مجلة الرسالة/العدد 125/الفلسفة

مجلة الرسالة/العدد 125/الفلسفة

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 11 - 1935



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

كلمة تثير في النفس ما تثير من غموض وإبهام، وتؤذن بشيء من الغرابة والخفاء. يقال: تفلسف فلان إذا ظن انه يمعن في الغريب ولا يأتي بما ألفه الناس. وقد يرمى الفلاسفة بأنهم (يعيشون مع الملائكة) ويسبحون في عالم الخيال، لا يشعرون بما يشعر به من حولهم، ولا يقيسون الأمور بما توارد عليه العرف المألوف. يقال: هذا فيلسوف، وما لنا ولهذه الفلسفة، إذا أريد عد المحدث عنه وحديثه في عالم النظريات حيث لا تنال الحقيقة الواقعة ما تستحق من تقدير. لذلك انتبذت الفلسفة، وانصرف الناس عنها، ونظروا إليها نظرة ازدراء واحتقار، أو توجس وخيفة. فالعصريون والمتحضرون ينتقصون الفيلسوف مدعين انه لا يعيش في عصره، ولا يأخذ بقسط وافر من شؤون الحياة، والجامدون والمتأخرون يرمونه بالإلحاد والزندقة والخروج على الأديان.

والفلسفة في بلدنا بوجه خاص غريبة عديمة النصير والأعوان، لا تكاد تجد من يتحبب إليها، ويأخذ بيدها، ولا من يصورها للناس في شكلها الواضح ومظهرها الصحيح. فالنظم التعليمية العامة لا تعمل على نشرها، ولا تقف النام على حقائقها؛ والجمهور يفر منها، ولا يحاول أن يتفهمها ليؤمن بما لها من اثر في تهذيب الأفراد والجماعات ورفع مستواهم العقلي والخلقي؛ والخاصة يتبادلون منها أفكاراً بالية وأراء عتيقة قل أن تُعرض عرضاً مستقيما، وكأن الفلسفة في نظرهم ما جاء به أفلاطون وأرسطو دون أن يكون للقرون الوسطى والعصور الحديثة أبحاث يعتد بها أو نظريات يقام لها وزن. وهناك طائفة أخرى جنت على الفلسفة جنايات شنعاء، وزادت الناس فيها بغضا وكراهية، وهي جماعة أدعياء الفلسفة الذين يتهجمون عليها، ويكتبون فيها وينشرون، ويناقشون ويعترضون، دون أن ينفذوا إلى صميمها ويدركوا كنهها؛ وفي الصحف اليومية والأسبوعية من أمثلة هذه الجرأة العظيمة الشيء الكثير. وكان العلوم الفلسفية في هذا البلد حمى مباح، وسلعة تعرض في مختلف الأسواق، ومتاع يستخدمه من عرف ومن لم يعرف قدره. بل نلاحظ فوق هذا انه كثيراً ما كتب في الفلسفة من لم يجد السبيل إلى الكتابة في موضوع آخر؛ وبذا انعكست الآية وأصبحت الأبحاث الدقيقة مجال من لا طاقة لهم بها، وظهرت الفلسفة في ثوب مشوه منقوص؛ وإذا كنا نعيب على هؤلاء الأدعياء جرأتهم فلا يفوتنا أن نأخذ على الفلاسفة المختصين تقصيرهم في التعريف عن أنفسهم وتهاونهم في الدفاع عن فنونهم وعلومهم.

ليست الفلسفة غريبة بالقدر الذي يدعيه المعرضون عنها، ولا خيالية بدرجة تباعد بينها وبين الحياة وشؤونها. فللزارع فلسفته في حقله، وللرجل فلسفته مع زوجه، وللزوجة فلسفتها مع بنيها. لكل من هؤلاء وهؤلاء طريقة خاصة في تفهم الأمور المحيطة به والحكم عليها ووزنها بميزانها الصحيح؛ وتلك ولا شك فلسفة ذات مغزى عظيم. وما اصدق أرسطو إذ يقول: الإنسان حيوان فيلسوف. على أن الفلسفة بمعناها الدقيق لا تخرج عن دائرة الحياة العملية والتجارب اليومية؛ وكل همها أن تشرح هذه التجارب وتفسرها تفسيرا يرتضيه العقل ويطابق الواقع. فظواهر سرورنا، وألمنا، وقواعد سلوكنا، ومعاملتنا وآراؤنا ومعتقداتنا، هي في جملتها موضوع الدراسات الفلسفية، ومن منا يمر عليه يوم - بل ساعة - دون أن يحكم على شئ بأنه خير أو شر، وعلى آخر بأنه صواب أو خطا، وعلى ثالث بأنه جميل أو قبيح؟ وهذه الأحكام الثلاثة هي شغل الفيلسوف الشاغل وعمله الدائم، يعنيه أن يدرس ظواهرها، ويضبط قوانينها، ويبين للناس كيف يكونونها التكوين الصحيح. فالفلسفة إذن من الحياة في صميمها، أو إن شئت هي الحياة كلها؛ وكيف لا وفي دراسة للإنسان في مختلف أحواله الفردية والجمعية، الفكرية والخلقية.

وإذا كانت هذه منزلة الفلسفة فمن العبث أن نهملها؛ أو أن نضعها في الصف الأخير من أبحاثنا، وهل حاجتنا إلى تعرف المادة في تمددها وانكماشها، والجسام في مغناطيسيتها وجذبها، أمس من حاجتنا إلى تعرف أنفسنا في ميولهما ومشاعرها، وتنافرها وتآلفها؟ نعم أن دراسة الإنسان عسيرة ودقيقة، غير أنها لهذا السبب نفسه ضرورية ولازمة؛ ولا أظنها اقل تشويقا من أية دراسة أخرى. فعناصر الثقافة العامة التي تشغل الأذهان الآن لا يصح أن تقصر على الجغرافيا الإقليمية، والاقتصادية، والهندسة النظرية والفراغية، والكيمياء، والطبيعة وما إليها دون أن يكون للفلسفة فيها نصيب كبير. على أن هذه العلوم نفسها نشأت في حجر الفلسفة وتربي في كنفها؛ فقد كان الإغريق الأول يطلقون كلمة فلسفة على أية معرفة كيفما كان نوعها، وكان العلم والفلسفة متآخيين ومتآزرين، وكثيرا ما كان الفيلسوف عالما يقنن القوانين العلمية ويوضحها، وكثيرا ما اهتدى إلى نظريات علمية على ضوء الدراسات الفلسفية. فطاليس وفيثاغورس الفيلسوفان الإغريقيان كانا رياضيين وعالمين في الطبيعة، وقد كتب أفلاطون على باب مدرسته: (لا يدخل هنا أحد ممن لم يلموا بأصول الهندسة)، وإذا جاوزنا العصور القديمة وجدنا أن ديكارات أبا الفلسفة الحديثة هو مخترع الهندسة التحليلية، وان ليبنتز كبير فلاسفة الألمان في القرن السابع عشر هو مبتكر حساب الجزئيات. ولئن كانت العلوم قد انفصلت عن الفلسفة الواحد بعد الآخر وكونت دراسات مستقلة لا تزال جمعها مسودة بلهجة وروح فلسفية، وفلسفة العلم النوم هي النقطة الحساسة والرئيسية كل مادة من مواد الدراسة الإنسانية. فالعلم ينزع ثانية إلى أن يكون فلسفيا وان يعود أيضاً إلى كنف أم غذته بلبانها من قديم، والأدب أيضا يتأثر بالفلسفة في أسلوبه ومعانيه، وغاياته ومراميه، وربما كان السر في نجاح كثير من الأدباء المعاصرين تلك النزعة الفلسفية التي رق بها شعورهم، ودق تفكيرهم، وسمت عبارتهم.

فليس ثمة بد من أن نتذوق الفلسفة ونذيقها للناس ما دامت الحياة تملي علينا درسها، والعلم الصحيح يعتمد عليها، والأدب الراقي ينهل من حياضها؛ ومن العار أن نبقى إلى اليوم وليس في لغتنا أبحاث فلسفية سهلة يجد فيها العامة سلوتهم، ولا دراسات عميقة يشحذ فيها الخاصة أذهانهم. أن البحث الفلسفي، ككل الأبحاث الأخرى، ضرب من التثقيف لا يصح أن تحرم منه أمة من الأمم؛ هذا إلى انه يجدر بنا أن تكون لنا فلسفة متميزة ذات لون خاص ومبادئ خاصة، وان ينقل الغرب عنا كما ننقل عنه، وبذا تنتظم دورة الفلك، ويعود التاريخ إلى مجراه، وتتصل الفلسفة العربية الحديثة بالفلسفة الإسلامية القديمة، وإذا كان الناس يتحدثون عن فلسفة إنجليزية وأخرى فرنسية وثالثة ألمانية، فلم لا يتحدثون عن فلسفة مصرية وشامية وعراقية؟

إبراهيم بيومي مدكور