مجلة الرسالة/العدد 121/عصبة الأمم وتطبيق العقوبات

مجلة الرسالة/العدد 121/عصبة الأمم وتطبيق العقوبات

مجلة الرسالة - العدد 121
عصبة الأمم وتطبيق العقوبات
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 10 - 1935



تحريم الحرب من الوجهة الدولية وتشبيه الدولة بالفرد في قمع

الاعتداء

لباحث دبلوماسي كبير

لأول مرة في التاريخ نشهد قراراً دولياً بأن حرب الاعتداء وسيلة غير مشروعة لتحقيق غايات السياسة القومية، ولأول مرة في التاريخ تصدر دول العالم ممثلة في عصبة الأمم حكمها على دولة أوربية عظمى هي إيطاليا بأنها دولة معتدية، وإنها بغزو الحبشة ترتكب خرقاً لقانون الأمم؛ بل نشهد في الواقع ما هو أعظم من الأحكام النظرية؛ نشهد عصبة الأمم تقرر باسم دول العالم أن توقع على إيطاليا طائفة من العقوبات الاقتصادية التي نص عليها في ميثاقها؛ وهذه أول مرة تتخذ فيها عصبة الأمم مثل هذه القرارات الخطية الحاسمة، وقد كان يبدو دائماً كلما وقعت أزمة دولية خطيرة أن هذه النصوص التي أدمجت في ميثاق عصبة الأمم وقت حمى السلام، إنما هي نصوص خيالية لا سبيل إلى تطبيقها بصورة عملية؛ ولكن يلوح لنا إن عصبة الأمم تسير هذه المرة بعزم واضع إلى تطبيق هذه التجربة الشائكة، وإنها تزمع أن تصل بتطبيقها إلى نتائج عملية لا شك في أهميتها من الوجهة الدولية

وهذا الإقدام الذي تبديه العصبة في مقاومة الاعتداء الإيطالي على الحبشة وعلى السلام العام يثير بلا ريب كثيراً من الإعجاب، ويرفع بلا ريب هيبة العصبة بعد أن كادت تغيض في الأعوام الأخيرة؛ ولكن يجب ألا نبالغ في فهم الدور الذي تؤديه العصبة في هذا النضال الدولي الخطير، أو بعبارة أخرى يجب أن نفرق بين العصبة كشخصية دولية معنوية، وبين الدول التي تساهم في تكوينها وتشرف على توجيهها؛ فمن الواضح أنه لو لم تقف إنكلترا وقفتها المعروفة في التمسك بميثاق العصبة، ولو لم توفق السياسة البريطانية إلى إقناع الدول الأخرى بوجهة نظرها في تأييد الميثاق، بل لو لم تقم إنكلترا باتخاذ تلك الاهبات البحرية والعسكرية الخطيرة لتأييد موقفها، لما استطاعت العصبة أن تقدم بمثل هذا العزم على تطبيق الميثاق واتخاذ قرارها الشهير في الحكم على إيطاليا بالاعتداء العقوبات الاقتصادية عليها

ومن الواضح أيضاً أن بريطانيا العظمى لم تقف هذا الموقف الحازم من المغامرة الإيطالية حباً في السلام فقط، أو لأن بريطانيا تريد أن تكون حارسة للسلم، أو أن تكون على حد تعبيرها (بوليسا) للقارة، أو بوليسا للعالم. فبريطانيا أزهد ما يكون في مثل هذه المهمة التي تعرضها لمتاعب ومسؤوليات لا نهاية لها؛ ولكن الحقيقة أن هذه الحرب الاستعمارية التي تثيرها إيطاليا تعرض مصالح الإمبراطورية البريطانية للخطر، وفوز إيطاليا بافتتاح الحبشة وتحقيق حلمها في إقامة إمبراطورية استعمارية في شرق أفريقيا، يهدد السيادة البريطانية في وادي النيل، وفيما وراء البحار، ويعرض المواصلات الإمبراطورية البريطانية لأخطار لاشك فيها، وإذكاء مطامع إيطاليا القيصرية بالفتح يهدد سيادة إنكلترا البحرية في البحر الأبيض المتوسط، وهي عماد الطريق الإمبراطوري إلى الهند وإلى استراليا. فهذه البواعث الخطيرة هي التي تحمل إنكلترا قبل كل شيء على اتخاذ موقفها في تحريك ميثاق عصبة الأمم، وفي المغامرة بالدخول في أية معارك بحرية أو برية يقتضيها تطبيق العقوبات الاقتصادية على إيطاليا

على إنه مهما تكن البواعث التي تواجه السياسة البريطانية في الآونة الحاضرة فلا ريب أن بريطانيا العظمى تقف إلى جانب السلم، ولا ريب إنها بموقفها تؤيد سلام العالم؛ وإذا كانت الفاشستية الإيطالية بعنفها المضطرم، ووسائلها المثيرة، وأحلامها الإمبراطورية، وغرورها الأعمى، تهدد الإمبراطورية البريطانية في البحر الأبيض والبحر الأحمر، فإنها تهدد سلام العالم أيضاً؛ وربما كان من حسن الطالع أن يتحد هذان العاملان معاً، وأن تجد بريطانيا من بواعث مصالحها الحيوية ما يدفعها إلى العمل في تلك الآونة لتحطيم مشروعات إيطاليا الهمجية. وها نحن أولاء نشهد من إصرار بريطانيا على موقفها، ومن تمسكها بتطبيق العقوبات الاقتصادية ضد إيطاليا، ومن أهباتها البحرية والعسكرية ما يفسر خطورة البواعث والعوامل التي تجثم وراء هذا النزاع

وقد كثر الحديث حول العقوبات الاقتصادية التي تعنى بتطبيقها عصبة الأمم ضد إيطاليا المعتدية؛ وهي عقوبات لها خطورتها وأثرها في هذا العصر الذي يتوقف كل شيء فيه على المال، وتستمد فيه قوى الدول من مواردها المالية قبل كل شيء؛ فإذا شلت موارد الدولة من جراء مقاطعة اقتصادية صارمة تنظمها الدول الأخرى، فلا ريب إن مشاريعها العسكرية تصاب أيضاً بنوع من الشلل يضطرها إزاء هذا الضغط إلى الخضوع. وقد أجملت المادة 16 من ميثاق عصبة الأمم ذكر هذه العقوبات، ولسنا نرى لشرحها خيراً من إيراد نص هذه المادة كاملاً وهو:

(إذا التجأ عضو من أعضاء العصبة إلى الحرب خلافاً للتعهدات المنصوص عليها في المادتين 12 و13 أو المادة 15 فإنه يعتبر قد أرتكب عملاً حربياً ضد كل أعضاء العصبة الآخرين، ويتعهد هؤلاء أن يقطعوا في الحال معه كل علائقهم التجارية والمالية، وأن يحظروا كل علائق بين رعاياهم وبين رعايا الدولة التي خرقت الميثاق، وأن يقطعوا كل الصلات المالية والتجارية والشخصية بين رعايا هذه الدولة وبين رعايا أية دولة أخرى، سواء أكانت عضواً في العصبة أم لا

(وفي هذه الحالة يجب على المجلس (مجلس العصبة) أن يوحي إلى الحكومات المختلفة ذات الشأن بتقديم القوى العسكرية أو البحرية أو الجوية التي يساهم أعضاء العصبة في تقديمها للقوى المسلحة التي تقوم بالعمل على احترام تعهدات العصبة

(ويتعهد أعضاء العصبة أيضاً أن يعاون بعضهم بعضاً في تطبيق الإجراءات الاقتصادية والمالية التي تتخذ طبقاً لهذه المادة والتي يراد بها أن تخفض إلى أدنى حد ما يمكن أن يترتب عليها من الخسائر والمضار، ويتعهدون أيضاً بالتعاون في مقاومة كل إجراء خاص يوجه إلى أحدهم من جانب الدولة التي خالفت الميثاق، ويتخذون الإجراءات اللازمة لكي يسهل المرور في أراضيهم لقوات أي عضو من أعضاء العصبة يساهم في العمل المشترك الذي يقصد به العمل على احترام تعهدات العصبة

ويمكن أن يفصل من العصبة كل عضو وينتهك أحد التعهدات المترتبة على هذا الميثاق، وبصدر قرار الفصل بموافقة أعضاء العصبة الآخرين الممثلين في المجلس)

فهذه العقوبات الدولية يمكن إجمالها في كلمة هي (المقاطعة الاقتصادية) وهذه المقاطعة هي التي تجد في سبيل تنظيمها عصبة الأمم ضد إيطاليا؛ وتجد إيطاليا من جهة أخرى في سبيل اتقاء عواقبها؛ وتعلل إيطاليا نفسها بأمل انقسام أعضاء العصبة وانهيار الجبهة التي استطاعت السياسة البريطانية أن تؤلفها ضدها حين البدء في تطبيق العقوبات، وتعتمد في ذلك بادئ بدء على فرنسا التي تزداد كل يوم تردداً وإحجاماً؛ وسنرى على أي حال نتيجة هذا الصراع في القريب العاجل؛ بيد أن الذي نريد أن نلفت النظر إليه هو أن تنفيذ هذه العقوبات بدقة سيقتضي بلا ريب تنظيم نوع من الحصار المسلح ضد الدولة المعتدية أعنى إيطاليا، وقد يقتضي القيام ببعض الإجراءات والأعمال العنيفة، وهذا أخطر ما في التجربة، فإن إيطاليا تصرح دائماً بأنها ستقابل مثل هذه الأعمال العنيفة بمثلها، وعندئذ يكون هذا الصدام الذي لا مفر منه، بدء حرب، يستحيل أن تحصر في دائرة معينة، ومن المحتوم أن تتحول في الحال إلى حرب أوربية وربما إلى حرب عالمية

- 2 -

على أننا نترك هذه التكهنات جانباً لنبحث ناحية أخرى من الموضوع. ولنفرض أولاً أن عصبة الأمم قد وفقت في مهمتها، واستطاعت الدول المتحدة أن ترغم إيطاليا على وقف الحرب الحبشية، وأن تقنع بتسوية ودية تمنح بها بعض المزايا الاستعمارية؛ فماذا يمكن أن يترتب على هذه النتيجة من الوجهة الدولية؟ يمكن أن يترتب عليها تقرير مبدأ في منتهى الخطورة أو بعبارة أخرى تأييده من الوجهة العملية، إذ هو موجود بالفعل، وهذا المبدأ هو تحريم الحرب الاعتدائية؛ وقد نص على تحريم الحرب كأداة للسياسة القومية بمقتضى ميثاق كلوج؛ ولكن هذا الميثاق لم يكن أكثر من وثيقة نظرية؛ أما اليوم فإن تحريم الحرب يقع بصفة عملية، إذ ترغم دولة قررت عصبة الأمم أنها (معتدية) على وقف الحرب أو تعاقب على فعلتها بالمقاطعة الدولية. وهنا نستطيع أن نلمح وجه المقارنة الفقهية بين الدولة (المذنبة) وبين الفرد (المذنب) ففي القانون العام، وفي داخل المجتمع المتمدن يحرم على الفرد أن يرتكب ضد غيره عملاً من أعمال العنف، ولو وقع عليه اعتداء ما فلا يسمح له أن ينتصف لنفسه؛ ذلك لأن إقامة العدالة من حق المجتمع، والقانون العام ينظم المجتمع ويرتب حقوق الأفراد وواجباتهم، فإذا اعتدى على شخص فرد ما أو اعتدى على حقوقه، كان القانون كفيلاً بمعاقبة المعتدي، وكفيلاً برد الحق المسلوب، وإذا تقرر ذلك فما الذي يمنع من أن تشبه الدولة في جماعة الأمم بالفرد في المجتمع؟ وكما أن العنف محرم على الفرد - عدا ماله من حق الدفاع عن النفس أو المال - فكذلك يمكن أن يحرم العنف على الدولة وتحرم الحرب كأداة لتحقيق غايات السياسة القومية، وإذ كانت الحرب ما زالت تعتبر في القانون الدولي أداة مشروعة للسياسة القومية، فإنه يمكن بتحريمها أن تغدو عملاً محرماً غير مشروع، والمقصود هنا دائماً هو الحرب الاعتدائية، وهذا ما سعى إليه الساسة الفقهاء الذين اشتركوا في وضع ميثاق تحريم الحرب أو (ميثاق كلوج)، فإذا تقرر أن الحرب محرمة، وأنها تعتبر خرقاً لمواثيق السلام وقانون الأمم، فإنه يمكن معاقبة الدولة التي تقدم عليها، إذا قررت دول العالم ممثلة في هيئة دولية عليا كعصبة الأمم، أنها دولة معتدية، وقررت بذلك أن تطبق عليها نوعاً من العقوبات يكفل ردها إلى صوابها

وهذا ما نشهده اليوم في الواقع، فإن عصبة الأمم، تقرر أن إيطاليا وهي عضو من أعضائها دولة معتدية فيما تقوم به من غزو للأراضي الحبشية، وتقرر أن تطبق عليها العقوبات الاقتصادية التي نص عليها في المادة السادسة عشرة من الميثاق، ولكنا نكرر القول بأن عصبة الأمم ما كانت لتجرؤ على اتخاذ مثل هذه الخطوة لو لم تحركها يد السياسة البريطانية القوية، وإلا فأين كانت عصبة الأمم يوم اعتداء اليابان على منشوريا والاستيلاء عليها تحت سمع العصبة وبصرها؟ وإذا كانت عصبة الأمم تستطيع كشخصية معنوية تمثل فيها إرادة الأمم أن تحكم على الدولة الممثلة فيها أولها، فمن الواضح أنه يقتضي لتنفيذ أحكامها قوة دولية أو وسائل ضغط معينة، وهذه القوة أو الوسائل أشارت إليها المادة السادسة عشرة من الميثاق، ولكنها لم تخلق أو توجد بعد، ولو لم تتقدم بريطانيا العظمى باهباتها وقوتها المسلحة مدفوعة بما تقدم من البواعث لتنفيذ العقوبات، لبقى قرار العصبة قراراً نظرياً لا سند له ولا أثر

على أن من الإسراف في التفاؤل والأمل أن نعتقد أن عصبة الأمم قد غدت محكمة الأمم العليا، وغدت ملاذ السلم الأعلى، وأن هذه الخطوة التي تقدم على اتخاذها اليوم ستغدو بالفعل مبدأ دولياً عالمياً يحتكم إليه في كل الحوادث والظروف المماثلة. إنها نظريات السلام والعدالة الدولية وحقوق الأمم تبدو في الأفق، وفي ظلها وباسمها تعمل عصبة الأمم، ولكنها القوة في الواقع تعمل من الوراء ظاهرة غير مستترة؛ وهي تعمل مسيرة بالبواعث والمصالح الخاصة التي كان من حسن الطالع أنها تتفق مع قضية العدالة الدولية والسلام العالمي؛ ولكن هل يمكن أن تجتمع مثل هذه الظروف دائماً إذا ما تعلق الأمر بإقامة الحق والعدالة الدولية؟ هذا ومن جهة أخرى فإنه من المرجح جداً أن تطور الحوادث على هذا النحو الخطر الذي نشهده قد يقضي في النهاية على كل مظاهر الحق ونظريات السلام والعدالة الدولية؛ وقد يضطرم العالم من جديد بحرب تودي بعصبة الأمم وكل ما يمثل فيها من النظريات والمثل الدولية العليا