مجلة الرسالة/العدد 121/من صور العباقرة

مجلة الرسالة/العدد 121/من صور العباقرة

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 10 - 1935



هانيبال

بقلم حسين مؤنس

لنكن على حذر حين نلتمس أخبار هانيبال، فهذا رجل وكل أمره لأنصاف خصومه، وترك تراثه في رعاية أشد الناس عداوةً له، وتولى تقديمه إلى الناس أحفل الناس ببغضه؛ فهو مظلوم من بوليبيوس، مغضوب عليه من تيت ليف، مهضوم الحق عند الكثرة الغالبة من رواة عصره وقضاة زمانه، ولكنه برغم هذا كله بارز لا تحتاج عظمته إلى البينة، ظاهر لا يعوز عبقريته البرهان؛ وإن الشهادة له لتبدر من الخصم حين يتخونه الحذر، وإن فضله على أعدائه لتقوم عليه البينات والحقائق وإن أعوزته الألفاظ والعبارات؛ وهذا بوليبيوس يتحدث عن آل سيببو فيطيل الحديث، ويكون قصارى ما يتأنق فيه من دلائل نبوغهم أنهم أخذوا فنون الحرب عن هانيبال، وأن أشهرهم المعروف بالأفريقي أخذ عنه وتفطن لأساليبه وحاربه بها في زاما. ولعل سبب هذه الخصومة هو أن الرجال كان شرقياً، لا هو روماني ولا إغريقي، وإنما هو فينيقي عريق، وكانت الخصومة مشبوبة في ذلك العصر بين الشرق والغرب، وكان الزمان قد استدار وصار اليوم للغرب، ورفرفت راياته وخفقت بنوده، حملها الإسكندر وخلفاؤه زماناً ثم تركوها للرومان، وكان الفينيقيون قد ضاقت بهم الأرض في المشرق فالتمسوا الرزق في المغرب، وأقاموا المراكز والمدن على شواطئ أفريقية وإسبانيا وصقلية وجنوبي إيطاليا وفرنسا، فلما نهض الرومان وجدوا الفينيقيين في طريقهم أينما ساروا، وكان مركز قيادتهم قد أنتقل من صور في المشرق إلى قرطاجنة في المغرب، ومن هنا كانت الخصومة بين روما وقرطاجنة، ومن هنا كان تعصب مؤرخي الرومان على هانيبال، ومن هنا كانت ضيعة قضيته عند القضاة؛ فلنلتمس أخباره في حذر. . . ولنحاول أن نشهده عن كثب، وأن نفضي إليه ونصاحبه حياته الحافلة بالأحداث، الخصبة بالوقائع والبيانات.

ها هو ذا في مجلسه على شاطئ الرون ينظر إلى جيشه الكبير يعبر النهر صفاً طويلاً وقد طال به الجلوس وطال به الانصراف إلى هذا المشهد حتى لا يدري أهذا مطلع النهار أم مقبل الليل؛ وكيف له التمييز وهذه أيام ثلاثة بلياليها تقضت وهو في مجلسه هذا شاخصاً إلى أجناده وفرسانه وقبيلته وهي تعبر النهر على مهل؟. . وأين له الراحة أو الانصراف عن التفكير وهو يعلم أن الرومان قد علموا بأمره وأنهم ساعون في أثره مرسلون قوادهم خفافاً للحاق به والقضاء عليه؟. وهذه عيونه تنبئه بأن مارسلوسن ماض في الطريق إليه، وإنه ليخشى ذلك كثيراً، إذ كيف تكون العاقبة لو لحق به الرومان وهو يعبر النهر؟. إذاً لقضوا عليه في يسر وهينة. ثم هذه عيونه تنهى إليه أن آل سيببو يثيرون عليه النافو ويقيمون عليه قيامة الشعب. فإذا متع الضحى فقد أقبل عليه رئيس فرسانه ينبئه بأن الجيش قد فرغ من العبور وأنه لم تبق في الضفة الأخرى إلا شراذم من المشاة وأشتات من المؤن التي لا يؤذي ضياعها. هناك ينهض الرجل الذي أجهده الإعياء وثقلت عليه قلة النوم، ويأوي إلى فسطاطه. . . ويطلب النوم فيسرع إليه النعاس. . . ولكنه على رغم ذلك مضطرب ما يزال. . . وأن الذكريات لتسعى إليه في الحلم فتروعه.

هذا هو أبوه هملكار يخطو إليه رهيباً جليلاً. . . يذكره بعهده الذي قطعه على نفسه وهو أبن سنوات تسع، وهذا صوت الصبي الصغير يتردد على سمعه واضحاً بيناً، إنه يقسم أن يكون عدواً لدوداً لروما إلى الأبد.

وها هو ذا يرى نفسه صبياً وفتى يافعاً، ثم رجلاً في مداخل الرجولة، إنه ليمضي الوقت في قفار إسبانيا ووهادها، لم ينصرف إلى شيء مما ينصرف إليه الشبان، ولم يترك لنفسه فرصة للراحة أو الدعة، وإنما أشتد على نفسه عشرين سنة كاملة حتى أوفى على الثلاثين. . . حتى إذا أكتمل الأهبة، فقد أتخذ سبيله إلى إيطاليا، وكان الرومان قد أخذوا عليه سبيل البحر بعد أن قضوا على أسطول قرطاجنة، ولم يبق له إلا أن يمضي فيخترق هذه المجاهل الجافة حتى يصل إلى سهول إيطاليا؛ ولقد فصل عن قرطاجنة الجديدة وهو في تسعين ألفاً فتهاوى منهم الآلاف في الطريق تعباً وإجهاداً. . . ولولا بقية من أمل معقودة بلواء فرسان نوميديا، لأدركه اليأس وكر راجعاً إلى بلده. . .

هكذا كانت حياته: واقع أشبه بالحلم، وحلم أشبه بالواقع! إنه ينام ليحلم بحرب روما، ويقوم ليمضي لخراب روما. ومضى أمامهم فمضوا من خلفه، وهم أشد ما يكونون رهبة من هذا الذي يمضي بهم إليه؛ إنهم ليشعرون الرهبة من هذه الجبال السامقة التي تطل عليهم وتنذرهم بالموت. . . وأين لأبدانهم المتعبة أن تتوقل هذه النجاد الوعرة، وأن تنحدر على هذه الصخور القاسية؟ وأين لجسومهم العزم الذي يخوضون به هذه الركام المثلوجة التي تبهر عيونهم على قنن الجبال؟. . . ولكنهم لا يملكون لأمر قائدهم دفعاً. . . بل هو لا يملك لأمر نفسه دفعاً. وإنه ليمضي ليوفي عهد أبيه لا يكاد يفطن إلى شيء مما حوله. فها هو ذا في مقدمة الجيوش يصعد في إعياء ويسير في هينة، والجنود يتساقطون من حوله إجهادا والخيل تنبت من تحته نافقة، وهو في طريقه لا ينبس. . حتى ينتهوا إلى السهول فينحدروا إليها سراعاً.

هنا ترجع بنا الذاكرة إلي معبد (بعل) في قرطاجنة. . . تلك هي القديسة تضطرب تحت يد هملكار الذي يقدمها إلى الآلهة طاعة ونسكا. . . وتلك هي روما تضطرب تحت يد ابنه هانيبال الذي يقدمها إلى أبيه قرباناً زكياً. . وهؤلاء هم الرسل مقبلين على مدينة التلال السبعة يرجفون بالأخبار ويزعزعون العزمات من رهبة الوعيد، ويضطرب الأمر بين الرومان اضطراباً شديداً، ويقذفون بجيوشهم إلى هانيبال في شجاعة وأقدام حقيقين بالإعجاب. . والقرطاجني متربص يفني الجيوش فناء، ويبتلع القادة ابتلاعاً وهذه تربيا تشهد يوم اجبر هانيبال العدو على النزول إلى الميدان في البكرة القارسة والشمس لا تزال في خدرها، وكيف انسابت الكمائن من فرسان نوميديا على جوانب الجيش الروماني فأكلته أكلا. . . وهذه ترازمين تذكر يومها العبوس من شتاء سنة 217. . هذا هانيبال يخبئ جنوده في باطن الجبل المطل على أمواج البحيرة، ويترك منهم نفراً يناوش القنصل فلامينيوس، ويتقدم الروم ثم يندفعون اندفاعاً شديداً. . فإذا انتهوا إلي ساحل البحيرة فقد القوا أنفسهم في وابل من نبال الغال، ونار من فرسان النوميديين وإذا العدو يسد عليه طريق الرجوع، وإذا الماء يعين عليهم الخصم. . وإذا هزيمة ساحقة لم ينج منها إلا نفر مضى إلى روما يزلزل أهلها بالمصيبة النازلة، والفاجعة التي لم تذر. . وهؤلاء أهل المدينة مروعين قد انتابهم هلع شديد. . إذ ترامى إلى أسماعهم أن الرجل قاصد إليهم. . ثم هاهو ذا على أميال من روما. . ليس من الموت بد! ولكن هانيبال لا يتقدم، إنما يطوي عن المدينة ويتجه إلى الجنوب.

ترى ماذا صد هانيبال عن روما؟ كانت الحصون واهنة والجيوش منكسرة ولا يكلف الاستيلاء على المدينة الا اقل الجهد. . ولكن هانيبال كان يرجو شيئاً آخر. . كان لا يريد أن يقتل الفريسة دفعة واحدة وإنما يقطع أعضاءها عضواً عضواً، ويمزق أشلاءها شلواً شلواً: ثم يدعها تموت؛ كان يرجو أن يمزق جسد روما جزءاً جزءاً ويبتر مستعمراتها عنها على مهل! لم يمزق الرومان أملاك قرطاجنة واحدة فواحدة لكي تموت على مهل. هكذا كان يريد أن ينفذ انتقامه الشديد - ولهذا مضى يثير أنصار روما ويؤلب عليها أحلافها. . . انه ليعلن انه اقبل ليحارب الرومان لا الايطاليين، وانه ليطلق الأسرى الإيطاليين دون الرومان وانه ليكسب من هذا كسباً عظيماً. . هذه (كبوا) تسارع إليه بقواتها وأحلافها. . وهذه المدن الإغريقية في (تارنتم) تعلن ولاءها. . وهؤلاء هم الرومان يشتد بهم الخوف فيختارون (فابيوس) لهم قنصلاً. . فيختط لمحاربة هانيبال خطة صارت علماً عليه في التاريخ: هي أن يجنب نفسه وجيوشه لقاء العدو في موقعة حاسمة. . بل يناوشه ويتخطف جنوده، ويقفل طريق الإمداد من الشمال. . ويمضي على ذلك حتى يضعف فمره ويفني جنوده. . ولكن الرومان لا يطيقون صبراً. . أن هانيبال ليفسد عليهم جيرانهم واتباعهم. . ويتلف مزارعهم ويهدم حصونهم ويمضي من بلد إلي بلد، تاركاً جنوده يأتون من الأمر ما يحبون ويصيبون من العدو ما تصل إليه أيديهم، حتى يضيق ذرع اللاتين فيعزلوا فابيوس ويولوا قنصلاً آخر يمضي مسرعاً حتى يلقي هانيبال في (كاني) على ساحل الأدرياتيك، وهناك تظهر قدرة الرجل في الحرب في أجمل آياتها. . . إنه ليصف جندوه صفوفاً طويلة تكاد تخفي جناحي الفرسان. . وانه ليلقي العدو وينثني قلب جيشه حتى يصير الصف نصف دائرة تحتوي الرومان ثم يقبل الفرسان فيقضون على العدو قضاء مبرماً.

ندع هانبيال في سيره إلى جنوب شبه الجزيرة ونخف إلى روما لنشهد اضطراب الشيوخ وهياج الشعب واشتداد الأمر ولنشهد مشهداً من أصدق مشاهد الرجولة القوية والبطولة الخالدة. . . إن (آل سيببو) لا يحفت لهم صوت ولا يضعف لهم أمل. . . لقد مات الأخوان في وعور إسبانيا، وهما في طريقهما إلى بلادهما بعد أن استوليا على (قرطاجنة الصغيرة) قاعدة هانيبال في أيبريا، وشطرا شبه الجزيرة كلها عن القرطاجني حتى حصروه حصاراً شديداً. . . وها هوذا أخوه (هازدرونال) أخو هانيبال يجمع له ما تيسر من فلول المرتزقة ويمضي إلى إيطاليا فيلقاه الرومان ويفتكون به ويقتلونه. . . ثم يحملون رأسه إلى أخيه ويلقون به بين يديه.

ثم ينهض سيببو الصغير ويقود حملة من أعنف حملات التاريخ؛ فهذا فتى في الخامسة والعشرين ولكنه روماني عزيز. . . إنه ليقطع شبه الجزيرة على عجل. . . ثم يركب البحر إلى صقلية ثم يخف إلى أفريقية وينزل على مقربة من قرطاجنة ثم يبدأ يصنع في أفريقية ما يصنعه هانيبال في إيطاليا. . .!

هنالك يتأمل هانيبال رأس أخيه الشهيد ويستمع إلى أخبار سيببو فتأكل الحسرة قلبه ويفزع على مصير قرطاجنة، ويسرع لنجدتها. . . ولا تكاد قدمه تمس ثرى أفريقية. . . حتى تسرع نحو سيببو. . . فيمضي هذا أمامه. . . ولم يكن أخطر على الجيش الروماني من هذا المضي الذي يباعد ما بينه وبين الشاطئ. . . ولكن. . . أنظر إنه ليثير النوميديين على قرطاجنة، إنه ليطويهم تحت رايته حلفاء أقوياء. . . ثم يثبت لهانيبال عند (زاما) ويرسل فرسانه في طرفي مشاته. . . ويصف الجنود صفاً طويلاً، ويباعد بين الجندي والجندي حتى ليدع بينهما طريقاً رحباً. . . ثم يقبل هانيبال. . . ويدور فرسانه فإذا هم وجهاً لوجه أمام فرسان سيببو. . . فيفسحون لهم الطريق، فيندفع هؤلاء إلى ما وراء الجيش وهناك ينتظرون. . . وتشد المعركة، ويثار النقع، حتى إذا بلغ الإعياء من جيش قرطاجنة أقبل فرسان الرمان فقضوا عليهم قضاءً أخيراً.

أليست هذه أساليب هانيبال؟ أليست تلك خطته في كاني؟ وإنها لبينة واضحة على عبقريته، وآية باقية على ما خلف للعالم من تراث.

ويخف هانيبال إلى قرطاجنة، ويأمر بأسوارها أن تقفل ويسودها الهرج والاضطراب، ويجتمع مجلسها ويتعاقب الخطباء منادين بالحرب والثأر. . . ولكن الرجل لا يطبق. . . إنه يعرف خصمه جيداً فينهض ويسكت الخطيب. . . ويعتذر لمواطنيه عن هذه الجفوة التي لا محيص له عنها بعد ست وثلاثين سنة في ميادين الحروب. . . ثم يوافق على شروط الصلح التي قدمها سيببو.

ثم يبدأ صراع هو أشبه بصراع المائة يوم بين نابليون وخصومه. . . ولكن يطول سبع سنوات، يصر الشيوخ في السناتو على القضاء على الرجل. . . ويطلبونه ويجدون في طلبه. . . وهو لا يفقد الأمل في الغلبة عليهم والانتقام منهم. . . لقد فشل في أن يثير عليهم الغرب، فلملا يقيم عليهم قيامة الشرق؟. . . ها هو ذا يخف إلى بلده (صور)، فإذا هي ترتعد فرقاً من روما وجيوشها فيفصل عنها إلى (إنطاكية) حيث يستقبله ملكها أثينوكس، إذ كان بعد حملته على روما. . . ويدبر معه الأمر. . . ويرسم معه مشروعاً خطيراً. . . ولا يكادان يشرعان في العمل حتى يفاجئهما الرومان فيقضوا على أثينوكس في داره فيفر إلى بيثتنيا حتى يلقاه ملكها مرحباً. . . . ويأويه ويكرمه.

ولكن الرومان لا يسكتون عنه. . . ويطلبونه ويجدون في طلبه. . . وإنه لجالس ذات يوم في ملجئه. . . إذ أحس اضطرابا وسمع وقع أقدام جنود يقتربون منه. . . فنادى بخادمه. . . وأمر بالسم فأتى به إليه. . . وقال وهو يدني الكأس من شفتيه: (لكي تستريح روما إذا كان لا يرضيها أن تترك شيخاً في الستين يموت على مهل).

حسين مؤنس