مجلة الرسالة/العدد 124/على هامش الموضوع

مجلة الرسالة/العدد 124/على هامش الموضوع

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1935


في الجمال؟!

حاولت أن أتابع البحث (في الجمال) فنبا علىّ الفكر، وشرد عني الخيال، واستبهم أماميَ المسلك. وكيف يستطيع أن يبحث في الجمال من يرى القبح الشنيع قد هجم على المشاعر من وراء البحر، فآذى الأحداق، وسمم الأذواق؛ وشوه كل منظر؟ ومَن أقبح من قادر يختل، ومعاهد ينكث، وصديق يروغ، ومتمدن يعالن الناس بسخف الذمة، وذائد عن الحق يتبجح باهتضام الحق، وغارق في الثراء يتحلب ريقه على كفاف الفقير، وكابوس من الأنس يجثم على صدرك نصف قرن، تريد أن تزحزحه فيثقل، أو تخاطبه فيغبى، أو تغاضبه فيبرد؟

إن في بعض أعمال اللصوص جمالاً إذا نمّت جراءتها على القوة، أو دلت حيلتها على الذكاء؛ ولكن أي جمال في صوت يتحنن بالرياء في (جنيف)، ويتخشن بالعداء في (جلد هول)، ثم لا يختلف في مقامه وقراره عن عواء الذئب في روما؟ أليس هذا وذاك مظهرين وضيعين قبيحين من ضراوة الحيوانية في الإنسان الضعيف؟

على أن من يسطو وفي يده الخنجر، أدنى إلى الرجولة ممن يسطو وفي يده المسبحة؛ لذلك كانت قهقهة (الدوتشي) من تصريح (هور) سخرية أليمة، خنس لها الرياء، وخجل منها الدهاء، وفرت أمامها الحجة!

الحياة جميلة؛ ولكن هذا الإنسان يلونها بلونه فتقبح؛ وقد جاهد المرسلون والمصلحون أن يجلوها على صبغة الله فعجزوا أمام بغيه وجشعة!

ماذا يبتغي الإنسان من الإنسان إذا كان يفسح له في أرضه، ويفضل عليه من رزقه، ويقول له: هواك هواي، ورضاك رضاي، وعدوك عدوي، ولكن لي وطني ولك وطنك، فلينعم كلانا بسلطانه الطبيعي على ما يملك، وليكن بيننا ما بين الحليف والحليف من تعاهد في شرف، وتعاون في استقلال، وتعامل في حرية؟ هذا كلام على بساطته وصراحته ووضوحه ما يزال يعجز الإفهام في أمة تفاخر بالعلم والحكم، وتباهي بالديمقراطية والعدل؛ لأن الأنانية المسلحة إذا عصفت في النفوس غشّت على الحواس فلا تشعر، ورانت على الأذهان فلا تدرك، وأنبهم في الخواطر مفهوم الفضيلة في الإنسان، ومدلول الجمال في الطبيعة، فلا تدرك من معنى البحر غير الأسطول، ولا من دلالة الأرض غير الجيش، من جمال غير الاستعمار الوقح.

من شذوذ هذه العقلية الغالبة في الغرب ما نعاني ويعاني الشرق من أرزاء ومحن!

ومن شذوذ هذه العقلية الطاغية ما تصبَّب أمس من نفوس الشباب على أديم الأرض! فدحتهم تركة الآباء الغارمة، وأحفظتهم سياسة الأصدقاء الجارمة، فغضبوا للحق الطعين، وفزعوا للأمل المخيَّب، ففاضت أرواح طاهرة، ودميت وجوه حرة، وضجت بالأنين مستشفيات، وجأرت بالشكوى سجون، وتجاوبت بالحزن بيوت، وتألف من هذه السطور الحمر صفحة بيضاء من تاريخنا الوطني الحديث.

جف اللسان وحفى القلم من استعداء القانون واستصراخ العدالة؛ والقانون والعدالة كلمتان لا تعنيان إلا إرادة القوى ومنفعة الغاصب؛ فإذا لم يكن بجانب الحق قوة تؤيده، وبازاء العدل سلطان يقيمه، كان استمساك الضعيف بهما استمساكاً بالهباء المنتثر!

إذا أعوزتك اليوم قوة السلاح فلا تعوزك قوة الخلق؛ وقوة الخلق ميسورة لك متى أقنعت نفسك بأنك إنسان له إرادة قبل الوظيفة، وكرامة فوق المال، وواجب مع الحق، وتاريخ بعد الموت. وقوة الخلق هي التي تجعل للأمة كلمة لا تتعدد، وسياسة لا تتردد، ومهابة في الصدور تكسر من طرف المحتقر، وتكف من شرة الطامع، وتصد من عادية الدخيل.

جربنا كل شئ في جهاد العادين فما أغنى عنا جهاد ولا تجربة، لأن العُدة كانت قوية إلا من ناحية الخلق. وإذا لم يكن الخلق كانت الشهوة والأثرة والتحاسد والتخاذل والتواكل والهوى؛ وهذه الرذائل مجتمعة ومتفرقة كانت في مدى أعوام الجهاد الستة عشر وباءً ذريعاً تسلطه الأقدار من حين إلى حين على جهود الشباب فيفنيها، وعلى آمال الأمة فيذويها، ثم يقطع ما بيننا وبين الزمن المتقدم فنسقط في هوة الماضي على الموقف الأول.

هانحن أولاء على جلَد الصخرة التي وثبت من فوقها الأمة: وراءنا الهدنة التي قُسمت عليها الأسلاب ووُزعت بينها الغنائم؛ وأمامنا أطلال من الجهود العافية، وأنقاض من الأماني المحطمة؛ وعن أيماننا وعن شمائلنا آثار أقوام كانوا قبلنا فغبَّروا في وجوهنا وانطلقوا خفافاً متساندين إلى الأمد البعيد. فهل لسادتنا الذين يتولون استئناف الجهاد أن يجربوا في قيادتهم قوة الخلق؟ إنهم إن فعلوا ذلك أمنوا ولا ريب نكسة العلة، ورِدَّة الهزيمة، وضلة الطريق. جاهدوا أنفسكم قبل أن تجاهدوا العدو، فإن من لم ينتصر على نفسه لا ينتصر على غيره، ومن لم يقد نفسه الواحدة، لا يستطيع أن يقود النفوس المتعددة.

أحمد حسن الزيات