مجلة الرسالة/العدد 126/قصة المكروب

مجلة الرسالة/العدد 126/قصة المكروب

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 12 - 1935



كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم

كوخ رابع غزاة المكروب

طبيب القرية الذي ضجر بالطب لجهله أسباب الداء ثم ادعائه علاجه؛ الذي شغله البحث في أصول الأمراض عن مداواة أربابها؛ الذي حقق أحلام بستور وأثبت أن المكروب ينتج الأمراض، وأن لكل مرض مكروبا يخصه، ويخصه وحده؛ الذي علم الدنيا كيف تصطاد النوع الواحد من المكروبات، وتصطاده خالصا خاليا من الأخلاط؛ الذي كشف مكروب الجمرة الخبيثة، قاتلة الماشية والإنسان، ومكروب السل قاتل الإنسان والحيوان؛ الرجل الذي كشف مكروب الكوليرا على أرض مصر في أجسام ضحاياها. البطل الذي نزل بساحات الموت فأظلته فيها أرفع بنوده، وقاتلته على أرضها أفتك جنوده، فأسر منها على هواه، وخرج عنها سالما قد أخطأته سهامها قضاء وقدرا

المترجم

كان كوخ قد أعتزم أن يسيح في الأرض ويضرب في مجاهلها ضربا، ثم خاب، وهاهو ذا يبدأ سياحات غريبة في مجاهل أشد غرابة. إني أحيانا أقرن كوخ بلوفن هوك فأجد الأول أعجب وأغرب في صيادته المكروب وأكثر إبهاما، وأجد كليهما على السواء عصاميا في كسب العلم. كان كوخ رجلا فقيرا يرتزق من صناعة الطب، وكل ما عرف من العلم هو ما تضمنته مقررات الطب في مدارسه، وعلم الله ما كان في هذه الدراسة شيء يعلم ممارسة التجارب ويدرب في فن التجريب. ولم يكن لدى كوخ من أدوات التجربة غير ذلك المكرسكوب الذي أهدته إليه زوجه المخلصة إيمي في عيد ميلاده، أما عدا هذا من الأدوات فكان عليه أن يحتال لتدبيره وتصميمه وأن يصنع بيده من قطع الخشب وخيوط القنب وشمع الأختام. وترك يوما مكرسكوبه وفئرانه وجاء زوجه يخبرها في تحمس بالجديد المعجب الذي وجد، فما كان من السيدة الطيبة إلا أن قلصت قصبة انفها في اشمئزاز ظاهر وقالت له: ولكن يا روبرت، إنك كريه الرائحة جد بعدئذ وجد طريقة أكيدة ينقل بها مرض الجمرة إلى الفئران. لم يكن لديه محقن يحقن به الدم القاتل فيها في سهولة، ولكن بعد خيبات ولعنات وخسارة عدد طيب من الفئران السليمة، اهتدى إلى أن يأخذ فلقاً من الخشب فينظفها جيدا ثم يسخنها في الفرن ليقتل ما قد يكون عليها المكروبات العادية، ثم يغمسها في قطرات من دم الأغنام التي قتلتها الجمرة، ثم يدخل أطرافها بما عليها من الدم في جرح جرحه بمشرط نظيف في أذناب تلك الفئران. ولا تسألني كيف قبض عليها فسكنها وهي تترعص وتلتوي بين يديه. وكان يضع هذه الفئران في أقفاص وحدها ثم يغسل يديه، ويخرج ليعود طفلا مريضا في سبيل تخليص الذمة، ورأسه لا يزال مليئا بالأشتات من كل شيء: (أيموت هذا الفأر بداء الجمرة. . . . . نعم يا مدام اشميت، يستطيع أبنك أن يعود إلى المدرسة في الأسبوع القادم. . . . . أرجو ألا يكون هذا الدم الملوث بالجمرة دخل إصبعي من الجرح الذي فيه. . .). هكذا كانت حياة كوخ موزعة بين بحثه وطبه

وأصبح الصباح، وجاء كوخ إلى المعمل البيتي الذي صنعه بيده، فوجد الفأر ملقى على ظهره وأرجله إلى السماء، وقد تصلب جسمه وأنتفش شعره ووقف على جلده وكان بالأمس منبسطا على ظهره في ملامسة ونعومة. وبعد أن كان أبيض صار أزرق رصاصيا، فأحمى كوخ سكاكينه في النار، وربط الفأر المسكين على شريحة من الخشب، وشق بطنه فكشف عن رئتيه وكبده، وشرحه حتى وصل إلى كل ركن من جسمه وحدق فيه: (نعم. نعم. إن باطنه يشبه باطن الشاة المجمورة. . . . وهذا طحاله، ما أسوده وما أضخمه!. . . ' نه يكاد يملأ كل بطنه. . . .) وأسرع كوخ وشق الطحال المتضخم فجرى منه الدم الأسود، فأخذ منه قطرات ووضعها تحت مجهره، وتمتم أخيرا لنفسه: (ها هي العصي وها هي الخيوط بعينها. . . . إنها تكاد تملأ دم الفأر كما ملأت دم الشاة (وفرح كوخ فرحا شديدا لأنه أيقن أنه بذلك يستطيع أن ينقل إلى الفئران أمراض الشياة والأبقار والإنسان، والفئران قليلة الثمن، صغيرة في اليد، سهل تناولها عند التجريب. وفي الشهر الذي جاء من بعد ذلك لم يكن لكوخ عمل إلا حقن فأر حي من بعد فأر ميت. يأخذ قطرة الدم من طحال الفأر الميت فيحقناها في ذيل فأر حي صحيح. ثم يصبح الصباح فيجد هذا الفار قد مات من داء الجمرة، فيمتحن دمه فيجد به الملايين من تلك الخيوط المتخالطة والعصي المتكاثرة يجدها ساكنة لا حراك بها، صغيرة متضائلة لا يزيد طولها على جزء من ألفين من الملليمتر الواحد

وأخذ كوخ يتفكر: (هذه العصي لا حركة فيها، ولكن مع هذا لا بد أن تكون حية. إن قطرة الدم التي أحقن بها الفأر ليس بها غير مئات من هذه العصي، ولكنها لا تلبث في دمه أربعا وعشرين ساعة حتى تكون قد تكاثرت فبلغت البلايين، ويكون الفأر قد مرض بها ومات. . . . ولكن كيف السبيل إلى رؤيتها وهي تتكاثر!؟ كيف السبيل وجلد الفأر لا يشف عما تحته؟!

وأخذ هذا السؤال يرن في أذنه وهو يجس نبض مرضاه وينظر في ألسنتهم. فإذا جاء العشاء أكل عشاه سريعا، وغمغم لزوجته تحية المساء لتنام، وذهب هو إلى تلك الغرفة الصغيرة قد ملأتها رائحة الفئران والمطهرات الكيميائية وأغلقها على نفسه، ثم أخذ يفكر يكثر تلك العصي خارج جسم الفأر. وكان كوخ في هذه الوقت لا يدري شيء عن إحساء الخمائر التي صنعها بستور ولا عن قباباته، أو أن هو درى، فالنزر القليل منها؛ لذلك كانت تجاربه لتكثير تلك العصي تجارب المبتكر الأول، فيها التواء وفيها تعقد؛ كانت كتجارب الرجل الأول يريد أن يصنع لنفسه نارا

قال كوخ: (سأحاول أن أكثر هذه الخيوط في سائل أقرب ما يكون إلى سوائل الجسم، سائل مصنوع من مادة الأجسام نفسها). وأتى بعين ثور وأخرج منها بعض مائها، ووضع في هذا الماء فتيتة كسن الدبوس من طحال فأر قتله المرض. ثم قال: (هذا غذاء لا شك مستطاب لهذه الخيوط، ولكن لعلها تتطلب غير الغذاء الطيب حرارة أجسام الفئران كذلك) وصنع بيديه مدفئا غير جميل وسخنه بمصباح زيت، ثم وضع في هذا المدفأ المرتجل شريحتين متلاصقتين من الزجاج الرقيق كان قد وضع بينهما سائل عين الثور وفتيتة الطحال. وذهب لينام. ولكنه لم ينم. ففي منتصف الليل قام ليخفض فتيلة المصباح بمدفئه، وكان قد ملأه منها الدخان. وبدل أن يعود فينام، أخذ ينظر العصي بين شريحتي الزجاج مرة بعد أخرى. وخال أحيانا أنه يرآها تتكاثر، ولكنه لم يكن على يقين من ذلك، لأن مكروبات أخرى من التي تسبح وتثب وجدت سبيلها بين الشريحتين على عادتها، وزادت في تكاثرها على عصي صاحبنا الدقيقة المهلكة وطغت عليها قال كوخ لنفسه: (هذا عمل غير نافع! هذه العصي لابد من تكثيرها هي وحدها خالصة نقية من كل مكروب آخر) وأخذ يفكر في الوصول إلى هذا حتى أكده الفكر. وأخذ يحتال ويتدبر حتى صار الاحتيال هما والتدبر غما

وذات يوم تراءت له طريقة يروض بها عصيه وهو يراقبها. طريقة غاية في البساطة غاية في السهولة لا تحتاج للفكر الكثير قال كوخ: (سأضع تلك العصي في، قطرة عالقة، فلا يصلها من المكروبات الغريبة شيء). ثم جاء بقطعة صغيرة رقيقة مفرطحة من الزجاج الرائق، وسخنها حتى يقتل ما قد يكون عليها من المكروب، ثم وضع عليها قطرة من سائل عين ثور سليم قضى عليه الجزار حديثا، ثم غمس في هذه القطرة قطعة غاية في الصغر من طحال فأر مات من داء الجمرة حديثا. وبعد ذلك جاء بشريحة غليظة مستطيلة من الزجاج، كان قد نقر في وسطها نقرة عميقة واسعة، ودهن سطحها مما يلي حافة النقرة بشيء من الفزلين ثم قلب هذه الشريحة الكبيرة السميكة على الأخرى الصغيرة الرقيقة التي عليها سائل العين وطحال الفأر بحيث تقع النقرة فوق القطرة ولا تمسها، فالتصقت الزجاجتين بالفزلين فكانتا كقطعة واحدة. ثم عاد فقلبهما معا في سرعة وحذق فصارت قطعة الزجاج الصغرى هي العليا وتعلقت منها قطرة السائل بما فيها من الطحال وعصيه الكثيرة، وقد انحبست في تلك النقرة انحباسا كاملا فلا تستطيع المكروبات الأخرى الدخول إليها. تلك هي (قطرته العالقة). ولعل كوخا لم يقدر كل التقدير هذه الطريقة الجديدة، ولم يدرك كل الإدراك مكانها من تاريخ بحث المكروب ومحاربة الإنسان أسباب الموت. وسواء قدرها أو فاته تقديرها فقد كانت ساعة من أخطر الساعات تلك التي أخطرت هذه الفكرة على باله، ساعة لا يعدلها إلا تلك التي رأى فيها لوفن هوك أحياءه الصغيرة في ماء المطر أول مرة

ووضع كوخ (قطرته العالقة) تحت مكرسكوبه وجر كرسيه وجلس وهو مضطرب ينظر ما تكشف له العدسة وهو يقول لنفسه: (لا يستطيع شيء أن يدخل إلى تلك القطرة، وهي ليس بها إلا العصي، فلأرقبها علي أعلم من أمر نموها شيئا، فكشفت له العدسة عن مجال أغبر لم يجد فيه غير قطع الطحال وقد نسلت وتقطعت وتراءت ضخمة تحت المجهر، وغير عصية هنا وعصية هناك طافية بين نسائل الطحال؛ وظل ينظر ساعتين، وينظر في الساعة الواحدة وخمسين دقيقة، ولكن لم يحدث شيء. وأخيرا بدأت الرواية التي اصطبر لمرآها طويلة، وأخذت صورة المجال تحت بصره تتغير وتتبدل كأنما امتدت لها بالسحر يد الساحر، واهتز صاحبنا واضطرب، وجرت في ظهره رعدة بعد أخرى كلما اختلفت صورة المجال تحت عينه. إن العصي الطافية القليلة أخذت فعلا في التكاثر! ففي هذا المكان توجد الآن اثنتان حيث كانت واحدة. وتلك عصية أخرى تطول بطيئة ولكنها تطول كثيرا، وهي في استطالتها تنثني كالأفعى وتنال أطراف المجال. ولم تمض ساعتان حتى كثرت تلك العصي كثرة غطت على قطع الطحال فاختفت وبلغت أعدادها الملايين فأصبحت في اختلاطها وتداخلها وتلبدها ككرة من غزل، انحل فاختلط فلا رجاء في تسليكه إلا أنه غزل حي، غزل صامت قاتل

وتنفس كوخ الصعداء: (الآن أعلم أن هذه العصي حية والآن أعلم أنها تتكاثر بالملايين في فئراني الصغيرة المسكينة، وفي الشياه، وفي الأبقار. فالعصية الواحدة (البشلة الواحدة) أصغر من الثور بلايين المرات، فإذا دخلت الثور نمت وتعددت وصارت ألوفا تنسل ألوفا تنتشر في نواحي الحيوان الكبير فتتحشى بها رئته ويكتظ بها مخه وينسد بها دمه، لا عن ثأر لها عنده، أو كراهة لها فيه

أصبح كوخ لا يعي الزمن، ولا يهتم لواجباته، ولا يصغي لمرضاه إذ ينتظرونه طويلا فيملون فيشكون. فكل هذه الأمور فقدت حقيقتها من نفسه، وأصبح رأس كوخ لا يعي إلا صورا مخيفة من خيوط الجمرة وهي في اختلافها واختلاطها. وأخذ يعيد تلك التجربة التي يخلق فيها من البشلة الواحدة ألوف الألوف من البشلات. فأعادها ثماني مرات في ثمانية أيام متابعات. فبدأ بأن أخذ غمسة يسيرة جدا من (قطرته العالقة) وهي تعج بتلك العصيات فزرعها في قطرات نقية جاء بها من سائل عين ثور سليم. فوجد بكل قطرة من هذه ألوفا من هذه العصيات. ثم أخذ من هذه القطرات الحادثة ليزرع في قطرات جديدة نقية من عين ثور. وهلم جرا حتى أستتم له من ذلك ثماني زرعات قال كوخ: (لقد نسلت هذه البشلات ثماني ذريات متعاقبات، كلها خالصة من مكروب غريب، خالصة من طحال الفأر الذي اختلطت به أولا. وهذه البشلات في هذه الذرية الأخيرة هي أحفاد البشلات الأولى التي قتلت الفأر. فهل يا ترى تقتل هذه البشلات الأخيرة الفأر والشاة كما كانت تفعل أمهاتها الأولى؟. . . . . . أفتنمو يا ترى هذه البشلات في الفئران وفي الشياه إذا حقنتها فيها؟ أهي يا ترى سبب الجمرة الذي لا مرية فيه؟)

وأخذ كوخ قطيرة يسيرة من (قطرته العالقة) - وكانت تتراءى للعين العادية عكرة بما تعج به من المكروب - ونشرها على فلقة من الخشب صغيرة، ثم غرس هذه الفلقة تحت جلد فأر صحيح ونجا هو فلم يمسسه سوء. نجاه منه تلك العناية الإلهية التي تقوم إلى جانب البحاث الجريئين المتهورين وتحرسهم وتدفع عنهم بمشيئة الله شر ما هم فيه

وفي اليوم التالي كان كوخ قائما على هذا المخلوق الصغير وقد دبسه إلى لوحة تشريحه، وقد انحنى عليه عن قصر في البصر ليراه من قريب. ثم أخذ يحمي مشارطه في النار وقد ملأه الرجاء. ولم تمض دقائق ثلاث حتى كان جالسا إلى مكرسكوبه ينظر منه قطعة صغيرة من طحال الفأر قد وضعها بين رقيقتين من الزجاج ثم تمتم لنفسه: (لقد تحقق المأمول، فها هي الخيوط، هاهي العصيات وتلك البشلات الصغيرة التي في قطراتي العالقة، تلك البشلات التي أوجدتها بالتنسيل سلالات متعاقبة ثمان، لها من القدرة على القتل مقدار ما تلك التي يأخذها الآخذ مباشرة من طحال الشاة النافقة من داء الجمرة)

رأى كوخ هذه البشلات أول ما رأى في دم تلك البقرة التي نفقت من داء الجمرة زمانا مضى، يوم كان مجهره جديدا ويده تضطرب عليه من قلة التجربة والمران، واليوم يرى نفس هذا المكروب دم الفأر المسكين، وهو هو نفسه المكروب الذي رباه في سلسلة طويلة من الفئران، وفي عدد كثير متعاقب من قطراته العالقة

هاهو ذا كوخ يثبت أول مثبت أن النوع الواحد من بعض المكروب يسبب نوعا واحدا من الأمراض، وأن هذه المخلوقات الصغيرة قد تعتدي في حقارتها على مخلوقات كبيرة عظيمة في ضخامتها فتوردها موارد الموت سريعا. سبق كوخ كل الرجال في إثبات هذا، وسبق فيه بستور كذلك، وهو الذي على سننه جرى وبهديه اهتدى. رمي كوخ بخيطه وصنارته ليصطاد تلك الأسماك الضئيلة في المحيط الأعظم وهو واسع بهيم. وتقفاها وتجسس بها وهو لا يعلم من صفاتها شيئا، ولا من عاداتها شيئا، وهو لا يدري من جرأتها وشراستها شيئا وهو لا يعرف متى ولا بأي سهولة تثب عليه من مراصدها ومخابئها؛ والشيء إذا دق هذه الدقة فكل مكان مخبأ وكل طريق مرصد يتبع

أحمد زكي