مجلة الرسالة/العدد 121/شاعرنا العالمي أبو العتاهية

مجلة الرسالة/العدد 121/شاعرنا العالمي أبو العتاهية

مجلة الرسالة - العدد 121
شاعرنا العالمي أبو العتاهية
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 10 - 1935


13 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

وأما عتابه فنذكر منه عتابه لصالح الشهرزوري، وكان أبو العتاهية صديقاً له، وآنس الناس به، فسأله أن يكلم الفضل ابن يحيى البرمكي في حاجة له، فقال له صالح: لست أكلمه في أشباه هذا، ولكن حملني ما شئت في مالي، فأنصرف عنه أبو العتاهية، وأقام أياماً لا يأتيه، ثم كتب إليه:

أقلل زيارتك الصديق ولا تطل ... إتيانه فَتِلجَّ في هجرانه

إن الصديق يلجُّ في غشيانه ... لصديقه فيملَّ من غشيانه

حتى تراه بعد طول مَسَرة ... بمكانه متبرِّماً بمكانه

وأقل ما يلقى الفتى ثِقَلاً على ... إخوانه ما كف عن إخوانه

وإذا توانى عن صيانة نفسه ... رَجلٌ تنقص وأستخف بشأنه

فلما قرأ الأبيات قال سبحان الله! أتهجرني لمنعي إياك شيئاً تعلم أني ما ابتذلت نفسي له قط، وتنسى مودتي وأخوتي، ومن دون ما بيني وبينك ما أوجب عليك أن تعذرني؟ فكتب إليه أبو العتاهية:

أهل التخلق لو يدوم تخلُّقٌ ... لكنت ظُل جناح من يتخلق

ما الناس في الإمساك إلا واحد ... فبأيهم إن حصِّلوا أتعلق

هذا زمان قد تعود أهلهِ ... تِيهِ الملوك وفعل من يتصدق

أي يطلب الصدقة كما قال في بيت آخر:

هذا زمان ألحَّ الناس فيه على ... تيه الملوك وأخلاق المساكين

فلما أصبح صالح غدا بالأبيات على الفضل بن يحيى وحدثه بالحديث، فقال له لا والله ما على الأرض أبغض إليَّ من إسداء عارفة إلى أبي العتاهية، لأنه ليس ممن يظهر عليه أثر صنيعة، وقد قضيت حاجته لك، فرجع وأرسل إلى أبي العتاهية بقضاء حاجته، فقال يشكره:

جزى الله عني صالحاً بوفائه ... وأضعَف أضعافاً له في جزائه

بلوت رجالاً بعده في إخائهم ... فما ازددت إلا رغبة في إخائ صديقٌ إذا ما جئت أبغيه حاجة ... رجعت بما أبغي ووجهي بمائه

ولم يكن أبو العتاهية كما قال الفضل ممن لا يظهر عليه أثر الصنيعة، ولكنه كان يعاشر هؤلاء العظماء معاشرة الند للند، لا كما كان يفعل غيره من الشعراء المستجدين عند هؤلاء العظماء، وإنما كان البرامكة يكرهون من أبي العتاهية إيثاره الفضل ابن الربيع عليهم، وهو منافسهم السياسي في دولة الرشيد، وقد صحبه أبو العتاهية صحبة طويلة؛ ومازال الفضل من أميل الناس إليه، فلما رجع من خراسان بعد موت الرشيد دخل عليه أبو العتاهية، فأستنشده فأنشد:

أفنيت عمرك أدباراً وإقبالاً ... تبغي البنين وتبغي الأهل والمالا

الموت هولٌ فكن ما شئت ملتمساً ... من هوله حيلة أن كنت محتالا

ألم تر الملك الأمسيَّ حين مضى ... هل نال حيٌ من الدنيا كما نالا

أفناه من لم يزل يُفني القرون فقد ... أضحى وأصبح عنه الملك قد زالا

كم من ملوك مضى ريب الزمان بهم ... فأصبحوا عبراً فينا وأمثالا

فأستحسنها الفضل، وطلب إليه أن يعود إليه في وقت فراغه ليقعد معه ويأنس به، فلما كان يوم فراغه صار إليه، فبينما هو مقبل عليه يستنشده ويسأله فيحدثه إذا أنشده:

ولي الشباب فما له من حيلة ... وكسا ذؤابتي المشيبُ خِمارا

أين البرامكة الذين عهدتهم ... بالأمس أعظَم أهلها أخطارا

فلما سمع ذكر البرامكة تغير لونه، ورأى أبو العتاهية الكراهية في وجهه، فما رأى منه خيراً بعد ذلك. وقد حدث أبو العتاهية هذا الحديث الحسن بن سهل في دولة المأمون فقال له: لئن كان ذلك ضرك عند الفضل بن الربيع لقد نفعك عندنا؛ ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب، وأجرى له كل شهر ثلاثة آلاف درهم، فلم يزل يقلبها دارة إلى أن مات. وكان الحسن بن سهل فارسياً مثل البرامكة، وكان الفضل بين الربيع عربي النزعة، وقد انتهت تلك العصبية بين الفرس والعرب في هذه الدولة بضياع أمرها منهما معاً.

ومن عتابه أيضاً ما كان منه لأحمد بن يوسف وكان صديقاً له فلما خدم المأمون وخص به رأى منه جفوة فكتب إليه:

أبا جعفر إن الشريف يشينُه ... تَتَاُهُهُ على الإخلاء بالوفر ألم تر أن الفقر يُرجَى له الغنى ... وأن الغني يُخشى عليه من الفقر

فإن نلت تيهاً بالذي نلت من غني ... فإن غنايَّ في التجمل والصبر

ومن شعره في الاستعطاف إلى الرشيد وهو في سجنه:

يا رشيد الأمر أرشِدْني إلى ... وجه نجْحيِ لا عدمت الرَشدا

لا أراك الله سوءاً أبداً ... ما رأت مثَلَك عينٌ أحدا

أعِنِ الخائف وارحم صوته ... رافعاً نحوك يدعوك يدا

وإبلائي من دعاوي آِملِ ... كلما قلت تدانى بعدا

كم أمَني بغدٍ بعد غَدٍ ... ينفد العمر ولم ألق غدا

وأما الزهد والحكمة والمثل فهي الفنون التي أستفرغ فيها جهده، وأربى فيها على غيره، ونظم فيها ما استفاده من أهل العلم من السنن وسير السلف الصالح، وأشعاره في ذلك لا مثيل لها لأنها مأخوذة من كتب الدين والسنة، وما جرى من الحكم على ألسنة هذه الأمة. ومن بدائعه في ذلك أرجوزته المزدوجة التي سماها ذات الأمثال، وتبلغ في الطول ما لم يبلغه شعر قبلها، ويقال إن فيها أربعة آلاف مثل، وهي تجديد عظيم في الشعر العربي بهذا الطول البالغ فيها هذا المبلغ، وبهذه القافية التي مكنت له من المضي فيها إلى الحد، وهذا ما ذكره منها صاحب الأغاني:

حسْبكَ مما تبتغيه القوتُ ... ما أكثر القوت لمن يموت

الفقر فيما جاوز الكفَافَا ... من أتقى الله رجا وخافا

هي المقادير فلمني أو فَذَرْ ... إن كنتُ أخطأتُ فما أخطا القدرْ

لكل ما يؤذي وإن قل أَلمْ ... ما أطولَ الليل على من لم ينم

ما أنتفع المرء بمثل عقله ... وخير ذخر المرء حسن فعله

إن الفساد ضده الصلاح ... وربّ جد جرّه المزاحُ

من جعل النمامَ عيناً هَلَكا ... مُبلغكَ الشر كباغيه لكا

إن الشباب والفراغ والجِدِهْ ... مفسدة للمرء أيُّ مفسده

يغنيك عن كل قبيح تركَه ... يرتهن الرأيَ الأصيل شكه

ما عيش من آفته بقاؤه ... نغَّص عيشاً كُلُه فناؤه يا رب من أسخطنا بجهده ... قد سرنا الله بغير حمده

ما تطلع الشمس ولا تغيب ... إلا لأمر شأنه عجيب

لكل شيء معدن وجوهر ... وأوسط وأصغر وأكبر

من لك بالمحض وكلُّ ممتزجْ ... وسَاوسٌ والصدر منه تعتلج

وكل شيء لاحقٌ بجوهره ... أصغره متصل بأكبره

ما زالت الدنيا لنا دار أذى ... ممزوجة الصفو بألوان القذى

الخير والشر بها أزواج ... لذا نِتَاجٌ ولذا نتاج

من لك بالمحض وليس مَحَضُ ... يخبث بعضٌ ويطيب بعض

لكل إنسان طبيعتانِ ... خير وشر وهما ضدان

إنك لو تستنشق الشَحيحا ... وجدته أنتن شيء ريحا

والخير والشر إذا ما عُدّا ... بينهما بَونٌ بعيد جداً

عجبت حتى غمني السكوت ... صرت كأني حائر مبهوت

كذا قَضَى الله فكيف أصنع ... الصمت إن ضاق الكلام أوسع

قال أبو الفرج وهي طويلة جداً وإنما ذكرت هذا القدر منها حسب ما استاق الكلام من صفتها.

عبد المتعال الصعيدي