مجلة الرسالة/العدد 13/إلى بئر جندلي
مجلة الرسالة/العدد 13/إلى بئر جندلي
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير ادارة السجلات والامتحانات بوزارة
المعارف
3
لحظة رهيبة مرعبة، ولولا أن ملك الجماعة زمام عقولهم وتصرفوا
بما يستلزمه الموقف من بديهة حاضرة وهمة عالية، لسقط أحمد بك في
الهاوية، ولا أدري الآن، وقد توالت الحوادث بسرعة مدهشة، كيف
نسي الرفاق أن ينتشلوا زميلهم من ورطته، وعلى كل حال فقد انتهى
الحادث بسلام، وعاد الجماعة إلى ما كانوا فيه من مطاردة الأرانب،
وعند الظهر كانوا قد أنهكهم التعب وأضناهم الجوع، فملوا المطاردة
وقنعوا بما أصابوه في ذلك اليوم وكان شيئا كثيراً، فحثوا المطايا في
السير كي يصلوا وادي جندلي في الموعد المضروب.
وكانوا حينئذ يسيرون على ظهر ربوة عالية وعن يسارهم نحو الشمال، جبل اليحموم الأزرق بلونه القاتم، وعن يمينهم نحو الجنوب جبل أبو شامة بقمته العالية (2300) قدم وكانوا كلما توغلوا شرقا تغيرت معالم الجبال وزادت ارتفاعا، والأودية خضرة وعمقا، وقبل الأصيل اقبلوا على واد شديد الانخفاض كثير التعاريج كبير الشبه بوادي دجلة ونظروا من علٍ فابصروا الجمال ترعى في باطنه والاستعداد قائم حولها لتهيئة الطعام وإعداد مكان المبيت، فطابوا نفسا وقرُّوا عيناً.
يقع بئر جندلي على خمسين كيلو مترا من القاهرة على ارتفاع 300 متر من سطح البحر، وقد قضينا بالقرب منه ليلتين ويوما وسط طبيعة نقية هادئة مشرقة في صحبة أصدقاء مخلصين حباهم الله الصحة والبشر وسلامة الطوية، حقيقة انها سويعات تعد من أسعد فترات الحياة واصفاها، وقد وافق اليومالثالث من رحلتنا أول أيام العيد، ففي الصباح صلينا ونحرنا غزالة ثم قضينا اليوم في الوادي نلعب ونضحك ونتسابق ونمرح ونمزح كأننا الأطفال الصغار. وبعد الغداء جلسنا إلى الدليل نستمع لحكاياته الطريفة عن حياته فقال وقد مال في جلسته واسند ظهره إلى حجر كبير، وعقد يديه على رأسه: من خمس وعشرين سنة كنت شابا شقيا أجوب الصحراء شرقا وغربا شمالا وجنوبا لا أستقر على حال، وفي مرة نزلت السويس وقت موسم الحج فتحككت بشيخ مغربي يحمل خرجين كبيرين ينوء بثقليهما فظن أني أسديه المعونة فمد يده إلى رأسي ودعا لي بالهداية ودعاني أن أرافقه إلى الحجاز، وقد كان فأديت الفريضة واستقبلت الكعبة، وبصوت عميق خلته يخرج من كل جسمي دعوت الله ان يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فاستجاب الله دعائي، وعدت من الحج صالحا طاهر القلب شديد الإيمان، والتحقت بالأزهر فمكثت فيه خمسة عشر عاما إلى ان قطعت عني الجراية في عهد الشيخ محمد عبده، فتحولت إلى التجارة وشغلت بعرض الدنيا ولكني وقد ناهزت الخمسين لا زلت شديد الحنين إلى الجبل فأخرج إليه كلما سنحت الفرصة فأقضي فيه أياما قريبا من الله بعيدا عن المدينة وكدرها ثم أعود وقد تطهرت نفسي وهدأ عقلي واستراح جسمي. ثم انه على غير انتظار امسك عن الكلام وترقرقت دمعة في عينه وتحول ببصره عنا وأطرق برأسه ثم أطبق عينيه ونام.
كان البرد في تلك الليلة شديدا فآوينا إلى مضاجعنا مبكرين وأشعلنا نارا كبيرة لنصطلي، وفي أول الليل اكفهر الجو وعصف الريح وأبرقت السماء وأرعدت وانهمر مطر غزير ثم اخذت الصواعق تنقض من حولنا، والبرق يومض بلمعان يضيء الفضاء كأنه نور النهار، والماء يتدفق إلى الوادي بدويِّ شديد، ثم فاض الوادي بسيل عنيف جارف، فكان مشهدا رائعا. وبعد ساعة انقشعت السحب وصفا أديم السماء واشرق الوادي بنور القمر فسرى عنا ما ساورنا من قلق واضطراب، ثم نمنا نوم الهناء والعافية. وقبل الفجر استيقظت على صوت حركة غير عادية بمعسكرنا فوجدت الجماعة يتقلدون سلاحهم وعلامات الاهتمام بادية على وجوههم وأبصرت الدليل ينزل إلى وهدة متوسطة ويقف وراء صخرة كبيرة ويتجه ببصره نحو البئر ثم يتبعه عبد الله بك ويهمس في أذنه بكلمات ويحتمي هو الآخر وراء حجر كبير ثم تتفرق باقي الجماعة على الصخور المجاورة ويتخذونها متاريس يكمنون وراءها وينصبون بنادقهم على حوافيها. دهشت لهذا الاستعداد وانتقلت إلى حيث كان خالي رابضاً واستوضحته في صوت خافت جلية الأمر فأشار إلى الدليل وقال، انه رأى شبحين ومعهما بعير هبطا إلى الوادي بالقرب من البئر وبعد أن عقلا الدابة أخذا ينسلان نحو مربط الجمال ملتزمين السفح، فقلت هل تراهما؟ قال ان البئر بعيد والضوء ضعيف والرؤية متعذرة.
وبعد قليل صاح الدليل (ها! أكمنوا لا تطلقوا النار) ثم انه أطلق عيارا في الهواء وعندها برز رجلان إلى عرض الوادي واندفعا نحو الجمال فصاح الدليل (جماعة أطلقوا النار في الهواء) فدوى في سكون الليل صوت البنادق كأنه زمجرة المدافع فذعر الرجلان لهذه المباغتة ووقفا مكتوفي اليدين علامة التسليم، فانتقل إليهما سويلم الجمال وقادهما إلى حيث كان الدليل فقالا أنا قادمان من المرج قاصدين وادي الحقول على البحر الأحمر في أمر مستعجل، وفي المساء كنا نجتاز اليحموم الأزرق فشاهدنا ناركم فعرجنا عليكم لنستدفئ وما قصدنا بكم سوءا ولكنها مداعبة على عادة البدو. وبعد أخذ ورد من الدليل على قولهما سألهما عن البعير فقالا انهما وجداه ضالا فساقاه أمامهما حتى لا يقع غنيمة في يد (أولاد علي) اسم قبيلة، وبعد ان نفحناهما بطعام وكبريت انصرفا بسلام وقد تنفس الصبح ولاح.
قضينا اليوم الرابع في الصيد كذلك فوق سفوح جبل القطامية على ثلاث ساعات شرقي بئر جندلي وعند الظهر التقينا بوادي الغز بجبل أبو شامة حيث كانت تنتظرنا الجمال وبتنا فيه تلك الليلة وفي صباح اليوم الخامس غادرنا أبا شامة راجعين عن طريق البعيرات فوق مشارف وادي دجلة وبعد سير حثيث دام عشر ساعات من غير انقطاع وصلنا القاهرة عند العشاء ونحن على احسن حال وفي أجود صحة.
(الرسالة) لاحظ القارئ ولا ريب ان عبد الله بك واخوته يمثلون جيلا من الناس أولع بالصفة الباقية من صفات الفتوة وهي الصيد. والصيد رياضة بدنية نفسية تربي في النفوس أخلاق الرجولة كالنخوة والمغامرة والقوة وقد كانت ولا تزال ديدن الملوك والأمراء والقادة فعسى ان يكون لهذا الجيل بقية في مصر. وان يكون لهذه البقية أثر صالح في توجيه الناشئة لمثل هذه الرياضة.