مجلة الرسالة/العدد 123/صور من هوميروس

مجلة الرسالة/العدد 123/صور من هوميروس

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 11 - 1935


13 - حُروب طَرْوَادَة

مقتل بتروكلوس

للأستاذ دريني خشبة

قتِل ساربيدون ملك ليسيا وقائد فرسانها، وأشجع مقاتل في جيش طروادة بعد هكتور؛ ووقف بتروكلوس على جثته يصليها سخرية وهزوا، ناسياً أنه إنما يهزأ بابن زيوس سيد الآلهة، من آثر زوجاته إليه، أوروبا الجميلة المفتان، التي وقفت من ذروة جبل إيدا تنظر إلى المعركة الحمراء، وتشهد مقتل ابنها. . . وتبكي!!

وتثور ثائرة الأم التاعسة، وتهيب بالإله الأكبر أن يحمي جثة ولدها، بعد إذ عجز عن حمايته حياً، إذ عجز عن دفع ما قضت به ربات القدر.

وينظر زيوس فيري إلى بتروكلوس واطئاً بقدمه صدر ساربيدون، عادةَ الجاهلية، ويسمع إليه يقذفه بأشنع عبارات التهكم والاستهزاء، غير راث لهذه الروح التي تفيض، أو معتبر جلال الموت الذي تخشع أمامه القلوب؛ فيثور الإله، ويحنق على بتروكلوس وجند بتروكلوس، ويأمر من لاتونا. . . أبوللو العظيم. . . فينطلق من فوره إلى معمعان الحرب، ويرسل إلهي النوم والموت فيحميان جثمان القتيل، ويدفعان عنه سباع الميرميدون التي تكاثرت حوله تريد لو تسبي سلاحه، وتستنقذ دروعه.

أما الجثة، فيحملها الإلهان الكريمان إلى ليسيا؛ وثمةَ، يخلطان بها حنوط المخلود، ويلفانها في ثوب سماوي من ثياب الرحمة، ويجمعان حولها عرائس الفنون تبكيها وتنشد لها أوجع ألحانها، وأشجى ما تكن موسيقاها.

ويبدو لبتروكلوس أن طروادة، بعد ساربيدون، لقمة سائغة، وغنيمة باردة، فيهتف بالإغريق مرة، وبالميرميدون مرة أخرى، أن يقاحموا نحو أسوارها، وأن ينتهزوا فرصة تفتح عليهم فيها المدينة الخالدة.

ولا تدري كيف يستيقظ الطرواديون وأحلافهم من سكرة الروع التي غشيتهم فينكشف لهم أن البطل الذي قتل ساربيدون وعشرات غيره من صناديدهم، ليس هو أخيل العظيم، وإ يكن يحمل خوذته، ويقنّع في دروعه، ويذرع الساحة بعربته. . فتهدأ أعصابهم، ويثبت جأشهم، ويأخذون في مناهضة الميرميدون والإغريق جميعاً.

ولكن بتروكلوس يهجم غير هياب، ويجندل من حوله الأبطال المذاويد، ويقود جنده إلى البوابة الكبرى حيث وقف هكتور ينظر إلى المعركة بعينين مشدوهتين، ونفس مذهوب بها، وقلب حيران متصدع. . .

ووقفت الآلهة دون البوابة تحمي طروادة الخالدة. . .

ذلك أن بتروكلوس كان كلما بلغ ثمة. . . وجده وجنده ينسحبون إلى وراء بقوة خافية لا يدرون سرها، ولا يعرفون من أين تأتيهم فتتخطفهم، وتردي جحافلهم. . . وهي على قاب قوسين من داخل المدينة. . . أو أدنى!

وفي الهجمة الثالثة، سمع بتروكلوس إلى صوت إلهي يقول: (بتروكلوس! ليس على يديك تفتح هذه المدينة الخالدة! بل هي لن تفتح على أخيل العظيم الذي هو أقوى منك، ومن عشرة من أمثالك! عد من حيث جئت، واحذر أن تكون آخرتك اليوم، في هذا الميدان المضرج بدماء ضحاياك).

وتلفت بتروكلوس فرأى الهاتف هو إله الشمس، أبوللو، أيوللو بعينه، رب طروادة العظيم، واقفاً فوق برجها الباذخ يقلب قوسه في يديه الجبارتين، مرسلاً في عساكر الميرميدون والجنود الهيلانيين، نظرات تقدح الشرر، وتوري نيران الكيد والجبروت!

واقشعر جسم بتروكلوس، وأيقن أن أبوللو هو الذي رفع جثمان ساربيدون من مكانه من المعمعة، وأنه أيضاً أقبل ليلعب دوره ضد الميرميدون وضد الإغريق، وضد بتروكلوس قبل كل شيء!!

ولكن بتروكلوس محارب، وقلب المحارب العظيم لا يعرف الجبن، ولا يتلجلج لقصف المنايا في المعركة، فكيف به يخفق فرقاً إذا رأى الآلهة نفسها تحارب في صفوف الأعداء!

أقبل يا بتروكلوس وأقدم، ولا يهولنك أبوللو، وألف ألف أبوللو، مادام العمر واحداً، والساعة آتية، ولن يفلت أحد مما قدر له!

وبهت الجمعان المقتتلان حول جثمان ساربيدون حين رأوْا إليه يرتفع في الهواء، ثم يتهادى إلى جهة ليسيا، موطنه الذي يبكي عليه، فعلموا أن السماء تعمل! وأحس الليسيُّون هذا الفراغ المفزع الذي خلفه ملكهم المقتول فيهم، فذهب رئيسهم المغوار، جلوكوز، نائب الملك وخير وجوه ليسيا، إلى حيث وقف هكتور ينظر إلى المعمعة قريباً من البوابة الكبرى، فوقف تلقاءه محطم القلب، دامع العين، موهون القوى، وقال: (يقف هنا بطل أبطال طروادة العظيم، ويدع أحلافه البواسل يجودون بأرواحهم من أجل اليوم، ويسيلون نفوسهم على ظبي الرقاق البيض التي يرهفها في وجوههم أعداؤكم! ولأي شيء!؟ لأنكم استجرتم بنا فأجرناكم وأسرعنا إليكم نفتديكم بالمهج الغالية والدماء الزكية! هكتور! لقد قتل ساربيدون، فهل علمت! هل علمت هذه النفوس التي يمضها الأسى، والعيون التي تقرحها الدموع، ويعصف بها الدم!؟ فيم وقوفك هكذا ترمق الساحة وقد رأيت من فتك الميرميدون بنا ما رأيت. هل فكرت في حماية مولانا الملك، أو على الأقل صيانة جثمانه العزيز؟! لقد سبوا دروعه وسلاحه، فأي عار يصمنا في طويل الأحقاب والآباد؟ يا لثأرنا. . . يا لثأرنا. . .؟

ولم ينبس هكتور!

ولكنه شاهد الميرميدون يعيدون الكرة بعد الكرة على الطرواديين، فينالون منهم ويمزقون صفوفهم، وشاهد البطل الإغريقي المشهور إيجيوس، يصول بين الجيشين ويجول، ويجندل الأبطال وببيد لها ميم الرجال، فأحذ هكتور حجراً كبيراً وانتهز فَرّة من إيجيوس، وقذف بالحجر فوق رأسه فشجعه، وبرز المخ، وتدفق الدم، وتردى البطل فوق الحدور حتى استقر في بسيط الساحة!

واستشاط بتروكلوس غضباً! ويود لو كان قريباً من هكتور فيضغط على عنقه ضغطة تذهب به إلى الجحيم! ولكنه لم يستطع إلا أن يثأر للقتيل بمثل ما صنع هكتور؛ فقد تناول جلموداً كبيراً، وقذف به ستينلاس الهائل، أشجع شجعان طروادة الأحياء، فأطاح جمجمته، وهوى الجلمود على مفرش جواده فقتله، بين عجب الطرواديين وشدة تحيرهم!!

ولكن جلوكوز - رئيس الليسيين - يرى إلى ذلك فيتسخط، وينقض على البطل الهيلاني الكبير باثيسيز، فيشكه برمحه شكة تذهب به، وتتركه يتشحط في دمه. وتستمر المعركة. . .

أما أبوللو! فيغيظه من هكتور هذا الجمود الذي استولى عليه، وذلك الموقف الجبان الذي يحول بينه وبين الميدان، وفي الحق، لقد كان هكتور ينظر إلى شياطين الميرميدون ولا يصدق أنهم مقاتلة من البشر، بل وقر في قلبه أنهم زبانية من جحيم بلوتو سلطتهم المقادير على الطرواديين يسومونهم الخسف وسوء العذاب!

وتنكر أبوللو؛ فبدأ في زي محارب في عنفوان الشباب، ثم أجرى في عروقه من دماء بني الموتى، وغضَّن قليلاً من جبينه، وسوى من ساعديه، ونثر فوق عدته من ثرى المعمعة، ولوَّح وجهه بملامح (أسيوس) العظيم، أخي هكيوبا، وخال هكتور؛ وسار قُدُما إلى حيث وقف فتى طروادة المسحور بروع الساحة الهوجاء:

(هكتور! فيم إحجامك عن لقاء الأعداء يا بني؟ هلم، هلم! فَوَ أرباب الأولمب لو كان لي شبابك وعنفوانك، لصاولت هؤلاء الميرميدون الألداء، ولأخليت منهم تلك الحومة التي ملأتك هلعاً! أقدم يا هكتور ولا تحجم هكذا! إلق بتروكلوس فقد تصرعه، وإنك لصارعه، وإنك لعاقد إكليلاً من المجد فوق رأسك لا يذبل أبد الدهر، وحسبك أن أبوللو صاحبك وحاميك ومسدد خطاك، ومضاعفٌ بتأييده ضرباتك! هلم، هلم، وعش عزيزاً يا هكتور، أو مت كريماً يا بني، بين طعن القنا وخفق البنود!)

وانفتل أبوللو فانخرط في صفوف المقاتلين، وطفق يُصرع أبطال الهيلانيين ليضرب المثل لهكتور، وليشحذ من همته الخابية، وليوقظ شبابه النائم.

فلما رأى هكتور جلائل هذه الفعال التي أبداها خاله - وما هو بخاله - انكشفت عنه هذه الغمة التي غمرته، وأمر سِبْريونيس، سائق عربته، أن ينطلق به إلى الحومة. فانطلق السائق المسكين نحو بتروكلوس، حتى إذا كان على مقربة من شباة رمحه، ترك صاحبه وجهاً لوجه معه. وكان السائق من مغاوير أبطال طروادة، فأخذ يناوش بتروكلوس هو الآخر، فما كان من قائد الميرميدون العظيم إلا أن قذفه بحجر هشم رأسه، وصدع فقاره، وطار بروحه إلى هيذر.

واقشعر هكتور من هول الضربة، وعز عليه أن يودي سبريونيس وهو بين يدي مولاه، فلا يجد له حامياً. ولكن الطرواديين تكبكبوا حول القتيل، يذودون الهيلانيين الذين كان كل همهم أن يفوزوا بعدته، أثراً حربياً خالداً!!

واشتد صيال القوم حول جثمان السائق، وصخبت زوبعة القتال فوقه، واشترك هكتور وبتروكلوس مع أجنادهما؛ فكان جماعة يشدون القتيل من قدميه، بينما جماعة أخرى تشده من الرأس، وهم يعفرونه فيما بين هذا وذاك بالتراب، ويلطخونه بالدم!

ووجد أبوللو فرصته!

أبوللو الخائن! أبوللو سيد الشمس الذي لا يستحي! أبوللو الإله الذي يفرق أن يلقى بتروكلوس وجهاً لوجه، فيأتيه من الظهر! كأجبن الجبناء!!

يا للآلهة! ومسكين يا بتروكلوس!!

لقد تقدم أبوللو، مستجمعاً كل قوته في قبضة يمينه الجبارة فأهوى على قفا بتروكلوس بضربةٍ خائنةٍ كضربات اللصوص، حين ينسلون تحت أستار الليل، فأطار صواب البطل، وأوقع الخوذة الأخيلية الهائلة، وغودر الرأس العظيم مكشوفاً في متناول كل ظباةٍ وكل سنان!

ولم يدع هكتور فرصته تمضي، بل سرعان ما أبصر بتروكلوس يتلفت يرى صافعه، حتى أرسل رمحه الرعديد الخائر، إلى الرأس العاري، فأقصده. . .

وسقط بتروكلوس المسكين. . . مضرجاً بدمه!!

ووقف هكتور يتشدق، ويفاخر تلك المفاخرة الكاذبة: (بتروكلوس! أرأيت؟ لقد انتهيت! ولقد طاحت آمالك وذهبت أمانيك فوق هذه الساحة أباديد! بتروكلوس! أكنت تحلم بأن تُفْتح طروادة عليك، فتسوق بيض خدورها إماء بين يديك إلى بلادك وتُقَرّن في الأصفاد أبطالها البهاليل!؟ أيها التاعس. لقد ترديت من عربة أخيل التي لم تكن يوماً أهلاً لها، وبعد قليل تنوشك سباع الطير، وتغادرك فوق ثرى طروادة صعيداً جرزاً ورفاتاً سحيقاً!!

بتروكلوس! يا أتعس قتيل في هذه الساحة الحمراء!

كم كنت تحدث نفسك أن لو كان هكتور، هكتور الحلاحل، قاتلك، وسافح دمك، هو الذي ينام تلك النومة الساعة بين يديك!!

وكم كنت تمني نفسك أن لوعدت بعدة هكتور وعتاده إلى مولاك، إلى أخيل الذي أرسلك إلى الحومة، ولم يجازف بنفسه فيها، وهو يعلم أن أسدها الهصور لا بد قاتله، فافتدى نفسه بك، وضحاك في سبيل خلاصه، من هذه الصرعة التي زلزلتك!

بتروكلوس! أهكذا قد غرر بك أخيل، فأطلقك إلى حيث تلقى حتفك وتسبح في دمك، وتغص بآلامك؛ وإنه ليسبح الآن في شهواته ويقارف لذاته، ولا يدري مصيرك المحزن، ولا يعرف ما حل بك من موتة زؤام!!. . . . . .)

وكان بتروكلوس العظيم يجود بروحه، ويسمع إلى هذا الهذر، ويبكي! فلما انتهى هكتور تأوه القتيل آهة عميقة، وقال:

(هكتور!

حق لك أن تفتخر الآن)

أما قبل هذه اللحظة، فقد كنت تبحث عن قلبك الرعديد فلا تجده، لأنه طاش من شدة ما عاينت من ضربات الميرميدون!

على أنك لو كنت رجلاً، لآثرت أن تدفن وجهك في الرغام، دون أن تفخر بنصر ليس لك في أقله يدان!

لست أنت الذي رميت يا هكتور، بل هو سيد الأولمب، وولده أبوللو، هما اللذان رميا، وهما اللذان كتبا هذا القضاء، وأبرما هذا القدر!!

وإلا، فو أرباب هيلاس، لو صاولت عشرين كلباً مثلك، لما أفلت منهم أحد أبداً؛ ولأرسلت أرواحهم الخبيثة تتردى في نار جهنم!!

أجلي هو الذي أعجلني يا هكتور، وأبوللو هو الذي فتك بي تلك الفتكة البكر، أما أنت، فلم تصنع شيئاً، أكثر من أن رميت رمية الجبان!!

على أني أقولها لك قولةً غير كاذبة

إنك ستشرب بالكأس التي شرب بتروكلوس، ولن تبسم لك الدنيا أكثر مما فعلت، فانتظر، فسيأتيك عذاب يشقيك، وسينتفض أخيل العظيم حين ينتهي إليه نبأ مصرعي، فيهرع إلى هذه الساحة، والويل لك من رمحه الظامئ إلى دمك!)

وكانت هذه المقالة قد أجهدته، فسكت قليلاً، ثم أغمض عينيه إغماضة متعبة، وفتحهما فجأة، ونظر إلى جنوده، وقال:

(ميرميدون!

وداعاً. . . سلامي. . . إلى. . . أخيل!!) وفاض الروح الكبير، وسكنت الساحة الحزينة كلها. . . كأنها تبكي. . .!

وكأنما هزت كلمات بتروكلوس فؤاد هكتور، وكأنما خشع بطل طروادة لجلال الموت، فصمت طويلاً. . . وقال، مخاطباً القتيل:

(بتروكلوس!

من يدري إذا كان أخيل هو الذي يقتلني، أو كنت أنا الذي أقتل أخيل!

هذه آجال يا أخي. . . فالسلام عليك!!)

ولم يتورع هكتور أن ينزع حربته من رأس البطل، ولم يتورع كذلك أن يأمر فينزع رجاله عدة أخيل. . .

تذكاراً حربياً!

وعتاداً مؤقتاً!

(لها بقية)

دريني خشبة