مجلة الرسالة/العدد 122/فوق الآدمية

مجلة الرسالة/العدد 122/فوق الآدمية

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 11 - 1935


الإسراء والمعراج

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

من أعجب ما اتفق لي أني فرغتُ من تسويد هذا المقال ثم أردتُ نقله فتعسَّرَ عَّلي وصُرِفتُ عنه بألم شديدٍ اعتراني ونالتني منه ثقلةٌ في الدماغ؛ ثم كشفه الله بعد يوم فراجعتُ الكتابةَ، فإذا قلمي ينبعث بهذه الكلمات:

كيف يَستَوْطِئُ المسلمون العجز وفي أول دينهم تسخير الطبيعة؟

كيف يَسْتَمْهِدون الراحة، وفي صدر تأريخهم عملُ المعجزة الكبرى؟

كيف يَركَنُونَ إلى الجهل، وأول أمرهم آخرُ غايات العلم؟

كيف لا يحملون النور للعالَم، ونبيُّهم هو الكائن النورانيُّ الأعظم؟

قصة الإسراء والمعراج هي من خصائص نبينا محمد ، هذا النجم الإنساني العظيم، وهذا النور المتجسِّد لهداية العالم في حَيرة ظلماته النفسية؛ فإن سماء الإنسان تُظلم وتُضيء من داخله بأغراضه ومعانيه. والله تعالى قد خلق للعالم الأرض شمساً واحدةً تُنيره وتُحييه وتتقلب عليه بليله ونهاره، بيد أنه ترك لكل إنسان أن يصنع لنفسه شمس قلبه وغمامها وسحابها وما تسفِرُ به وما تظلم فيه. ولهذا سمي القرآن نوراً لعمل آدابه في النفس، ووُصف المؤمنون بأنهم (يسعى نورُهم بين أيديهم وبأيمانهم)، وكان أثر الإيمان والتقوى في تعبير القرآن الكريم أن يجعل الله للمؤمنين نوراً يمشون به.

ولقد حار المفسرون في حكمة ذكر (الليل) في آية (الإسراء) من قوله تعالى: (سُبحانَ الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركْنا حوله لنُريه من آياتنا). فإن السُّرى في لغة العرب لا يكون إلا ليلاً؛ والحكمة هي الإشارة إلى أن القصة قصةُ النجم الإنساني العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في هذه المعجزة، ويتمم هذه العجيبةَ أن آيات (المعراج) لم تجئ إلا في سورة (والنجم) وعلى تأويل أن ذكر (الليل) إشارةٌ إلى قصة النجم، تكون الآية برهان نفسها، وتكون في نَسَقها قد جاءت معجزة من المعجزات البيانية. فإذا قيل إن نجماً دار في السماء، أو قطع ما تقطعه النجوم من المسافات التي تعجز الحساب، فهل في ذلك من عجيب؟ وهل فيه شك أو نظرٌ أو تردد؟ وهل هو إلا من بعض ما يسبَّح الله بذكره؟ وهل يكون إلا آية اتصلت بالآيات التي يراها اتصالَ الوجود بعضه ببعض؟

وأنا ما يكاد ينقضي عجبي من قوله تعالى: (لنٌرِيه من آياتنا) مع أن الألفاظ كما ترى مكشوفة واضحة، يخيَّل إليك أن ليس وراءها شئ، ووراءها السرُّ الأكبر؛ فإنها بهذه العبارة نصٌّ على إشراف النبي فوق الزمان والمكان يرى بغير حجاب الحواس مما مرجعه إلى قدرة الله لا قدرة نفسه، بخلاف ما لو كانت العبارة (ليرى من آياتنا) فإن هذا يجعله لنفسه في حدود قوتها وحواسها وزمانها ومكانها، فيضطرب الكلام ويتطرق إليه الاعتراض ولا تكون ثمَّ معجزة. وتحويل فعل (الرؤية) من صيغة إلى صيغة كما رأيت هو بعينه إشارة إلى تحويل الرائي من شكل إلى شكل كما ستعرفه، وهذه معجزة أخرى يسجد لها العقل؛ فتبارك الله مُنزِلُ هذا الكلام!

وإذا كان نجما إنسانياً في نوره فلن يأتي هذا إلا من غلبة روحانيته على مادته؛ وإذا غلبت روحانيته كانت قواه النفسية مهيأة في الدنيا لمثل حالتها في الأخرى؛ فهو في هذه المعجزة أشبه بالهواء المتحرك. فقُل الآن: أُُيعترضُ على الهواء إذا ارتفع بأنه لم يرتفع في طيارة. . .؟

ومن ثمَّ كان الإنسان إذا سما درجةً واحدةً في ثبات قواه الروحية، سما بها درجاتٍ فوق الدنيا وما فيها، وسُخِّرت له المعاني التي تسخِّر غيره من الناس، ونشأت له نواميسُ أخلاقيةٌ غير النواميس التي تتسلط بها الأهواء. ومتى وُجد الشيء من الأشياء كانت طبائع وجوده هي نواميسه. فالنارُ مثلاً إذا هي تضرَّمت أوجدت الإحراق فيما يحترق، فإن وضع فيها ما لا يحترق أبطل نواميسها وغلب عليها.

وكل معجزة تحدث فهذا هو سبيلُها في إيجاد النواميس الخاصة بها وإبطال النواميس المألوفة، وبهذا يقال إنها خرقت العادة؛ ومن النور نورٌ لا يشفُّ له غيرُ الهواء، ومنه أشعة (رنتجن) التي تشف لها الجدرانُ والحجب، فهذه معجزة في ذاك.

والنبي لا يكون نبياً حتى يكون في إنسانه إنسانٌ آخر بنواميسَ تجعله أقربَ إلى الملائكة في روحانيتها؛ وما ينزل إنسانُه الظاهرُ من الإنسان الباطن فيه إلا منزلةَ من يتلقى ممن يُعطي. فذاك الباطنُ هو للحقائق التي لا تحملها الدنيا، وهذا الظاهر لما يمكن أن يبلغ إليه الكمالُ في المثل الإنساني الأعلى، ولولا ذلك الباطن ما استطاع نبي من الأنبياء أن يحمل هموم أمة كاملة لا تضنيه ولا تغيره ولا تعجزه.

فحقيقةُ النبوَّة أنها قوةٌ من الوجود في إنسان مختار جاءت تصلح الوجود الإنسانيَّ به لتُقرَّ في هذه الحيوانية المهذَّبة مثلها الأعلى، بدلالتها على طريقها النفسيّ مع طريقها الطبيعي؛ فيكون مع الانحطاط الرقيّ، ومع النقص الكمال، ومع حكم الغريزة التحكم في الغريزة، ومع الظلمة المادية الإشراقُ الروحاني.

وما المعجزات إلا شأنُ تلك القوة الباطنة لا شأنُ إنسانها الظاهر. ومن الذي ينكر أن قوى الوجود هي في نفسها إعجاز للعقل البشري؟ وهل ينكر اليوم أحد شأنَ هذه القوة في (الراديو) حين مسته فجعلت الكلمة التي ترسل بين الشرق والغرب، كالكلمة بين اثنين يتحدثان في مجلس واحد؟

ونحن نرى معجزات التنويم المغناطيسي وما يبصره النائم وما يسمعه وما ينكشف له مما وراء الزمان والمكان؛ وليس التنويم شيئاً إلا تسليط الذات الباطنة بقواها الروحية العجيبة على الذات الظاهرة المقيدة بحواسها المحدودة، فتطغى عليها فتصبح الحواس مطلقة شائعة في الوجود بمقدار ما فيها من قواه لا بمقدار ما فيها من قوة شخصها، وعلى نحو ذلك يتصلُ الرجل الروحانيُّ بذاته الباطنة، فيوقع شخصه الظاهر في الاستهواء، فينكشف له الوجود ويبصر ما يقع على البعد ويرى ما هو آت قبل أن يأتي. وما الكون في هذه الحالة ألا كالمعشوق يقول لعاشقه الذي وقع في قلبه الحب: قد آتيتك نوراً تنظر به جمالي.

وفي علماء عصرنا من يفكر في الصعود إلى القمر، وفيهم من يعمل للمخاطبة مع الأفلاك، وفيهم من تقع له العجائب في استحضار الأرواح وتسخيرها. وكل ذلك أول البرهان الذي سَيُلْزِمُ الفم فيضطره في يوم ما إلى الإقرار بصحة الإسراء والمعراج. .

ونحن قبل أن نبدي رأينا في القصةُ نلمُّ بها إلمامةً موجزة؛ فقد اختلفت فيها الأحاديث ووقع فيها تخليط كثير فجاءت فنوناً وأنواعاً من طرق شتّى حتى جمعها بعضهم في جزءين، وما تحتمل كل ذلك ولا بعضه؛ ولكن روح الرواية في ذلك الزمن كانت كروح الصحافة في هذا العصر، متى فارت فَوْرَها استحدثتْ من كل عبارة عبارة أخرى، وعلى هذه الطريقة تخرج من العبارتين عبارة ثالثة، فيكون الأصل معنى واحداً وإذا هو يَمُدُّ من يمينه ويساره.

ولا يرون بذلك بأساً فانهم يَشُدُّون به الرأي ويضاعفون منه اليقين، ويزيدون ضوءاً في نور المعنى، وما داموا قد أثبتوا الأصل واستيقنوه فلا حَرَجَ أن يؤيد القولُ بعضُه بعضاً باجتهاد في عبارة، واستنباط من أخرى، وزيادة في الثالثة - مما هو بسبيل منها، على نحو ما نرى من فن الرواية القصصية؛ إذ تتعدد الأساليب والعبارات مختلفة متنوعة، وليس تحتها إلا حقيقة واحدة لا تختلف. والقَصصُ الديني في هذه اللغة العربية فنّ كامل قائم بنفسه لا يُبدع العقل والخيال والعاطفة أقوى منه ولا أعجب ولا أغرب ,

هذا في متن القصة؛ أما في واقعتها فقد اختلفوا اختلافاً آخر؛ هل كان الإسراء والمعراج يقظةً أو مناماً، وبالروح وحدها أو بالروح والجسم معاً؟ وإنما ذكرنا هذا الخلاف لأنه الدليل القاطع على أن النبي لم يخبر بشيء من ذلك فلم يعين لهم وجهاً من هذه الأوجه. والحكمة في ذلك أن عقولهم لم تكن تحتمل الإدراك العلمي الذي أساسه الكهرباء والأثير. .

والخلاصة التي تتأدَّى من القصة: أنه كان مضطجعاً فأتاه جبريل فأخرجه من المسجد فأركبه البُراق فأتى بيت المقدس ثم دخل المسجد فصلى فيه، ثم عرج به إلى السموات فاستفتحها جبريل واحدة واحدة، فرأى فيها من آيات ربه، واجتمع بالأنبياء صلوات الله عليهم، وصعد في سماء بعد سماء إلى سِدْرة المنتَهى، فغَشيَها من أمر الله ما غشيها، فرأى مظهر الجمال الأزلي، ثم زُجَّ به في النور فأوحى الله إليه ما أوحى ,

أما وَشى القصة وطرازُها فبابٌ عجيب من الرموز الفلسفية الإنسانية التي يُرمز بها إلى تجسيد الأعمال في هذه الحياة، تكون تعباً وتقع فائدة، أو تُلتمس منفعة وشهوة وتقع مضرَّةً وحماقة، ثم تفنى من هذه وتلك الصُّور الزمنيةُ التي توّهمها أصحابها، وتخلد الصور الأبدية التي جاءت بها حقائقها.

ومن هذه الرموز البديعة قوله: فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل أخذت الفِطرة. وإنه مرَّ على قوم يزرعون ويحصدون في كل يوم كلما حصدوا عاد كما كان؛ فسأل ما هذا؟ قال جبريل: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعَفُ لهم الحسنة سبعمائة ضِعف. ثم أتى على قوم تُرْضَخُ رءوسُهم بالصخر، كلما رُضِخَت عادت كما كانت ولا يُفَتّر عنهم من ذلك شيء. فقال ما هذا؟ قال جبريل: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحمٌ نضيج في قدر، ولحمٌ آخر نيء في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويَدَعون النضيج. فقال ما هؤلاء؟ قال جبريل: هذا الرجل تكون عنده المرأةُ الحلالُ الطيّب فيأتي امرأة خبيثة، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيباً فتأتي رجلاً خبيثاً. ثم أتى على رجل قد جمع حزمةً عظيمةً لا يستطيع حملَها وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الرجل تكون عليه أماناتُ الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها. ثم رأى نساءً معلَّقاتٍ بثديِّهن، فسأل، فقال جبريل: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم.

ونحن على الرأي الذي عليه جمهور العلماء من أن الإسراء والمعراج كانا بالجسم والروح معاً على التأويل الذي سنبينه. ويثبت ذلك قوله تعالى في سورة (والنجم): (إذ يغشى السِّدرةَ ما يغشَى، ما زاغ البصرُ وما طغى). فلا يكون البصر يزيغ ويطغى إلا في الجسم ولا ينتفي عنه ذلك إلا وهو في الجسم. ولم ينتبه أحد من المفسرين إلى المعنى المعجز العجيب في قوله (وما طغى)؛ فذلك نص على أنه كان يرى بجسم قد تحول عن الطبيعة الآدمية المحدودة فليس فيه منها شيء، إذ لا يكون طغيان البصر إلا من تسلط الخيال عليه بأهواء الجسم التي لا يستقيم بها حكم على حقيقته، فما زاغ البصر بكونه مقيد الحاسة، ولا طغى بكونه مطلق الخيال، بل كان كما يُريه الله من آياته، أي كان حقيقةً كونيةً في غير حالتها الأرضية الناقصة.

والذين قالوا إن الإسراء والمعراج كانا رؤيا رآها النبي ؛ احتجوا لذلك بقوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) وقد خلط المفسرون في هذا أيضاً، وإنما كان التعبير بلفظ (الرؤيا) وهي التي تكون مناماً، لنفي تأثير الحواس على الرائي وإثبات أن الطبيعة الآدمية بجملتها كانت فيه كالنائمة عن حياتها الأرضية بحقائقها وأخيلتها معاً فليس نائماً كالنائم ولا مستيقظاً كالمستيقظ.

وفي أساس القصة جبريل والبراق؛ وهما القوة الملائكية، والقوة الطبيعية، أو الروح الملائكي والروح الطبيعي، ولم يوصف البراق بأنه دابة إلا رمزاً إذ لا يأتي للعرب أن يفهموا ما يراد منه وعندنا أنه سمي البراق من البرق، وما البرق إلا الكهربائية، وهذا هو المراد منه. فتلك قوة كهربائية متى نَبَضت جمعت أول العالَم بآخره. وهذه هي الحكمة في أن آية الإسراء لم تذكر أنه كان محمولاً على شيء إذ لم يكن محمولاً إلا على الروح الأثير.

وما دامت القوةُ الملائكية والقوة الطبيعية قد سُخرتا له فلا معنى لأن يكون ذلك للروح وحدها، بل اجتماعهما معاً في القصة دليل على أن سر المعجزة إنما كان في تيسير ملاءمة جسمه الشريف لهاتين الحالتين؛ فيتحول في صورة كونية ملائكية بين سر الملك وسر الطبيعة، وحينئذ لا تجري عليه أحكامُ الحواس ولا أحكام المادة.

ومن الممكن أن تتحول الأجسام إلى حالتها الأثيرية في بعض الأحوال الخارقة، وبهذا يعلَّل طيُّ الأرض لبعض الروحانيين وتعلل خوارق كثيرة مما يَحدث في استحضار الأرواح لهذا العهد ومما يأتيه فقراء الهند، ومما كان يصنعه (لاهوديني) الأمريكي إذ كانوا يغلِّلونه بالسلاسل والقيود ثم يرونه طليقاً؛ ويحبسونه في السجون المحصَّنة يقوم عليها الحراس وتُمسكه فيها الأبواب والجدران، ثم يجدونه في بعض الفنادق.

وليس للعقل أن ينكر شيئاً من هذا ونحوه فان تركيب الطبيعة ردٌّ عليه، ونقصه هو ردٌّ على نفسه، والمستحيل على الأعمى هو أيسر الممكنات على المبصر.

فأنت ترى أن ذكر البراق والملك في أساس قصة الإسراء والمعراج هو صلة القصة بالمعجزة وهو عينه صلتها بالبرهان العلمي ولو لم يكونا فيها لما كان لها تفسير.

والقصة بعد ذلك تثبت أن هذا الوجود يرق وينكشف ويستضيء كلما سما الإنسان بروحه، ويغلظ ويتكاثف ويتحجب كلما نزل بها، وهي من ناحية النبي قصةٌ تصفه بمظهره الكوني في عظمته الخالدة كما رأى ذاته الكاملة في ملكوت الله، ومن ناحية كل مسلم من أتباعه، هي كالدرس في أن يكون لقلب المؤمن معراجٌ سماويّ فوق هذه الدنيا ليشهد ببصيرته أنوار الحق، وجمالَ الخير، وتجسد الأعمال الإنسانية في صورها الخالدة؛ فيكون بتدبره القصة كأنما يصعد إلى السماء وينزل؛ فيستريح إلى الحقائق الأساسية لهذه الحياة فيدفع عن نفسه بذلك وتعقُّد الأخيلة الذي هو أساس البلاء على الروح.

ومتى استنار القلبُ كان حياً في صاحبه وكان حياً في الوجود كله. ومتى سلمت الحياة من تعقيد الخيال الفاسد لم يكن بين الإنسان وبين الله إلا حياةٌ هي الحق والخير، ولم يكن بينه وبين الناس إلا حياةٌ هي الرحمةُ والحب.

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي