مجلة الرسالة/العدد 121/النقد والمثال

مجلة الرسالة/العدد 121/النقد والمثال

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 10 - 1935



للأستاذ أحمد الزين

تحدثتُ في فصلٍ سابقٍ عن المعنى، وأنه العنصرُ الأولُ من عناصر الشعر، بل هو الشعرُ نفسهُ، وقلت: إن الألفاظ ليست إلا ثوباً يحيط به، ويقدر على أجزائه، وأن حُسنها وروعتها ليست إلا وسائل يقصد بها استمالة القلوب النافرة، واجتذاب الميول الجامحة

ولست أريد بالمعنى أي معنى يخطر بالخاطر، وأول ما تتحدث به نفس الشاعر، والحقائق المجردة الأصلية التي تقع في الفكر لأول مرة قبل أن تتصرف فيها الملكة الفنية، فإن ذلك لا يسمى شعراً وليس منه في قليل ولا كثير، لأن هذه المعاني مشتركة بين جميع الأذهان، ولا فضل للشاعر فيها على غيره؛ وإنما يقصد بنظمها ضبط الحقائق المتفرقة، وضم المسائل المنتثرة على من أراده، لا التأثيرُ في العاطفة الذي يقصد إليه الشاعر بشعره، ومن ذلك قول المرحوم حافظ بك إبراهيم:

البرلمان تهيأت أسبابه لم يبق من سبب سوى المفتاح

وقوله من قصيدة يودع بها صاحب الدولة المرحوم سعد زغلول باشا في بعض أسفاره لمفاوضة الإنجليز:

الشعب يدعو الله يا زغلول ... أن يستقلّ على يديك النيل

وقوله في هذه القصيدة أيضاً:

فزعيمهم شاكي السلاح مدجّجٌ ... وزعيمنا في كفه منديل

وقوله يمدح ثلاثة من الأغنياء قد وقفوا بعض الضياع على إحدى المدارس المصرية:

ثلاثة من سراة النيل قد وقفوا ... على مدارسنا سبعين فدانا

وخالفوا سنةً في مصر شائعةً ... جرّت على العلم والآداب خسرانا

فإن عادتهم في مصر أن يقفوا ... على القبور وإن لم تحو إنسانا

فهل ترى فرقاً بين تلك الأبيات والأخبار التي تقرؤها في مختلف الصحف إذا نظمت على أجزاء العروض وبحوره؟

وكذلك قول المرحوم أحمد شوقي بك في قصيدته التي أستقبل بها مصر حين عاد من الأندلس: وكلُّ مسافر سيؤوب يوماً ... إذ رُزِق السلامة والايابا

إلا أن ما في بقية القصيدة من جلال المعاني، وعلو الألفاظ، ورقة الديباجة قد ستر ما يشعر به الأديب المتذوق في هذا البيت من عادية المعنى، وخفته وإبتذاله، وقلة خطره، واشتراك جميع الأذهان فيه

ومن هذا النوع أيضاً تلك المتون التي ينظمها العلماء في مختلف الفنون ليسهل حفظها واستذكار العلم بها على الطالب، كالشاطبية في القراءات، وألفية النحو، والبهجة الوردية في الفقه، وعقود الجمان في البلاغة، وما إلى ذلك

ومنه أيضاً ما كان ينظم في عهد الثورة المصرية من القصائد المسجلة لحوادثها لإثارة العامة. وتنشرها الصحف إذ ذاك في كل يوم لأشخاص لا يجيدون قراءة الشعر فضلاً عن قوله، فلا يلبث أحدهم أن يسمع الحادثة عن بعض الزعماء، أو يرى طوائف الجنود المدججة تجوب الأحياء، أو يسمع الخبر، حتى يجلس جلسته يسيرة يعصر فيها ذهنه، ويكد قريحته، وينشئ قصيدة طويلة الذيول، كثيرة الفضول، لا يذوق الأديب فيها للشعر طعماً، ولا يحس له فيها عيناً ولا أثراً؛ وعفا الله عن الغرابلي باشا، فكم أمطرنا سحابه الهاطل من هذه القصائد ما يصك الأذواق والأسماع، وإن أستهوى قلوب العامة والرعاع، فهذا الشعر أشبه بالخطب الشعبية منه بالقصائد الشعرية

فإذا تصرفت ملكة الشاعر في تلك المعاني الأصيلة، وتناولتها بأناملها الرقيقة الصناع، فأضافت إليها شيئاً من جمال الشعر وروعته، وسحر الفن وفتنته، ومزجتها بخيال مستعذب، أو تعليلٍ مستحسن، أو تشبيهٍ رقيق، أو مجازٍ غريب، أو تصويرٍ فاتن، أو وضعٍ حَسَن أو ترتيبٍ جميل، أو حرارة تحي العاطفة وتستثير الشجن، أو روحٍ فيها تحرك الحاسة وتجتذب الشعور، أو غير ذلك، تحولت تلك المعاني الأصيلة إلى معانٍ شعريةٍ تحسب أن صاحبها قد إخترعها، ولم تكن معروفةً لأحد قبله، ووقع الشعر من القلوب موقعه، وأصاب من كل نفسٍ موضعه؛ وكان كما قلت في صفة شعر المرحوم إسماعيل صبري باشا في القصيدة التي رثيته بها:

متلمِّسٌ من كلِّ نفس سِرّها ... ومُلامِسٌ من كلِّ قلب موضعا

طبَّ النفوس يعيد في ميت المنى ... روحاً ويبعث في القنوط المطمعا شِعرٌ إذا يتلى تكاد لحُسَنِهِ ... تَثبُ القلوب من الصدور تطلعا

فكأنها في كل بيت تبتغي ... نبأ عن الأحباب فيه أُودعا

فلو أن شعركَ كان سجعاً للقطا ... كاد الأراك مع القطا أن يسجعا

ومن المعاني الشعرية ما تراه شائعاً في شعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين ومن نهج نهجهم من التحدث إلى ما لا يفهم خطاباً، ولا يحير جواباً، كمخاطبة الأطلال الدراسة، والرسوم الطامسة، ومساءلة الديار الخالية والمغاني المقفرة عن أهلها متى رحلو؟ وأين حلو؟ والدعاء له بسقيا المطر، وأن يعود لها ما فقدته من زمان غبر، كما قال أبو تمام:

دِمنٌ ألم بها فقال سلامُ ... كم حلَّ عقدة صبره الإلمامُ

لا مرَّ يوم واحد إلاّ وفي ... أحشائه لمحلّتيك غمام

حتى تعمّمَ صَلُع هامات الرُّبى ... من نوره وتأزَّر الأهضام

ولقد أراك، فهل أراك بغبطة ... والعيش غض والزمان غلام

أعوام وصل كان ينسى طولها ... ذكرُ النوى فكأنها أيام

ثم انبرت أيامُ هجر أردفتْ ... نجوى أسىّ فكأنها أعوام

ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام

وقول مهيار الديلميّ:

سلمت وما الديارُ بسالماتٍ ... على عنتِ البلى يا دارَ هندِ

ولا برحتْ مفوَّفة الغوادى ... تصيب رُباك من خطأ وعمْد

بموقظة الثرى والترب هاد ... ومجدية الجنى والعام مكدي

على أنى متى مطرتْكِ عيني ... ففضلٌ ما سقاكِ الغيث بعدي

أميل إليكِ، يجذبني فؤادي ... وغيرُك - ما استقام السير - قصدي

وأشفق أن تبدّلك المطايا ... بوطأتها كأن ثراكِ خدّي

وعلة الجمال في ذلك أن قوة العاطفة قد ملأتْ قلب الشاعر وضاقت بها نفسه، وضعف عنها احتماله، فافضاها على ما حوله، وأسبغها على ما يشاهده من آثار الديار، والدِّمن القفار؛ متخيلاً أن لها ماله من قلب وكبد، وإنها تحس ما يحس، وتجد ما يجد؛ ومن ذلك أيضاً مخاطبة الحمائم على الغصون، والإفضاء إليها بما يكنه الشاعر من لوعة وشجون، كقول الشاعر:

تذكرني أمَّ العلاء حمائمٌ ... تجاوبن أن مالت بهن غصون

تملأ طلا ريشِكُن من النّدي ... وتخضرُّ مما حولكن فنون

ألا يا حمامات اللوى عدْنَ عَودة ... فأني إلى أصواتكن حزينُ

فعُدْن فلما عدْنِ كدْن يمتنني ... وكدتُ بأسراري لهن أبين

فلم تر عيني مثلهن حمائما ... بكين ولم تدمع لهن عيون

وقول أبي كبير الهذليّ:

ألا يا حمام الأيك إلفُك حاضر ... وغصنُك ميّادٌ ففيم تنوحُ

أفِق لا تنُح من غير شيءٍ ... فأنني بكيتُ زماناً والفؤاد صحيح

ولوعاً فشطت غربةً دارُ زينب ... فهأنا أبكى والفؤادُ قريح

ولهذا الشعر قصة طريفة لا بأس من روايتها هنا لما اشتملت عليه من المعاني الشعرية التي نحن بصدد شرحها في هذا الفصل.

لما وُلَي عبد الله بن طاهر خراسان أخذ معه عوف بن محلِّم الخزاعي؛ فلما كانا (بالرّي) جلسا تحت شجرة، فسمعا صوت عندليب يغرد، فقال عبد الله: هل سمعت مثل هذا الصوت يا عوف؟ قال: لا والله، ألا قاتل الله أبا كبير الهذلي حيث يقول: (ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ) الأبيات. فقال عبد الله بن طاهر: لقد كان في هذيل مائة وثلاثون شاعراً وكلهم مُفْلِق، وكان أبو كبير أحسنهم. بالله عليك يا عوف إلا ما أجزت هذه الأبيات؛ فقال: كبرتْ سني، وفنى ذهني، وأنكرتُ ما كنتُ أعرف؛ فقال عبد الله: أقسمت إلا ما فعلت؛ فقال:

أفي كل عام غربةٌ ونزوح ... أما للنوى من وَنيةٍ فتريح

لقد طلَّح البين المشتُّ ركائبي ... فهل أرينَّ البين وهو طليح

وشوقني (بالرَّيّ) نوح حمامة ... فنحت وذو اللّبِ الغريب ينوح

على إنها ناحت ولم تُذْرِ دمعةً ... ونحت وأسراب الدموع سفوح

وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مَهامهِ فِيح

ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ ... وغصنك مَيَّادٌ ففيم تنوح

عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتلقى عصار التَّسيار وهي طروح فإن الغنى يُدني الفتى من صديقه ... وعدْم الغنى بالمعسرين نزوح

فبكى عبد الله بن طاهر وحلف ألاُ يعمل معه خفاً ولا حافراً إلا بالرجوع إلى أهله، وأمر له بثياب ودنانير؛ فقال عوف:

يا ابن الذي دان له المشرقان ... طُرَّا وقد دان له المغربان

إنَّ الثمانينَ وَبلِّغتُها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

وبدّلتني بالشطاط انحِنا ... وكنتُ كالصعدة تحت السنان

وبدّلتْني من زَماع الفتى ... وهمّتي همَّ الجبان الهِدان

وقاربت مني خُطى لم تكنِ ... مقارباتٍ وثنتْ من عِنان

وأنشأتْ بيني وبين الورى ... عنانةً من غيرِ نَسج العنَان

ولم تَدَع فيَّ لمستمعٍ ... إلا لساني وبحسْبي لسان

أدعو به الله وأثني به ... على الأمير المُصْعَبيِّ الهِجان

فقرّباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان

وقبلً منعايَ إلى نسوةٍ ... أوطانها حران والرفتان

أما أمثلة المعاني الشعرية من شعر المعاصرين، فمن ذلك قصيدة (مصاير الأيام) للمرحوم احمد شوقي بك، فقد بلغت هذه القصيدة من جمال الفن، ووفرة هذه المعاني الفاتنة غايةً لم تبلغها قصيدة أخرى من شعر المعاصرين، وأنا انصح للأدباء والتادبين بحفظها وروايتها فأنها تعتبر بحق من معجزات الشعر الحديث لما فيها من دقة في تصوير الحياة بجميع مراحلها حتى ليخيل لك أنها حياة كاملة من مبدئها إلى نهايتها يقول في أولها:

ألا حبِّذا صحبةُ المكتبِ ... وأحْبِبْ بأيامه أحْبِبِ!

ويا حبذا صبيةٌ يمرحون ... عِنانُ الحياة عليهم صَبي

كأنهمُ بَسماتُ الحياة ... وأنفاسُ رَيحانها الطيّبِ

يُراح ويُغدى بهم كالقَطيع ... على مشرق الشمس والمغرب

إلى مَرْتع الفِوا غيَره ... وراعٍ غريبِ العصا أجنبي

ومستقَبلٍ من قيود الحياة ... شديدٍ على النفس مستصعَب

فراخ بأيكٍ فمن ناهضٍ ... يروض الجناحَ ومن أزغَبِ تقاعدُهم من جَناح الزمان ... وما عملوا خطرَ المْركَب

عصافيرُ عند تهجّي الدروس ... مِهارٌ عرابيدُ في المَلْعب

خليّون من تبِعات الحياة ... على الأمّ يُلقونها والأب

جنونُ الحداثة من حولهم ... تضيق به سَعةُ المذهب

عدا فاستبدّ بعقل الصّبّي ... وأعدَى المؤدِّبَ حتى صبي

لهم جَرَسٌ مطربٌ في السراح ... وليس إذا جدّ بالطرب

توارت به ساعةٌ للزمان ... على الناس دائرةُ العقرب

تَشُول بإبرتها للشباب ... وتقذف بالسمّ في الشُّيب

يَدقّ بمطرقتيها القضاء ... وتجري المقادير في اللولب

وتلك ألا واعي بإيمانهم ... حقائب فيها الغد المختبي

ففيها الذي أن يقم لا يُعَد ... من الناس أو يَمضِ لم يُحسب

وفيها اللواء وفيها المنار ... وفيها التبيع وفيها النّبي

وفيها المؤخَّر خلف الزحام ... وفيها المقدمّ في الموِكب

ويقول في آخرها:

قد انصرفوا بعد علم الكتاب ... لبابٍ من العلم لم يكتب

حياةٌ يغامر فيها امرؤٌ ... تسلح بالناب والمخلب

وصار إلى الفاقة ابن الغنّي ... ولاقى الغني ولد المترب

وقد ذهب الممتلئ صحة ... وصح السايم فلم يذهب

وكم منجب في تلقي الدروس ... تلقى الحياة فلم ينجب

وغاب الرفاق كأن لم يكن ... بهم لك عهدٌ ولم تصحب

إلى أن فنوا ثلةً ثلةً ... فناء السراب على السبسب

ولنذكر لك مثالا أخر للمعنى الشعري من شعر شوقي أيضاً موضحين لك معناه الأصلي، وكيف استطاع صاحبه أن يحوله إلى معنى شعري بما أدخله عليه من المحسنات التي تلعب بالألباب لعب الشمول، قال يصف أبا الهول:

أبا الهول طال عليك العصُر ... وبلغت في الدهر أقصى العمُر فيالدةَ الدهر لا الدهر شاب ... ولا أنت جاوزتَ حد الصغر

إلامَ ركوبك متن الرمال ... لطيِّ الأصيل وجَوْب السحر

تسافر منتقلاً في القرون ... فأيان تلقى غبار السفر

أبينك عهدٌ وبين الجبال ... تزولان في الموعد المنتظر

الخ. . .

فإن المعنى الأصلي لهذه الأبيات لا يزيد على أنه يصف أبا الهول بطول البقاء، وأن العصور المتوالية والأجيال المتعاقبة لم تنل منه منالاً، ولم تصدع له بناء، فأنظر إلى عبقرية شوقي كيف أتت بذلك المعنى اليسير واستخرجت منه تلك المعاني الكثيرة الساحرة ومزجته بتلك المحسنات الفاتنة؛ أتراه لو انه اقتصر على نظم المعنى الأول كان يعده أصحاب الذوق الشعري قد صنع شيئاً أو أتى بجديدة؟ ولا يفوتنا في هذا الفصل التنبيه على وفرة هذه المعاني الشعرية الساحرة، وقوة الجمال الفني الرائع في شعر الرافعي، فانك تحس بذلك الجمال في كل بيت من ابياته، بل في كل من نثره، بل فيه هو إذا جلست إليه وتحدث اليك، فهو شعر كله؛ وإنما انسب الغموض المتوهم في بعض أبياته إلى قصور ذهن المتوسطين من القراء، والى ضيق الألفاظ المحدودة، عن أن تحصر هذا الجمال المعنوي الذي لا يحد؛ إلا إنني أرى أن معانيه من صنعة الفكر وابتكار الذهن، لا من وحي العاطفة وإملاء الإحساس. واليك بعضاً من شعره ليتبين لك صحة ما ذهبت إليه؛ قال يصف بائسة حسناء أفقرتها الحرب:

طريدة بؤس ملّ من بؤسها الصبرُ ... وطالت على الغبراء أيامها الغُبر

وكانت كما شاءت وشاء جمالها ... كما اشتهت العليا كما وصف الشعر

تلألأ في صدر المكارم دُرَّةً ... يحيط بها من عِقد أنسابها درّ

وما برحت ترقى السنين وتعتلى ... وكل المعالي في طفولتها حِجْر

فكانت كَزهر نَضرّ الفجرُ حسَنه ... ولما علت كالنجم أطفأها الفجر

تقاسمت الحسْن الإلهي واُنثنى ... يقاسمها، فالأمر بينهما أمر

فللشمس منها طلعة الحسن مُشرقاً ... وفيها من الشمس التوقد والجمر

وللزَّهر منها نفحةُ الحسن عاطرا ... وفيها ذُبولٌ مثلَما ذبلَ الزهر وللظبي منها مقلتاها وجيدها ... وِفيها من الظبي التلفت والذعر

وما قيمة الحسناء يقبح حظها ... وتذوي بروض الحب أيامها الخُضْر

فما الحسن فخر للحسان وإنما ... لخالقه فيما يريد به سِرّ

ضعيفة أنفاس المنى بعد ما غدت ... رقابُ أمانيها يغلّلها الفقر

وبين خُطَى أيامها كل عَثرةٍ ... يزلزل أقدامَ الحياة بها العُسر

وزَجت بها الأحزان في بحر دمعها ... وليس لبحر الدمع في ارضنا بر

إذا استنبؤها أرسلت من دموعها ... لآلى حزن كلّ لؤلؤةَ فكرْ

وان سألوها لجَلجَت فكأنما ... عرا اللفظ لما مرّ من فمها سكْر

مشرَّدة حيرى تنازَعَ نفسها ... فريقان ذلٌ لم تعوَّده والكبرْ

إلى أن قال في هذه القصيدة يصف ما في الإنسان من شر وسوء:

رأت كل مخزاة من الشر تلتوي ... ويهرب ذعراً من جنايتها العذر

رأت أثراً تَدمى به الأرض والسما ... وليس سوى الإنسان في جرحه ظُفر

أليس يرى الإنسانُ في القرد شِبَهُه ... فهل ذاك إلا من تكبّره سُخْر

كما عاقب الله الأسود لكبرها ... فجاء لنا في صورة الأسد الهرِّ

وهي طويلة

فقد عرفت ألان نوعين من المعاني وعرفت الفرق بين المعاني الأولية والمعاني الشعرية التي هي من مقومات الشعر وأصوله فينبغي للشاعر إذا أراد أن يكون شعره مخصب المعاني، متنوع الاغراض، ان يقصد إلى المعنى قبل ألفاظ البيت وقافيته، فيمزجه بالمحسنات التي سبق ذكرها، ويهذبه تهذيباً يقربه من العواطف ليحدث فيها اثره، ويبعث الحياة فيما همد منها. وبعض الشعراء قد تعوزهم من البيت قافية فيتطلبونها قبل المعنى، ويتلمسونها قبل إعداد الغرض، فإذا ظفروا بالقافية آتوا بالمعنى على مقتضاها، فيخرج الشعر مكبلة معانيه، مظلمة نواحيه، ضيق المقاصد، قليل الأغراض؛ وكثيراً ما ترى ذلك أيضاً في شعر شعراء البديع الذين لا يقصدون من البيت أو القصيدة إلا إلى ذلك النوع البديعي الذي لا يحرك نفساً، ولا يهز حساً، فقد أجهزوا على الشعر بالحرص على هذه المحسنات اللفظية إجهازاً تاماً، وصيروا البكاء عليه في جميع الأقطار عاماً، واليك أبياتاً من قصيدة لصلاح الدين الصفدي كتب بها إلى صديقه جمال الدين بن نباته المصري، وقد ضمنها شطرات من معلقة امرئ القيس التي أولها: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) وجعل صدر كل بيت من شعره وعجزه من قصيدة امرئ القيس، قال:

أفي كل يوم منك عتب يسؤني ... (كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ)

وتَرمى على طول المدى متجّنياً ... (بسهميكَ في أعشار قلب مقتَّل)

فأمسِي بليل طال جنح ظلامه ... (عليّ بأنواع الهموم ليبتلى)

وأغدو كأن القلب من وقدة الجوى ... (إذا جاش فيه حَميهُ غلى مِرجَل)

تطير شظاياه بصدري كأنها ... (بأرجائه القصوى أنابيشُ عُنصُل)

وسالت دموعي من همومي ولوعتي ... (على النحر حتى بل دّمعيَ محملي)

وهي طويلة، وقد أجابه ابن نباته بقصيدة مثلها ضمنها شعر امرئ القيس أيضاً، قال:

فَطَمَت ولاَئي ثم أقبلت عاتباً ... (أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلل)

بروحيَ ألفاظ تعّرض عتبُها ... (تعّرضَ أثناء الوشاح المفصّل)

فأحيين وداً كان كالرسم عافياً ... (بسقط اللوى بين الدخّول فحومل)

تعفىِّ رياح الغدر منك رقومَه ... (لمِا نسجَتها من جنوب وشمأل)

نعم قَوِّضتْ منك المودّةُ وانقضت ... (فيا عجبا من رحلها المتحمّل)

وهي طويلة أيضاً

فهل ترى في هذا الشعر غير المقدرة على الملاءمة بين شعرهما وشعر امرئ القيس، والمهارة في التوفيق بين المعاني المتباعدة، والأغراض المتباينة؟ على أن هذه المقدرة ضائعة القيمة حقيرة الخطر إذا قيست بما جره تكلف التضمين على هذه الأبيات من تفاهة وبرود، وخلوها من روح الشعر. ولنا في هذه الفصول عودة إلى شعراء البديع وغيرهم ممن يحرصون على إظهار المقدرة اللفظية اكثر من غيرها في شعرهم.

احمد الزين