مجلة الرسالة/العدد 125/في مائة عام

مجلة الرسالة/العدد 125/في مائة عام

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 11 - 1935



الصراع بين الطغيان والديموقراطية ومحنة الديموقراطية

المعاصرة

بقلم مؤرخ كبير

منذ نحو قرن ونصف كانت ريح الثورة الفرنسية الكبرى تهب على الملوكية الفرنسية، فلما انفجر بركان الثورة بعد ذلك بنحو عامين أو ثلاثة، سقطت الملوكية الفرنسية وكل صروحها ونظمها القديمة صرعى الفورة المضطرمة، ولكن الثورة الفرنسية لم تقف عند حدود فرنسا، ولم تقف عند سحق الملوكية الفرنسية، ولم تلبث أن غدت ثورة عالمية ترتجف لها كل العروش والنظم في أوربا القديمة، وتتحد جيوش أوربا القديمة قلى مقاومتها وإخمادها. ولكن جيوش أوربا القديمة ارتدت منهزمة أمام القوى المعنوية الجديدة الني تضطرم بها جيوش الثورة؛ ولم تسحق الثورة أمام العدو الخارجي، ولكنها سحقت في غمر من المعارك الداخلية على يد قادتها وزعمائها أنفسهم، ولم تلبث أن استحالت إلى حركة خانعة ذلول تحملها موجة من الطغيان العسكري لتحقيق نفس الشهوات القومية والمبادئ المطلقة التي قامت لسحقها.

غير أن الثورة الفرنسية تبقى مع ذلك حركة تحرير عالمية، بل هي من بين الثورات التحريرية الكبرى أوسعها مدى وأبعدها أثراً في تاريخ الإنسانية؛ ذلك أنها قامت قي الأصل على حقوق الإنسان، وجعلت غايتها تحرير الحقوق والحريات العامة من أصفادها، وسحق كل النظم الطاغية، وتقديس الفرد وحقوقه، واعتبار الدولة خادم الأمة في مجموعها، وخادم الفرد والأمينة على حقوقه ومصالحه؛ ولهذا كان ظفرها عظيما، وأثرها عميقا في بث المبادئ الديمقراطية والتحريرية في أمم أوربا القديمة؛ ومنذ فاتحة القرن التاسع عشر نجد معظم الأمم الأوربية التي تسودها النظم المطلقة مثل روسيا القيصرية، وإمبراطورية النمسا والمجر تجيش بفورات تحريرية متوالية، وتطالب بإقامة النظم والدساتير الحرة، ونجد الملوكيات القديمة المطلقة تجد بكل ما وسعت في قمع هذه الحركات التحريرية.

وقد تجلى هذا الصراع بين الطغيان والديمقراطية على اثر سقوط نابوليون وسحق الفور العسكرية البونابارتية التي شغلت أوربا مدى خمسة عشر عاما، وقامت الملوكيات الطاغية القديمة تأتمر وتتحد على قمع المبادئ والحركات التحريرية التي اتسع نطاقها وسرت إلى معظم الأمم الأوربية، واضطرت معظم الحكومات المطلقة أن تنزل عند ضغطها ووعيدها وان تبذل بعض المنح الدستورية؛ وأسفرت هذه الحركة الرجعية التي نظمها ودبرها إسكندري الأول قيصر روسيا عند عقد (المحالفة المقدسة) الشهيرة بين روسيا وبروسيا والنمسا (سنة 1815)، وكان غرضها الظاهر أن تنظم الدول الثلاث شؤونها الداخلية والخارجية طبق التعاليم المسيحية، وان يحكم الملوك الثلاثة بين شعوبهم بالعدل والمساواة، وان يقوموا بتأييد السلام، ولكن كان غرضها الحقيقي أن تتهاون الملوكيات الثلاث على قمع الحركات التحريرية التي تضطرم بها أمم القارة، وعلى تأييد الحقوق الملوكية المطلقة، وعلى مقاومة الروح الدستورية الحقيقة وإخضاعها لهوى العرش وأرادته؛ وقد انضمت معظم الدول الأوربية الأخرى إلى هذه المحالفة الشهيرة، عدا إنكلترا التي كانت تمثل النزعة الديموقراطية الخصيمة.

ولكن الروح الدستورية كانت قد نفذت إلى الأعماق وحمل تيار الحركة التحريرية أمامه كل شئ، فلم تنجح حركات القمع إلا قدر ما يؤيدها العنف؛ وكان العنف كالعادة يغذي هذه الوثبات الشعبية ويذكيها؛ فلم تلبث عير بعيد حتى عادت إلى الاضطرام؛ ومنذ سنة 1830 نرى الثورات الشعبية تتفجر هنا وهنالك في أوربا. ثم كانت سنة 1848، التي يمكن أن تسمى بحق عام الثورة الديموقراطية، وفيها سقطت الملوكية في فرنسا أمام إرادة الشعب مرة أخرى، وقامت الجمهورية الفرنسية الثانية؛ وفيها اضطرمت الثورات التحريرية في ألمانيا، وفي معظم أنحاء الإمبراطورية النمسوية، وفي كثير من الدول الإيطالية، واجتاحت أوربا من أقصاها إلى أقصاها ريح تحريرية قوية اهتزت لها كل النظم الطاغية والعروش القديمة المطلقة؛ ولم يلبث أن لاح فجر الديموقراطية الحديثة في الأفق قوياً ساطعاً.

وبلغت الديموقراطية ذروة ظفرها عقب الحرب الكبرى، فانهارت القيصرية الروسية، وانهارت الإمبراطورية النمسوية، والإمبراطورية الألمانية، والسلطنة العثمانية، وقامت جمهوريات فتية، في روسيا وألمانيا والنمسا وبولونيا وتركيا، وفي عدة أخر من الدول الجديدة الناشئة التي خلقتها معاهدة الصلح لأغراض عسكرية وسياسية؛ ثم قامت الجمهورية أخيراً في أسبانياٍ بعد أن سقطت ملوكيتها القديمة التالدة أمام الفورة العامة.

ولكن هذا الظفر الذي أحرزته الديمقراطية عقب الحرب الكبرى كان خليا، ولم يقم على أسس أو روح ديمقراطية حقيقية، بل استمد من الفوضى العامة التي أحدثتها الحرب؛ هذا إلى أن هذه الديمقراطية الظافرة لم تكن رزينة عاقلة، بل انساقت غير بعيد إلى ألوان خطرة من العنف والتطرف والفوضى. ومن جهة أخرى فقد كانت الديمقراطية قناعا للطغيان المطلق في روسيا السوفيتية وفي تركيا. وقد أدى تطرف الديمقراطية وتفرق كلمتها ووهن جبهتها غير بعيد إلى انهيار صروحها في إيطاليا حيث قام الطغيان المطلق باسم الفاشستية، ثم إلى انهيار صروحها في ألمانيا حيث قام الطغيان المطلق باسم الاشتراكية الوطنية، وانهارت الديمقراطية أيضا في بولونيا وفي النمسا وفي دول أخرى حيث قامت أنظمة قومية أو عسكرية طاغية بألوان وأسماء مختلفة، وهكذا لقيت الديمقراطية في بضعة الأعوام الأخيرة من ضروب الفشل والمحن ما لم تلقه قط في حياتها القصيرة الظافرة؛ والديمقراطية اليوم تناضل عن مبادئها وعن كيانها، ولكنها تناضل في غمر من الصعاب واليأس لأنها لا تناضل فقط أنظمة ومبادئ خصيمة، وإنما تناضل أيضا قوى عسكرية طاغية هي التي تعمل باسم المبادئ والنظم الجديدة.

غير أن الديمقراطية ما زالت تحتفظ بميزتها الكبرى، وهي أنها ما زالت تعتبر قانون الحكم العام، وما زالت مبادئها هي المبادئ الشعبية الخالدة، وهي المبادئ التي ترتكز إليها الحقوق والحريات العامة في كل الأمم المتمدنة؛ وهذا هو سر بقائها وسر قوتها، وهذا ملاذ آمالها ومستقبلها.

أما هذه النظم الطاغية التي تقوم اليوم باسم الشعب أو باسم القومية في دول مثل روسيا وتركيا وإيطاليا وألمانيا، فهي في الواقع نظم عنف وإرهاب محض؛ وهي ابعد النظم عن المبادئ الحرة والمبادئ الإنسانية: ذلك لأنها تمثل النزعة الفردية الحزبية قبل كل شئ، وفي هذه النزعة الفردية الحزبية تذوب فكرة الدولة والأمة والحقوق العامة؛ وقد قامت البلشفية في روسيا باسم الكتلة العاملة واسم سيادتها مناقضة لسيادة الرأسمالية في الدول الأخرى؛ بيد أن هذه السيادة المزعومة للكتلة العامة في روسيا، ليست سوى سيادة الحزب البلشفي، بل هي في الواقع سيادة عصبة من الزعماء والساسة يحكمون تلك الكتلة الشعبية الهائلة بوسائل العنف والإرهاب. نعم تزعم البلشفية أن لها غاية عالمية هي بث مبادئ الثورة العالمية وتحطيم النظم الرأسمالية كلها؛ وتعمل على البلشفية منذ أعوام طويلة لبث مبادئها ودعايتها في معظم أنحاء العالم،

ولكن البلشفية ما زالت وقفا على روسيا وحدها حيث تؤيدها القوة الطاغية العنيفة وحيث تتصرف حفنة من الطغاة الدمويين في مصائر الشعب الروسي وفي عقوله وأرواحه. ولقد نسجت الفاشستية في إيطاليا على هذا المنوال في تمكين قبضتها من الشعب الإيطالي، مع فارق في الأسس التي تقوم عليها فهي تقوم على فكرة السيادة القومية والعسكرية، بيد أنها كالبلشفية سيادة حفنة من الرجال، (بل رجل واحد) يؤيدهم حزب وجيش، ويفرضون أرادتهم على الشعب بوسائل العنف؛ وليس في الفاشستية ما يميزها إلا أنها من حيث التنظيم السياسي تقوم على الفكرة النقابية. وقد كانت الاشتراكية الوطنية (النازية أو الهتلرية) في ألمانيا احدث ألوان الطغيان المعاصر، بيد أنها من اشدها إمعانا في العنف وسحق الحريات والحقوق العامة؛ واهم مميزاتها وقواعدها الفكرة الجنسية أو فكرة السلالة والدم؛ وهي تذهب في تطبيق هذه النظرية التي تتخذها ستارا لغايات السياسة مذهب الإغراق المثير، وتصدر باسمها اغرب القوانين التعسفية وترتكب أشنع ألوان الاضطهاد والمطاردة؛ ومع أنها تتظاهر بأنها بطارد اليهودية في الواقع وتعمل على سحق نفوذها العنصري والاجتماعي في ألمانيا، فأنها في الحقيقة تذهب بعيدا في تأكيد النعرة الجنسية وتتخذها مثارا لعاطفة من التعصب الجنسي والقومي الشنيع، وهي بذلك من اخطر الحركات القومية التي تنذر بالانفجار المسلح؛ وللاشتراكية الوطنية خاصة أخرى، هي أنها تمعن في التسلط على شخص الفرد وعقله وروحه، فتسلبه كل إرادة وكل حق في التفكير أو التصرف المستقل، وربما كانت في ذلك اكثر إمعانا من البلشفية ذاتها؛ فالفرد لا وجود له في نظر الاشتراكية الوطنية؛ والدولة هي كل شئ. بيد أن الدولة والحكومة والزعامة ومصدر السلطات كلها ليست سوى العصبة الهتلرية ومن ورائها القوات النازية المسلحة؛ وهذا الإمعان في تطبيق الفكرة الحزبية لا يقتصر على الدولة والتشريع، بل يمتد إلى الاقتصاد والثقافة وكل ما هنالك مما له مساس بتكوين الفرد أو توجيهه، سواء في جسمه أو عقله وروحه وكما أن البلشفية تزعم أنها حركة ومبادئ عالمية لإصلاح الدولة والمجتمع، فكذلك تزعم الفاشستية الإيطالية والنازية الألمانية. بيد أن الفاشستية لم تنجح كحركة عالمية، وان كانت قد ظهرت آثار يسيرة منها في بعض الدول الأخرى ويمكن القول بأنها لقيت وما زالت تلقى في جميع أنحاء العالم المتمدين اشد صنوف المعارضة، بل ما زالت رغم كل ما عملته لإصلاح شؤون إيطاليا الداخلية تثير بوسائلها عواطف الاشمئزاز والمقت؛ كذلك الدعاية الهتلرية لم تجاوز حدود ألمانيا، ولم تلق مزاعمها الجنسية بالأخص صدى، وقد وصفت نزعاتها بأنها وثنية بربرية؛ والخلاصة أن هذه الحركات الطاغية التي قامت بالعنف والإرهاب وما زال يسندها العنف والإرهاب بقيت حركات محلية، ومن المحقق أن مصائرها ترتبط بمصائر زعمائها ومصائر القوى العنيفة التي تسندها، ومن المرجح أنها ستنهار عند حدوث أول انفجار عام. على انه لا ريب أن هذا الطغيان الشامل الذي يسحق شعوبا عريقة بأسرها، وذلك التطور المدهش في شؤون الزعامة والحكم وهو تطور ترتب عليه أن تثب أحط العناصر والطبقات إلى أسمى الزعامات السياسية والقومية؛ وذلك الاستعباد المزري لكرامة الفرد ولشخصه وعقله وروحه؛ وتلك الوسائل البربرية لتدعيم الشهوات الحزبية والمذهبية، وهي وسائل تذكرنا بالعصور الوسطى؛ وتلك الأحقاد القومية والجنسية التي تثيرها أذهان متعصبة منحطة: نقول لا ريب أن هذه الخواص التي تلازم نظم الطغيان الحاضرة، والتي هي ملاذ قوتها وحياتها، هي في الواقع دلائل واضحة على انحلال المدنية الغريبة الحاضرة، وعلى قرب انحدارها إلى غمر جديدة من الاضطراب والفوضى

(مؤرخ)