهم لا يضيعون من وقتهم شيئاً، يخرجون جماعات لصيد السمك أو الطيور، ويتجرون في ذلك كباراً وصغاراً، وأنت ترى جموعهم تتهافت على القطار يعرضون عليك سلعهم هذه، فإن أعوزهم المشترون عكفوا على دورهم يأكلون ما تخلف معهم من سمك كثير وطير وفير؛ لذلك كنا نلمس في أجسادهم وفرة التغذية والامتلاء، ومن السلع المنتشرة هنالك البيض والليمون، أما غابات النخيل فهي في كثرة فائقة، ومنها نستمد البلح الرشيدي (الزغلول) ذائع الصيت. ولقد مررنا بتفتيش إدفينا، وهنا تجلت المجهودات الجبارة التي بذلت في استثمار تلك الأراضي التي كانت بائرة نزة، فلقد زودت بالمصارف والمضخات والقنوات، فأضحت جنة يانعة، وهي ملك للخاصة؛ ويا حبذا لو شمل ذلك الإصلاح ما جاورها من متسعات لا يزال أمرها مغفلاً مهملاً، وهنالك بعض الشركات الأجنبية تشتري المساحات الشاسعة وتتعهدها بالإصلاح، فهلا قامت الحكومة بذلك أو ساعدت الأهلين عليه حتى لا تزيد في ملكية الأجانب وامتيازاتهم في بلادنا؟ دخلنا رشيد فحاكت بلدا عتيقاً، بيوته بالآجر الأحمر الصغير لا يكسوه ملاط، وهي تقوم على النيل، ومن أظهر ما يسترعي نظرك مداخن لا حصر لها هي لمضارب الأرز أنشط جهات العمل في البلدة، وعلى مسيرة زهاء خمسة كيلو مترات يلتقي النيل بالبحر في لسان شبيه بذاك الذي في رأس البر، ولقد كان ماء هذا الشهر عذباً (أغسطس) بعد أن ظل مالحاً ستة شهور قبل ذلك من طغيان ماء البحر على النهر، وسيظل الماء عذباً بقية العام؛ ويجاور البلد عدد من الملاحات، ونرى زوارق الصيد يغص بها النهر والبحر، ومهنة صيد السمك رئيسية هنالك

عدت إلى الإسكندرية، وقمت صوب الغرب إلى مطروح مسافة تزيد على 300ك م، ثلاث أرباعها بسكة الحديد إلى محطة فوكه وبعدها بالسيارات الكبيرة، وكان قد أنشأ ذاك الخط سمو الخديو السابق رغبة في تعمير تلك الناحية التي كان يمتلك جل أراضيها ويحاول إصلاحها، لكنه اعتزم أن يبيع الخط للطليان، فسارعت الحكومة بشرائه منه، ولقد سار القطار إلى جانب مستنقعات بحيرة مريوط وصحرائها الملحة طويلا، ومر بمحطة (اكنحي مريوط)، ولعل أكبر البلاد (الحمام) العاصمة التجارية لتلك الناحية، أما الأهلون فهم قليلون مشتتون في خيامهم، ولهم لهجتهم العربية المحرفة، وقد كنا نقف على المحطة فلا نرى من المساكن شيئاً سوى أبنية عمال المحطة، فنتساءل أين البلدة؟ فيقولون: ليس هناك من بلد، والأهلون متفرقون في مساحة شاسعة من الأرض حولها، ويبدو عليهم العوز والجوع، وبخاصة في هذا العام الذي تخلف فيه المطر فأجدبت منابت الشعير، وكنا نرى مساحات الأراضي التي (عزقها) أصحابها وبذروا فيها الشعير كعادتهم وتركوها حتى ينزل عليها مطر الشتاء فيسقيها، وعند اقتراب نضجها يعودون من جولاتهم الطويلة - التي قد تصل بهم إلى داخل مديرية البحيرة - ويحصدونها

وبعد مسير ثماني ساعات ونصف من الإسكندرية أشرفنا على مرسى مطروح في خليج هلالي، تقوم المباني على جوانبه في شوارع متعامدة أبعادها تكاد تكون متساوية وهندستها موحدة بسيطة، فجلها شبه مربعات من طابق واحد يكسوه الطلاء الأبيض، وقل أن تجد بناء يشذ في علوه أو لونه وهندسته، والشوارع هناك فسيحة، ويبدو عليها المظهر الصحراوي في ندرة النبت، وإن حاولت المحافظة استنبات بعض الأشجار القليلة على جوانب الطرق؛ وهناك بيت المحافظ الإنجليزي - ومطروح تعتبر عاصمة محافظة الحدود الغربية - يشرف على البحر، ويليه بيت وكيل المحافظ وسائر الموظفين. ومما يذكر للإدارة هناك بالفخر، عنايتها بالنظافة التامة، ورعاية صحة الأهلين والرقابة الخلقية عليهم؛ ولقد أعدت للموظفين نادياً صغيراً جميلاً على البحر زود بصنوف الحلوى والمرطبات وأدوات اللعب البريء وبجهاز للراديو يسري عنهم في معيشتهم المنعزلة الموحشة؛ وتضاء الشوارع بالمصابيح الكبيرة التي تقلل من وحشة سكون الليل الرهيب هنالك. وخير ما يتجلى منظر البلدة في كامل روائه من الاستراحة الحكومية التي أقيمت على النجاد التي أدت بسيارتنا إلى شاطئ خليج مطروح؛ وفي ناحية نائية من غرب مطروح مسجد أنيق (لسيدي العوام) بطل المنطقة وقد بناه الخديو السابق كما بنى كثيراً من المساجد في بلدان خط مريوط، وكانت تقوم حوله طائفة من مساكن الأعراب فعوضتهم عنها الحكومة وأزالتها وأقامت مصيفاً يسمونه الليدو، فبدأت بنزل فاخر زودته بكافة وسائل الترف والراحة وجعلت أجر المقام به نصف جنيه في اليوم، ثم أقامت حوله بيتين صغيرين أنيقين (فلآت) لمن يريد الاستئجار. على أن عزلة المكان وبعده وافتقاره إلى وسائل اللهو قد زهد المصيفين فيه، إذ أني لم أحص في المصيف كله أكثر من عشرة أشخاص، فهو عندي خير مصطاف لطلاب الراحة البريئة والسكون الشامل وهؤلاء قليلون؛ ويخيل إلي أن تقدير الحكومة الصدقية كان خاطئاً إذ كلفته نيفاً وعشرين ألف جنيه لن يسد للدولة منها شيئاً. ولقد قال لي بعض الناس من سكان البلد إنها فكرة إنجليزية قصد بها أن يقيم على حساب الدولة مستراضاً للمارة من السادة الإنجليز في روحاتهم وغدواتهم على الحدود الغربية

وأهل البلد من الأعراب يسيرون في ثيابهم الفضفاضة، وسادتهم يطوقون كواهلهم بأحزمة بيضاء ثقيلة، ونساؤهم يسرن سافرات في ثياب حمراء فضفاضة أكمامها هائلة هادلة وهن على جانب كبير من السذاجة. تجلس في المقهى فترى الواحد منهم يدخل ويقف حولك يحدق فيك ويزوغ ببصره ثم يتسكع حولك ولا يكاد ينصرف حتى ترى غيره، وأطفالهم عراة جياع حالتهم تستدر العطف وتستنزل الرحمات ويكثر بينهم الزنوج السود وهم من عبيد السنوسية جاءوا بهم معهم بعد أن حرروهم لما أن طاردهم الطليان وأجلوهم عن ديارهم. ولأبناء السنوسي هناك مقام كبير بين الناس يكاد يبلغ حد التقديس. حدث مرة أن رأيت بيتاً فاخراً طلي باللون الأزرق على خلاف سائر بيوت البلدة فسألت أحد المارة بيت من هذا؟ فأجاب: بيت الأسياد. قلت: ومن الأسياد؟ فثار الرجل وصاح في نغمة الغاضب المستنكر: الأسياد! الأسياد! كيف لا تعرفهم هم آل السنوسي! ولهؤلاء جل أملاك المنطقة وأبنيتها. وإلى الجنوب الغربي من البلدة أقيم المطار في متسع هائل واستعداد كبير لاستقبال الطائرات المختلفة، وقد نزلت به أمامي طائرتان إحداهما للشركة الهولندية التي تقوم من هولندة وبتافيا، وهي طائرة كبيرة من الألمنيوم بها 14 مقعداً للمسافرين. أما الثانية فطليانية بين الإسكندرية وبني غازي وذاك خط حديث بدأ منذ أسبوعين فقط وطائرته صغيرة وفي مطروح محطة لاسلكية أساس عملها الاتصال بالطائرات خصوصاً الهولندية. أقمت في مطروح زهاء يومين في نزل إغريقي، واليونانيون هنالك نشيطون في التجارة وبيدهم غالب سيارات النقل وحوانيت البدالة والفنادق؛ وسيارات النقل هناك تقوم لثلاث جهات: فوكة وتلك كل يوم، السلوم، واحة سيوة مرة أو مرتين في الأسبوع

إلى سيوه:

قمنا مبكرين نستقل سيارات الحدود فأخذنا نسير في صحراء لا نهائية عربت عن النبت حتى الشائك منه وإن كان مظهرها في الشتاء والربيع أبهى وأجمل إذ يكثر العشب بنواره المختلف الجميل، ولا يفتأ المسافر يمر ببقاع تنمو بها أعواد الشعير، والطريق حجري في جزئه الأول، مترب في الأخير، ويمر بمجموعة من آبار أذكر من بينها: حجفة جلاز عند الكيلو 72 من مطروح - حجفة أي بئر بلغتهم - وحجفة البويب عند الكيلو 124 على مقربة من الاستراحة التي أقيمت لجلالة الملك يوم أن زار تلك الناحية سنة 1928، ولذلك يطلقون على تلك البئر أحياناً (بئر جلالة الملك) لأنه شرب منها، ثم بئر النصف في منتصف الطريق عند الكيلو 150، والمسافة كلها 300 كيلو متر، وغالب تلك الآبار رومانية الأصل كانوا يحفرونها تجاويف في الصخر تبطن بالأسمنت أو الآجر، وتعد بفتحات ضيقة يؤدي إليها ماء المطر عند سقوطه ليتراكم فيها، وعلى الفتحة الرئيسية باب وحارس يكلف بحفظها من الأوساخ ومن إسراف الناس في مائها، وأنت ترى طائفة كبيرة من السائمة وبخاصة الإبل تحوم حول تلك العيون وتتسكع في مرعاها عساها تشفي بعض ظمئها من الماء كلما مر بالبئر عابر، وقد كان يبدو على بعض الإبل عند بئر جِلاّز ظمأ شديد، ولم يرغب الحارس في سقيها، ولما سألناه عن السبب قال: لكي لا تنتجع تلك الناحية وتعتادها كثيراً فتضايقه، على أنا أجبرناه أن يسقيها هذه المرة إكراماً لنا ورأفةً بها

لبثنا نسير في ذاك الطريق الوعر ثماني ساعات ونصف الساعة - والسيارات الأخرى الكبيرة تقطعه في يوم كامل - وقبل دخولنا الواحة أخذنا في الهبوط تدريجياً، وظهرت مخاريط متناثرة من الربا، تمتد إلى الآفاق في منظر رائع جميل، ثم بدت الخضرة الشاحبة على بعد أمامنا، وذاك أول قبس من سيوه التي تنخفض عن سطح البحر بنحو 25 متراً، ثم أخذت تفاصيل المنظر تبدو في شبه غابات من النخيل مغلقة متباعد بعضها عن بعض؛ بينها ربا أقيمت عليها المباني بعضها للحكومة والبعض للأهلين

وقفنا بباب مركز البوليس، ولقينا حضرة المأمور أحسن لقاء، وقدم لنا الاستراحة لنأوي إليها، وأظهر استعداده الجميل لمساعدتنا في جولتنا العلمية القصيرة هناك، وكان قد أوصاه بنا خيراً سعادة وكيل المحافظ وبعض إخواننا من مطروح. دخلنا دار الاستراحة وقد أقيمت فوق ربوة شاهقة تشرف على الواحة وقد زودت بالشرفات تغطيها شبابيك من السلك لمنع البعوض، وقد كانت الواحة مهددة بالملاريا منذ زمان بعيد ولا يزال لها بقية إلى اليوم - ولن أنسى جلستي في إحدى تلك الشرفات ومشهد الواحة من دوني ساحر وامتداد الصحراء رهيب، وقد عني بتلك الاستراحة عناية خاصة، لأن جلالة الملك قد نزل بها في زيارته، وبها دورة للمياه فاخرة، وفي أسفلها بعض المغارات التي كان يتعبد فيها الشيخ السنوسي الكبير في زياراته لتلك الواحة قديما، وبعد أن طارده الطليان إليها. نزلت أجوب بعض أطراف البلدة فإذا بغالب بيوتها على الربى تقام من الطين المصفر الذي يحكى الطفل، وترى البيوت وكأنها الأحجار أو المغائر بعضها ركب فوق بعض وتشبه مجموعة من حصون قديمة، وليس لها من النوافذ سوى كوى صغيرة لا تكاد تسمح لضوء الشمس أن يتخللها، ولهم العذر في ذلك، لأن لفح الصيف قاتل وبخاصة في أبريل ومايو، وقر الشتاء زمهرير، وشهور أغسطس وسبتمبر خير مواسم السنة جواً هنالك. ومن أظهر ما يسترعي نظرك وسط تلك الأبنية برج مربع يدق كلما علا ويشبه المدخنة وهو مئذنة لمسجد من مساجدهم القديمة، أما سوق البلدة ومتاجرها فأقيمت في متسعات أسفل تلك الربى وزودت بطلل من الطين وجريد النخيل، ومداخل شوارعها ضيقة مسقفة، لا تشعر بأنها طرق يباح المرور فيها

(يتبع)

محمد ثابت