مجلة الرسالة/العدد 13/القصص

مجلة الرسالة/العدد 13/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1933



قصة مصرية

دموع بريئة

للأستاذ محمود الخفيف

عرفته في الثامنة عشرة، طويل القامة في غير افراط، نحيل الجسم في غير هزال، مهيب الطلعة في غير تأنق، حلو الحديث في غير تكلف، ولست أذكر وقد مضى على تعارفنا نحو ستة أعوام ما الذي جذبني إليه حينما رأيته لأول مرة حتى لقد امتزجت روحي بروحه، أهو هدوءه ورزانته ام نشاطه وهيبته؟ وكل ما أتذكره الآن هو أني رأيته فأحببته ولشد ما أبهج نفسي أن رأيته يحس نحوي ما أحس نحوه فما هي الا أيام حتى توثقت عرى المودة بيننا واستحكم الوفاق بين قلبينا وصار كلأنا يأنس بصاحبه ويهش للقائه ويحرص على رضائه. ولما عاشرته وتبينت خلاله أعجبني منه أدبه الجم ووقاره العاقل وقلبه الرحيم وأكبرت منه نظراته الهادئة ونفسه المتوثبة وعواطفه الثائرة وشبابه المرح وروحه الجذابة.

وتبينت فيه شاعراً يقدس الجمال ويعشق الطبيعة في خيال خصب وذهن متوقد وحس دقيق كما تبينت فيه على حداثته فيلسوفا بعيد النظر دقيق الملاحظة حلو الفكاهة عذب الروح ورأيته مشغوفا بالحياة مقبلا عليها قانعا بحظه منهما راضيا عن نفسه غير ساخط على أحد. ولقد جعلني منذ ان تعارفنا موضع سره يحدثني في غير تحفظ ويجد عزاء طيبا في ان يبثني لواعج نفسه وخطرات حسه كما يجد هناء سائغا في أن أشاطره مسراته وأسباب سعادته. وكان حديثه تارة حزينا يستدر الدموع وتارة بهيجا يملأ جوانب النفس سروراً وغبطة وكان يقص عليَّ مشاهداته في الحياة غير انه كان يشفعها بآرائه او يمزجها بخواطره فيكسبها بذلك قوة تحرك القلب وتستثير العواطف. وكنت أحرص على أحاديثه إذ أرى فيها خواطر فتى كبير القلب راجح العقل. غاب عني شهرا فأشفقت أن يكون قد مسه الضر وأردت أن أذهب إليه ولكن الخادم أحضر إليَّ كتابا تبينت خطه على غلافه ففضضته في شغف فإذا به يخبرني انه سيكون عندي في المساء، ومرت الساعات ث حتى كانت الثامنة فإذا هو يطرق الباب ثم يفتحه في هدوء. ودخل عليَّ شاحبا مكدوداً واجما مهموما. ومد إليَّ يده وكأنه قرأ في وجهي إشفاقي وتلطفي، فابتسم ابتسامة قصيرة ثم جلس وقد اتكأ بمرفقه على حافة القعد وأسند رأسه إلى قبضة يده، وشملته كآبة مرعبة دق لها قلبي فأنا اعرفه ثائر العواطف واسع الرحمة يستوقف بصره بكاء بائس فتدمع مقلتاه، ويطرق أذنه أنين ملتاع فيملك عليه مشاعره وكثيرا ما اظهرت له إشفاقي فكان يضحك مني قائلا: لا حيلة في ذلك فتلك جبلته. ولقد كان يتهم نفسه بالطفولة ولكنه كان يعود فيفتخر بهذه الطفولة التي تملأ قلبه رحمة وحناناً. واطرق قليلا ثم رفع رأسه وقال وهو يضحك ضحكة غريبة تعبر عن الأسى والألم: (هو شهر، ولكنه قرن في حوادثه) وتالله لقد ألهب شوقي بتلك العبارة فاصخت بسمعي إليه وأقبلت بكليتي عليه وفهم هو من نظراتي أني استعجله فهز رأسه هزة عصبية وقال:

لله ما اغرب هذا المسرح الهائل مسرح الحياة الذي يموج بالناس في غير نظام وكل يلعب دوره حتى يسدل الستار عليه فإذا هو في طي الفناء وفي أغوار الأبدية. هذا ضاحك مستبشر وهذا فرح فخور. وهذا بائس محزون وهذا حائر مشدوه وهذا مستسلم وهذا مغتر متطاول وهذا. . . وأخيراً يتساوى الجميع فيساقون في سكوت كل إلى حفرته.

قلت أمرك عجب ايها الصديق وهل هذا ما يحزنك هذا الحزن؟ لكأني بك قد اجتمعت فيك كل هذه الصور. ماذا أحزنك وعهدي بك مرحا خلي البال؟ وتنهد الفتى تنهدا عميقا وقال:

(على المسرح المرعب او قل في زواياه التي لا تراها الا الأعين البصيرة او التي لا تراها الأعين الا مصادفة، على هذا المسرح الصاخب المضطرب وفي هذه الزوايا المتوارية عن الأنظار يوجد من المآسي والآلام ما يتفطَّر له القلب حقاً. . .)

وقاطعته قائلا: هون عليك يا فيلسوفنا الصغير وما لك ولهذا الانقباض وأنت في زهرة العمر؟

فنظر إلي نظرة لوم وقال:

(ما حيلتي وتلك جبلتي؟ يراني الناس ضاحكا فرحا فيظنون أني خلو من الهموم، وتالله ما ضحكي الا خداع مني لنفسي ومغالبة لشعوري، هو كالزهر الصناعي يغالط به الطفل نفسه. . . ولكن. . . أراك على حق فسأضحك وسألعب وسأنسى كل شيء. . . نعم سوف اضحك مع الضاحكين. . . وسوف لا ابكي بعد اليوم مع احد او على احد. . .)

وضاحكته استطلع دخيلة نفسه وحقيقة أمره فاعتدل في جلسته وتوثب وتحفز واستجمع قوته ثم قال في قوة وعزم

هو دور لعبه أمامي ويا ليتني لم أره ولكن ما اسخف لعبته هذه!. . . ليكن ما يكون وليكن ما قدر وهو كائن.

قلت مالأمر؟ انك تحيرن. فاستطرد في صوت أبح لم اسمعه منه قبل اليوم وقال:

(هن فتيات أربع جئن فسكنَّ في المنزل المجاور لنا وكان قبل مجيئهن تسكنه سيدة وابنها وهو فتى في نحو الخامسة والعشرين ولقد تبينت بعد مجيئهن إنهن اخوته وكان أول ما رأيتهن في ظهيرة يوم عندما عدت إلى المنزل ففتحت النافذة كعادتي في كل يوم وإذا بي أراهن أمامي لا يكاد يفصلني عنهن إلا نحو سبعة أمتار وما وقعت أنظارهن عليّ حتى جرين مسرعات إلى داخل الحجرة واقفلن الباب من ورائهن إلا صغراهن وهي في العاشرة تقريبا فقد ظلت ترمقني بنظرات ساذجة بريئة وكأنها وكانت تجيد (لعبة اليويو) قد أرادت أن تريني مهارتها فأخذت تلعبها وتنظر إلي، فابتسمت فضحكت ودخلت إلى أخواتها صائحة لاعبة. ومضيت أنا إلى بعض المجلات فجعلت اقلبها ولكن نظري كان كثير الاتجاه دائما نحو هذا المنزل أو نحو ذلك الباب، وأنت يا أخي تعرفني أحب الاستطلاع ولا أكاد استقر حتى تصل نفسي إلى ما تريد فجلست اختلس النظرات وأتظاهر بالنظر إلى الصحيفة التي في يدي فرأيت كبرى البنات وهي في العشرين تقريبا قد وقفت إلى الباب فرأيتها ذات حظ من الجمال غير قليل غير انه جمال شاحب حزين. ومرت أختها الصغيرة أمامي وهي في نحو السادسة عشرة تكسو محاها سمرة خفيفة وهي فتاة ضاحكة والعينين مرحة جريئة النظرات سريعة الحركة خفيفة الروح إلى حد عظيم. أما وسطاهن فلم تظهر طول ذلك اليوم. ولست ادري وأيم الله لم ضايقني ذلك، وكل ما أذكره هو إني أحسست بانقباض وضيق لعدم ظهورها. على إني ما لبثت أن اضحك بل وسخرت من نفسي ومضيت إلى كتبي ونسيت من أمرها ومن أمرهن كل شيء. وفي صبيحة اليوم التالي نزلت إلى عملي فتبينت وجهها من خلال زجاج النافذة، جميلة رائعة الجمال دعجاء المحاجر بيضاء الوجه دقيقة الأنف حلوة اللفتة ناهدة الصدر. وفي ظهر ذلك اليوم رأيتها واقفة فلم تهرب كعادتها بل رفعت إليّ بصرها ثم دخلت حجرتها في هدوء ورزانة. لا أكتمك يا أخي أني شعرت بميل نحو تلك الفتاة كان أول أمره معتدلا عاديا. فقد أعجبني منها رشاقة جسمها واتزان حركاتها وتناسق أعضائها وغضارة بشرتها وجمال محياها وكانت عيناها الدعجاوان ترسلان من أشعتهما حرارة الشباب فتهز قلبي وتفتح جوانب نفسي حتى لقد صرت أجد في النظر إليها متعة وهناء أشبه بهناء النفس في حلم هادئ جميل. غير أن ما جذبني إليها حقا هو تلك النظرات الحزينة الهادئة التي كانت تتخلل نظراتها اللامعة القوية وتلك البسمات الخفيفة الفاترة التي كانت لا تلبث أن يطفئها وجوم غريب وإطراق مؤثر. وازداد ميلي إليها إلى أن كنا صبيحة يوم فسمعت وأنا بين النوم واليقظة نحيبا متقطعا ولست ادري لم انصرف ذهني إليها لاول وهلة؟ فقفزت إلى النافذة فرايتها ووجهها بين كفيها باكية تئن أنيناً موجعا. وأنا أترك لك أن تقدر لنفسك مبلغ ما نالني من الحزن في تلك اللحظة الرهيبة ولقد كدت أن أصيح بها أن كفكفي دموعك يا فتاة لولا انها أفاقت سريعا من غشيتها ومسحت دموعها في هدوء ثم نظرت إلى الشمس المشرقة نظرة حزينة يهتز قلبي كلما ذكرتها ودخلت بعد ذلك إلى مخدعها. ومنذ ذلك اليوم عرفت طعم الألم حقا وكانت تتمثل لي صورتها فيكتنفني من الألم اللاذع ما يزق شغاف قلبي ويحرك مكامن وجدي ولا سيما وقد تكرر ذلك منها كثيراً في الصباح أحيانا وفي المساء أحيانا اخرى.

وأخيراً. . . وأخيراً حم القضاء ووجدت نفسي أسير تلك الفتاة الحزينة الباكية ولك ان تعجب مني ما شئت أنا الذي طالما سخرت من الحب وهزأت بالعاشقين، أنا الذي طالما وصفت لك الحب بانه حلم من أحلام الشباب الخادعة وسراب خلب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا، أو فورة دماء واضطراب مزاج لا أقل ولا أكثر، ولكن الإنسان ضعيف لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.

ولماذا أحببتها؟ أهو جمالها الساحر قد ملك على نفسي أم هو حزنها العميق قد صادف عطفا وحناناً في قلبي؟ ولكن مالي أبحث عن سر حبها ومتى كان الحب أمرا يقبل التعليل ويخضع للتحليل! مالي لا أقول أني أحببتها لأنني أحببتها ولتضحك بعد مني ماشئت ولكن لم تضحك؟ أليس الحب تفاعلا نفسانيا أو مزيجا روحانيا يأتي بكل سهولة وبغير أدنى ترتيب؟

أحسست باهتمامي بأمرها وإشفاقي عليها فكانت تشكرني بابتسامة عذبة وصرت أرى في عينيها ما يدل على الاعتراف بالجميل، ولكني كنت لا أرى في نظراتها ما يدل على أنها تبادلني حبي وتطارحني هيامي، انها كانت نظرات شكر وامتنان وتالله كانت تؤلمني أحيانا ولكني كنت في سكرة الحب أعلل النفس بالآمال واترك للغد القول الفصل والحكم الأخير. ولكن تصرمت أيام دون أن اجرؤ على مخاطبتها ولو بالتحية.

وراقبتها مرة فرأيتها تتأهب للخروج وثارت نفسي واعتراني جنون الشباب وامتدت يدي إلى ملابسي فلبستها دون ان اشعر بشيء أو ادري ماذا افعل وسرت في أثرها وأن فؤادي ليخفق وأن نفسي كلها لتهتز إلى أن رأيتها تجلس وحدها على حافة قناة صغيرة كانت تقرب من المنزل وقد أطرقت قليلا ثم رفعت رأسها فإذا هي تراني أمامها فساورها مزيج من الدهشة والابتسام والخوف والارتياح والغضب والرضى. ولست ادري من أين جاءتني تلك الشجاعة في تلك اللحظة الدقيقة؟ فقلت في ثبات:

هل لي يا فتاة أن أسألك سؤالا صغيراً؟

فنظرت إلي نظرة عميقة فيها كثير من المعاني. ويح نفسي إني لأراها الآن، أرى تلك العينين الدعجاوين وتلك التقاطيع الحلوة وذلك الفم الجميل وتينك اليدين الرشيقتين.

قالت وما سؤالك يا فتى؟

قلت: هل لي ان اعرف سبب حزنك وبكائك؟

فسرت رعدة قوية في أعضائها وتمشت صفرة فاقعة في وجهها وكأنني هززت بذلك السؤال كل كيانها وتمتمت بكلمات لم اسمعها ثم قالت:

شكرا لك على اهتمامك بأمري. لست أستطيع أن أجيبك على ما سألت.

قلت ولكني أريد ان اعرف.

فعظمت دهشتها وبدا على محياها ذهول وخوف ثم قالت في حدة مصطنعة:

وما شأنك أنت والسؤال عن هذا؟

قلت أني. . . أني. . . أريد. . . أرجو. . .

فساورها الشك في عقلي فلقد قرأت هذا الشك في نظراتها، وحدجتني بنظرة طويلة وقد اغرورقت بالدمع مقلتاها ثم أشاحت بوجهها عني فألحفت وتوسلت فقالت:

اليك عني واتق الله في فتاة ضعيفة بريئة.

قلت لا أستطيع البعد عنك.

ثم انهمرت دموعي فصدقت وقالت وهي تنتفض من شدة الاضطراب:

حسبتك أحد أولئك الشبان الذين لا أخلاق لهم ولقد هممت أن أصرفك في قسوة.

ثم نظرت إلي طويلا دون ان تتكلم فقلت في صوت خافت متقطع: ستكونين لي منذ الآن.

فتجهمت قليلا ثم ابتسمت ابتسامة فهمت من معانيها الندم والحسرة والألم وهزت رأسها كأنها تريد ان تقول لي انك لا تدري من الأمر شيئا ثم قالت:

دعني بربك ولا تشغل نفسك منذ اليوم بأمري فلن يجديك ذلك نفعا وستبدي لك الأيام صحة قولي وصدق نصحي.

وكأنها ارتاعت لوقع ذلك على قلبي فقالت وهي تبكي:

آه ليتني أستطيع!. ليتني أستطيع!. اتركني أشكرك على. . . وغلبها الحزن والبكاء فأجهشت كما يجهش الطفل. فتظرفت إليها ولاطفتها ثم تناولت يدها فلم تمانع ولما أردت ان اجذبها نحوي نهضت قائمة وسارت لا تلوي على شيء ولم تلتفت وراءها وغابت عن بصري في منعطف، فبقيت في مكاني جامدا كالصخر ثائرا مضطربا ثم مرت علي دقائق افتقدت فيها نفسي وحسي.

ومرت أيام وأنا أتجنب النظر إليها ما استطعت، أيام كنت أثنائها كالذي يتخبطه الشيطان من المس ولقد بلغ من نفسي أنني كنت أرى الأسرة كلها حزينة كأنما هم مقبلون على أمر خطير. ولما ضاقت بي الدنيا كتبت إليها اطلب عفوها وأبثها لواعج نفسي. وفي صبيحة يوم جلسن جميعا يبكين حول أمهن وأنا حائر مشدوه لا ادري من أمرهن شيء فناديت البدال فأقبل وهو فتى طيب القلب فقلت له: أتدري يا فتى سر هذا الحزن؟ وأشرت إليهن دون أن يرينني.

قال أو ما تعلم؟

قلت كلا.

قال ان صاحب المنزل قد (أوقع الحجز) عليهن أعقبه بائع الخبز بحجز مثله وفاء لما عليهن من الدين وقد قرب يو البيع.

قلت وقد دق قلبي دقا عنيفا: هل مات أبوهنَّ؟

قال خير لك الا تعرف عنه شيئا، ثم قال:

كان أبوهن تاجرا من كبار التجار وكان عظيم الثراء ولكنه لم يرع النعمة وراح يقامر مرة ويسرف مرة ويتعاطى المخدرات بكثرة مخيفة وهو الآن نزيل السجن من سنتين.

وارتفع الدم بغزارة إلى وجهي وأحسست بحرارة كحرارة المحموم ومرت غشاوة فحجبت بصري ورأيت الجو بعد برهة اصفر مكفهرا ثم قلت:

وأخوهن؟

قال هو شاب عاطل لا يجد لنفسه عملا مع انه يحمل شهادة عالية. مناه أصدقاء والده كثيرا بوظيفة ولكن أين هي الوظائف الآن؟ وكثيرا ما نصحناه ان يلجأ إلى عمل، أي عمل حر ولكن يظهر أن الأبواب سدت في وجهه.

قلت ولم لم يتقدم احد لخطبة البنات من قبل؟

قال بلى خطبت الكبيرتان ولكن خطيبيهما تركاهما بعد ما جرى لأبيهن ما جرى. ثم سكت البدال وقال في ألم: مع ان البنت الوسطى ولعلك تعرفها ذات الشعر الأصفر كانت تحب خطيبها لدرجة الجنون.

فصرفته ودخلت حجرتي كئيبا ملتاعا وذرفت الدمع سخينا.

وسكت صاحبي برهة ثم قال في نبرات حزينة: أرأيت كيف يقضي هؤلاء الإغفال على أنفسهم واموالهم وأولادهم؟ الا قاتل الله الجهالة انها اصل الفواجع والآلام. ثم قال دونك فاسمع البقية، وبدت منه حركة عصبية ظاهرة في يديه وعينيه وصوته المبحوح وصدره المجروح، قال:

في صبيحة اليوم التالي سمع سكان البيوت المجاورة صراخا عاليا ففتحوا النوافذ فوجدوا الدخان يتصاعد من نافذة المطبخ في ذلك المنزل أما أنا فكأني كنت اعلم بما سيجري من قبل فسكت ولكنه كان سكوت اليأس وتجلدت ولكنه كان تجلد الإغماء. وهرع الناس فدخلوا المطبخ فإذا هي ممدودة على الأرض لا تبدي حراكا ولم يحترق منها الا شعرها وقرر الطبيب ان الوفاة بالاختناق. وارحمه لك يا. . . حتى النار أكبرتك وأشفقت من ان تلهب هذا الجسد الطاهر ولكنك جدت بغدائرك الذهبية التي طالما قطعت إليها الأعين وخفقت لرؤيتها القلوب.

وهنا لم يتمالك صاحبي نفسه فأجهش كما يجهش الصبي وناولني قصاصة من الورق فقرأت فيها ما يلي:

وصلتني كلمتك الرقيقة يا صاحبي فضممتها إلى صدري وقبلت الخطاب من أجلك وذرفت الدمع سخينا شفقة عليك. سامحني واعف عني وسنتقابل في الحياة الاخرى حيث لا شقاء ولا عذاب وأرجو أن تستغفر لي الله في صلواتك، الوداع والشكر الجميل!

ولما تلوت تلك الورقة وجدته قد غلبه النوم وطول الجهد فأخذت رجليه برفق ومددتها على المقعد وعمدت إلى ملحفة فنشرتها عليه وخرجت على أطراف أصابعي وتركته لينام عله يجد في النوم بعض الراحة وسألت الله ان يشفق به في أحلامه وأن يهبه العزاء والسلوان.

محمود الخفيف