مجلة الرسالة/العدد 126/أندلسيات:

مجلة الرسالة/العدد 126/أندلسيات:

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 12 - 1935


2 - قصة الفتح بن خاقان

للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي

يتشابه الفتح بن خاقان وأبو الحسن بن بسام في أنهما كانا متعاصرين، وفي أنهما تصديا للكلام على أدباء الأندلس من العلماء والشعراء والكتاب والوزراء والملوك ممن عاصرهما ومن كان قبل عصرهما، وفي أنهما كانا يرسلان إلى معاصريهما يعرفانهم عزمهما ويسألانهم إنفاذ شيء من منثورهم ومنظومهم ليذكراه في كتابيهما: الأول في قلائد العقيان ومطمع الأنفس، والثاني في الذخيرة. قال العماد الكاتب صاحب خريدة القصر: حدثني الصاحب الكبير العالم جمال الدين بن أكرم قال: لما عزم أبن خاقان على تصنيف كتاب قلائد العقيان جعل يرسل إلى كل واحد من ملوك الأندلس ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر والبلاغة ويعرفه عزمه ويسأله إنفاذ شيء من شعره ونظمه ونثره ليذكره في كتابه. وكانوا يعرفون شره وثلبه فكانوا يخافونه وينفذون إليه ذلك وصرر الدنانير، فكل من أرضته صلته، أحسن في كتابه وصفه وصفته. وكل من تغافل عن بره هجاه وثلبه. وكان ممن تصدى له وأرسل إليه أبو بكر بن باجه المعروف بابن الصائغ، وكان وزير أبن فلويت صاحب المرية. وهو - أي أبن الصائغ - أحد الأعيان وأركان العلم والبيان. شديد العناية بعلم الأوائل، مستول على أهل الأشعار والرسائل، وكانوا يشبهونه في المغرب بابن سينا بالمشرق، وله تصانيف في المنطق وغيره، فلما وصلته رسالته تهاون بها ولم يعرها طرفه، ولا لوي نحوها عطفه، وذكر أبن خاقان بسوء بلغه، فجعله ختم كتابه، وصيره مقطع خطابه، وقال: هو رمد جفن الدين الخ وبلغ ذلك أبن الصائغ، فأنفذ له مالا استكفه به واستصلحه؛ وصنف أبن خاقان كتاب آخر سماه مطمح الأنفس وصله بقلائد العقيان افتتحه بذكر أبن الصائغ وأثنى عليه فيه ثناء جميلا الخ وكذلك نرجئ الكلام على ما كان بين أبن خاقان وبين الفيلسوف أبن باجه أو أبن الصائغ إلى ما بعد الفراغ من الموازنة بين أبن خاقان وبين أبن بسام. . . وقد ظهر لك مما أوردناه هنا من كلام العماد أن أبن خاقان كان يرسل إلى أعيان الأندلس ليرسلوا إليه آثارهم، وكذلك كان يفعل أبن بسام صاحب الذخيرة. . . قال المراكشي صاحب المعجب: فمما أختار له - أي لأبي عبد الله محمد بن أب الخصال أحد كتاب الأندلس البلغاء النابهين - فصول من رسالة كتب بها مراجعا لبعض إخوانه عن رسالة وردت عليه منه يستدعي فيها منه شيئا من كلامه، وهذا الرجل صاحب الرسالة هو أبو الحسن علي بن بسام صاحب كتاب الذخيرة. . . وهذا هو محل الشاهد. . . ودونك الآن فصولا من هذه الرسالة - أي رسالة أبن أبي الخصال إلى أبن بسام فأنها من طرف الأندلسيين. قال: وصل من السيد المسترق، والمالك المستحق، وصل الله إنعامه لديه، كما قصر الفضل، كتابه البليغ، واستدراجه المريغ. فلولا أن يصلد زند اقتداحه، ويرقد طرف افتتاحه، وتقبض يد انبساطه، وتغبن صفقة اغتباطه، للزمت معه قدري، وصنت سريرة صدري. ولكنه بنفثات سحره يسمع الصم، ويستنزل العصم، ويقتاد الصعب فيصحب، ويستدر الصخور فتحلب، ولما فجأني ابتداؤه، وقرع مسمعي نداؤه. فزعت إلى الفكر، وخفق القلب بين الأمن والحذر، فطاردت من الفقر أوابد قفر، وشوارد عفر، تغبر في وجه سائقها، ولا يتوجه اللحاق لوجيهها ولا حقها، فعلمت أنها الاهابة والمهابة، والإصابة والاسترابة، حتى أيأستني الخواطر، وأخلفتني المواطر، إلا زبرجا يعقب جوادا، وبهرجا لا يحتمل انتقادا. وأنى لمثلي والقريحة مرجاة، والبضاعة مزجاة ببراعة الخطاب، وبزاعة الكتاب. ولولا دروس معالم البيان، واستيلاء العفاء على هذا الشان، لما فاز لمثلي فيه قدح، ولا تحصل لي في سوقه ربح. . . وأنا أعزك الله أربأ بقدر الذخيرة، عن هذه النتف الأخيرة. وأرى إنها قد بلغت مداها، واستوفت حلاها، وأنا أخشى القدح في اختيارك، والإخلال بمختارك. . . إلى أن يقول: وعذرا أعزك الله فأني خططت ما خططته والنوم مغازل، والقر منازل، والريح تلعب بالسراج، وتصول صولة الحجاج، فطورا تسدده سنانا، وتارة تحركه لسانا، وآونة تطويه حبابه، وأخرى تنشره ذؤابه، وتقيمه إبرة لهب، وتعطفه برة ذهب. أو حمة عقرب. وتقوسه حاجب فتاة، ذات غمزات، وتسلطه على سليطه، وتزيله عن خليطه، وتخلعه نجما، وتمده رجما، وتسل روحه من ذباله، وتعيده إلى حاله، وربما نصبته أذن جواد، ومسخته حدق جراد. ومشقته حروف برق، بكف ودق، ولثمت بسناه قنديله، وألقت على أعطافه منديله، فلا حظ منه للعين، ولا هداية في الطرس لليدين، والليل زنجي الأديم، تبرى النجوم، قد جللنا ساجه، وأغرقنا أمواجه، فلا مجال للحظ، ولا تعارف إلا بلفظ، لو نظرت فيه الزرقاء لاكتحلت، أو خضبت به الشيبة لما نصلت، والكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه. والتوى التواء الحباب، واستدار استدارة الحباب، وجلده الجليد، وصعد أنفاسه الصعيد، فحماه مباح، ولا هرير ولا نباح، والنار كالرحيق، أو كالصديق، كلاهما عنقاء مغرب، أو نجم مغرب، استوى الفصل، ولك في الإغضاء الفضل، والسلام. . .

وقد حدثنا الفتح في قلائده أنه هو الآخر كتب إلى أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال مستدعيا من كلامه ما يثبته في الديوان - يريد قلائد العقيان - وينبته في زهر البستان، فكتب إليه أبن أبي الخصال رقعة يقول فيها: الحذر - أعزك الله - يؤتي من الثقة، والحبيب يؤذى من المقة؛ وقد كنت أرضى من ودك وهو الصحيح بلمحة، وأقنع من ثنائك وهو المسك بنفحة، فما زلت تعرضني للامتحان، وتطالبني بالبرهان، وتأخذني بالبيان، وأنا بنفسي أعلم، وعلى مقداري أحوط وأحزم، والمعيدي يسمع به لا أن يرى، وإن وردت أخباره تترى فشخصه مقتحم مزدرى، ولا سيما من لا يجلى ناطقا، ولا يبرز سابقا، فتركه والظنون ترجمه، والقال والقيل يقسمه، والأوهام تحله وتحرمه، وتخفيه وتخترمه، أولى به من كشف القناع، والتخلف عن منزله الامتناع، وفي الوقت من فرسان، هذا الشان، وأذمار هذا المضمار، وقطان هذه المناهل، وهداة تلك المجاهل، من تحسد فقره الكواكب، ويترجل إليه منها الراكب، فأما الأزاهر فملقاة في رباها، ولو حلت عن المسك حباها، وصيغت من الشمس حلاها، فهي من الوجد تنظر بكل عين شكرى، لا نكرى، وإذا كانت أنفاس هؤلاء الأفراد مبثوثة، وبدائعهم منثوثة، وخواطرهم على محاسن الكلام مبعوثة، فما غادرت متردما، ولا استبقت لمتأخر متقدما، فعندها يقف الاختيار، وبها يقع المختار، وأنا أنزه ديوانه النزيه، وتوجيهه الوجيه، عن سقط من المتاع، قليل الإمتاع، ثقيل روح السرد، مهلك صر البرد، إلا أن يعود به جماله، ويحرس نقصه كماله، وهبه أعزه الله قد استسهل استلحاقه، وطامن له أخلاقه، أتراني أعطي الكاشحين في اتبابه يدا، وأترك عقلي لهم سدى، وما أخالك ترضاها مع الود خطة خسف، ومهواة حتف، لا يستغل غبينها ولا يبل طعينها. . . الخ الخ فهي رسالة طويلة وإن كانت على طولها ممتعة جميلة. . . .

موازنة ومفاضلة

والآن فلنعرض للموازنة بين الفتح وبين أبن بسام ما دام بينهما هذا التشابه الذي ذكرنا. . .

قال الحجاري صاحب المسهب: وهو - الفتح - وأبو الحسن بن بسام الشتتمري مؤلف الذخيرة فارسا هذا الأوان، وكلاهما قس وسحبان، والتفضيل بينهما عسير، إلا أن أبن بسام أكثر تقييدا، وعلما مفيدا، وإطنابا في الأخبار، وإمتاعا للأسماع والأبصار، والفتح أقدر على البلاغة من غير تكلف، وكلامه أكثر تعلقا وتعشقا بالأنفس. . . هذا هو كل ما عثرنا عليه للمتقدمين من مفاضلة بين هذين الفاضلين، ونحن فنقول: إن المتفقد لكتاب الذخيرة لأبن بسام، وكتابي القلائد والمطمح لأبن خاقان، يتبن له أن الفتح في الحق أضخم عبارة، وأجزل أسلوبا، وأقدر على التنميق والتزويق والتهويل، ويغلب ذلك على أكثر تراجمه؛ وقد يتعمل حتى يرى أثر التقعر محسا ملموسا، وهو مع هذه الجزالة والضخامة، أقل تقييدا وعلما مفيدا، دع تقصيره في تراجمه من ناحية التحقيق التاريخي فلا يذكر أسم المترجم كاملا ولا نسبه ولا بلده ومنشأه، ولا تاريخ مولده ووفاته، فكأنه يترجم مترجمة لناس يعرفونهم كل المعرفة، وإنما الذي ينقصهم هو أن يلموا ببعض آثار أولئك المترجمين المعروفين، وأن يقفوا على بلاغة الفتح وبراعته، وحذقه ومهارته، وكيف يرفع من يبغي أن يرفعه ويخفض من يريد أن يضعه، ومن هنا لا تعد كتب الفتح كتب تراجم بالمعنى المعروف، وإنما هي بكتب المختارات أشبه. أما أبن بسام صاحب الذخيرة فهو وإن كان أكثر تقييدا وعلما مفيدا، وإطنابا في الأخبار، وإمتاعا - من هذه الناحية - للأسماع والأبصار - كما يقول الحجاري - وإن كان أقل تزويقا وتهويلا وإن كان أعف لسانا، وأنزه بيانا، إلا أنه هو الآخر يقارب الفتح في أغفاله تاريخ من ترجم له مولدا ووفاة ونسبا ومنشأ، ومثل الاثنين في ذلك مثل الثعالبي صاحب يتيمة الدهر، ومثل الثلاثة العماد الكاتب صاحب خريدة القصر وجريدة أهل العصر والباخرزي صاحب دمية العصر وعصرة أهل العصر، كل أولئك يجتزئون ببلاغتهم عن تحقيقاتهم، فكانت كتبهم لذلك نوعا غريبا بين أسفار الأدب في لغة العرب، فلا هي بالمختارات المحضة ول هي بالتراجم الوافية، ولا هي من قبيل العقد والكامل وما إليهما. ولعل أول من ابتكر هذا النوع هو الثعالبي

(للقصة بقية)

عبد الرحمن البرقوقي