مجلة الرسالة/العدد 122/في الجمال. . .

مجلة الرسالة/العدد 122/في الجمال. . .

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 11 - 1935


بحث تحليلي نهديه إلى الآنسة شرلوت واصف ملكة الجمال

العالمي في هذا العام

ما هو الجميل؟ الجميل في إجماع الناس هو ما ينشئ في الذهن فكرة سامية عن الشيء في الطبيعة، أو عن الموضوع في الفن فيبعث في نفسك عاطفة الإعجاب به. ولكن ما هي على التحديد الصفات التي تبعث اللذة وتثير الإعجاب في بدائع الفن أو في روائع الطبيعة؟ ذلك ما نحاول شرحه في شيء من الإفاضة.

الطبيعة والفن إنما يحدثان أثرهما في النفس إما بالفكرة وإما بالعاطفة وإما بالشعور الصادر عن آلات الحس؛ ومن ذلك تنوع الجمال فكان عقلياً وأدبياً ومادياً ما في ذلك شك. ففي أي الجهات إذن تتعرف النفس والعاطفة والحواس وجوه الجمال؟ إن الخصائص المميزة للجمال هي القوة، والفِرَة، والذكاء؛ والمراد بالقوة شدة العمل وحدته، وبالفرة كثرة الوسائل وخصوبتها، وبالذكاء الطريقة الرشيدة المفيدة لتطبيق هذه الوسائل. ولا جدال في أن الحواس ليست كلها أهلا لنقل هذه الخصائص الجمالية الثلاث، وإنما ينفرد منها السمع والبصر بنقل أحاسيسها نقلاً قوياً يثير الدهش والإعجاب واللذة. أما الانفعال الذي يأتيك عن طريق الشم والذوق واللمس، فلا ينشأ عنه فكرة ولا عاطفة، لأن الطعوم والروائح، والملوسة والخشونة، والصلابة واللدونة، والحرارة والبرودة، أحاسيس بسيطة عقيمة قد توقظ في النفس ذكرى خابيةً أو عاطفة غافيةً، ولكنها لا تنتج واحدة منهما. وإذا كان البصر آلة الجمال الحسي أو المادي، والسمع آلة الجمال العقلي والخلقي، فإن في هاتين الحاستين الدليل على خصائص الجمال الثلاث، ذلك لأن أجمل ما يؤثر في العين والأذن هو ما بلغ من القوة والفرة والذكانة أسمى غاية؛ وجمال الأشياء إنما يتفاضل فيهما بمقدار ما يشتمل عليه من هذه العناصر؛ وكلما نقص عنصر منها أو قل، ضعف فينا الشعور بالجمال على نسبته. ما الذي يجعل لعملي النفس وهما الفكر والإرادة هذه الصفة التي تملك اللب في العبقرية والفضيلة؟ لا شيء غير القوة والفرة والذكاء، سواء أكان ما تعجب به براعة الصنع أم مهارة الصانع. إن الطِّيبة في ذاتها فضيلة، ولكنها لا تكون جميلة إلا إذا اقترنت بالقوة؛ فسقراط في الحكماء، وعمر في الخلفاء، مثلان سائران في جمال الخلق، ولكنك إذ جردت أخلاقهما مما ينبئ عن القوة وخواصها من الصدق والصبر والشجاعة والسمو ذهب الجمال وبقيت الطيبة. إذا صنعت المعروف في صديقك وعدوك كان الفعل كريماً في الحالين، ولكنه في الصديق عادي لأنه بسيط سهل، وفي العدو ممتاز لأنه عظيم شاق؛ وفي هذه القوة التي تقتضيها تلك المشقة كان جماله. إن وفاء السموءل بدروع امرئ القيس فضيلة، ولكن اقترانه بالقوة على تضحيته بابنه جعله آية في جمال الوفاء؛ وإن تنفيذ بروتوس عقوبة الموت على أحد المجرمين عادة مألوفة، ولكن تنفيذه إياها على بنيه الذين ائتمروا بروما مثل نادر لجمال البطولة. وموقف هكطور مع أندروماك، وموقف أسماء بنت أبي بكر مع ابن الزبير لا يقلان جمالاً عن ذينك الموقفين. وسر الجمال في كل ذلك إنما هو تلك القوة الخارقة في تغليب فكرة الواجب على عاطفة البنوة.

كذلك الحال في أعمال الذهن؛ فحل معضلة في الهندسة، واكتشافٌ عظيم في الطبيعة، واختراع عجيب في الميكانيكا، ونظام محكم الوضع في التشريع، وقطعة قوية التفكير والتصوير في الأدب، كلها أعمال جميلة؛ لأنها تستلزم نصيباً موفوراً من الذكاء، وقوة عظيمة في التفكير؛ وشعور المرء بالجمال فيها، موقوف على إدراك القوة التي تقتضيها؛ فالعامي أمام الأحرف الهجائية، والتلميذ أمام منطق أرسطو، لا يجدان فيهما من الجمال ما يجده الفيلسوف، لأنه يدرك ما اقتضياه وتضمناه من الذكاء والقوة.

أما في البلاغة والشعر فأبْين خصائص الجمال الذكاء والفرة؛ فتزاحم العواطف، وتكاثر الصور، وتوافر الأفكار؛ ثم اتساع الخواطر بالذهن النير الذي يحييها ويقويها ويستولدها، وغزارة اللغة وخصوبتها وقدرتها على أن تعبر عن العلاقات الجديدة للحياة، أو على أن تفيض من الحرارة والقوة على الحركات المختلفة للنفس، كل أولئك يملأ شعاب القلب بالإعجاب، وذلك الإعجاب الذي نحسه هو عاطفة الجمال.

وشأن الجمال في المادة لا يختلف عن شأنه في الفكر والعاطفة؛ فإنك إذا رحت تبحث في الطبيعة عن الصفة العامة للجمال لم تجدها غير القوة، أو الفرة، أو الذكاء. ففي الحيوان تجد هذه الصفات الثلاث مجتمعة ومتفرقة، ففي جمال الأسد القوة، وفي جمال الطاووس الفرة، وفي جمال الإنسان الذكاء. ولا أقصد ذكاء الإنسان في نفسه، إنما أقصد ذكاء الطبيعة في تهيئته وتثقيفه؛ وذكاء الطبيعة معناه مطابقة طرائقها لصورها، وملاءمة وسائلها لغاياتها. فغايتها من الرجل غير غايتها من المرأة، ولذلك اختلفت الوسائل في الزوجين، وتباين مقياس الجمال في الجنسين. أرادت من الرجل أن يعمل ويقاتل ويحمي زوجه ويعول أسرته، فزودته بما يحقق هذا المراد ويُمضي تلك الإرادة: تركيب وثيق محكم تنم ملامحه على السرعة والمهارة والقوة والشجاعة، وجسم متجاوب الأعضاء متناظر الشكول متوازن الأوضاع يصلح لكل عمل ويقدر على كل حركة ويستقيم على أي صورة، وسِماتٌ من الشهامة والجرأة والحنان والحساسية تفيض من العيون وتنتشر على الوجوه وتختلج على الشفاه، وجملة من الصفات الخلقية والجسمية تؤلف في الإنسان مزايا الجمال المذكر؛ فإذا قلت رجل جميل كان معنا ذلك أن الطبيعة وهي تكوّنه عرفت ما تفعل، وفعلت ما تريد.

(للبحث بقية)

أحمد حسن الزيات