مجلة الرسالة/العدد 13/دود على عود

مجلة الرسالة/العدد 13/دُودٌ على عُود

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1933



للدكتور محمد عوض محمد

ها أنت ذا، أيها الصديق، قد استويت ومن معك على ذات ألواح ودسر. وقد أذنت ساعة الرحيل، ولم يبق بد من الفراق، فلم نجد مناصًا من النزول إلى البر، تاركيك على ظهرها، غير آسف لفراقنا، ولا مستشعر لوعة على تركنا. . . وانطلق الصفير والزئير يشقان الفضاء، فإذا السلالم قد رفعت، والأهلاب قد جذبت من قاع البحر. وإذا سفينتك آخذة في الابتعاد على مهل كأنها لا تريد أن تؤلمنا ببعدكم مرة واحدة؛ وإذا مناديلنا تخرج من جيوبنا بيضاء ناصعة، وقد حملتها الأيدي أعلاما تهزها هزاً؛ وبين الجوانح قلوب تخفق خفقان الأعلام، ولكن أعينكم لا تراها. وها أنتم أولاء وقوف بأفريز السفينة، تخفق مناديلكم بأيديكم خفقانا فاتراً، لم ينبعث من قلب حزين، ولا نفس آسفة؛ وعلى ثغوركم ابتسامة تعبت في تأويلها وتفسيرها؛ وأحسبها ابتسامة الرثاء والإشفاق: إنكم ترثون لنا، معشر المقيمين، وتنظرون إلينا كأننا من نوع آخر غريب عنكم، نوع يعيش عيشة الأشجار: تنشأ حيث تغرس، ثم تنمو عليها الغصون والأوراق، والزهر والثمر؛ وهي باقية في مكانها لا تبرح: وكلما تقدم بها العهد ازدادت تشبثا بمنبتها، وتعلقا بمغرسها، لا تعرف ما ركوب البحار، ولا لذة التنقل والأسفار. . .

أجل كنتم تنظرون إلينا نظرة إشفاق، وكأنكم بعض الآلهة تلقي نظرة من السماء على ما دونها من الكائنات. . . وفي تلك الساعة رأيت دموعا كثيرة تنهمل، ولكنه كانت تتساقط من عيون المودعين، لا الراحلين. . فيا ويل الشجى من الخلي؟ ويا ويل المجهود من المجدود!

وعجبت لك أيها الصديق، كيف ترحل عنا باسم الثغر، قرير العين مثلج الصدر. وأنت تعلم انك راحل عنا أشهرا طوال، لا ترانا فيها ولا نراك، أليس للود القديم حرمة، ولا للحب لمؤلف رعاية؟ وهذا الوطن العزيز الذي أنبتك ثراه وغذّاك هواؤه، وأظلك دوحه، وأنضجتك شمسه، مالك لا تحس لفراقه جزعا ولا أسفا؟ بل كأنك بهذا الفراق جد مغتبط، ولهذا الرحيل مشتاق متلهف! لا تحاول الإنكار! إن سرورك بهذا البعاد أكبر من أن يخفيه التكلف، وما أنت ممن يحسنون تصنع الأسف، بل إن بك شوقا شديدا بادياً لمغادرة هذه الديار، وكأنك لا تحيا بيننا تلك الشهور من كل عام، إلا لكي تقضي هذه الأشهر بعيداً عنا. فيا عجبا! أي شيء هذا السم الزعاف الذي يملأ هواء بلادنا، ويحملنا على أن نجد في البعد عنها، ويُنفِّر الابن البار من أمه البرّة؟ أهو هواؤها الحار، أم مجتمعها الفاتر، أم ما يحيق بها من ظلم وجحود، ومن حرج وضيق؟

لقد أخذت سفينتك تبتعد، ولم تلبث أن اختفت عن الأبصار وأضحت كأمل البائس لا تزداد على المدى إلا بعدا. وكأني بك واقفا على ظهرها، تتنفس نفسا عميقا، لكي تخرج من رئتيك ما قد ثوى فيهما من هواء؛ كأنك لا تريد أن تحتفظ حتى بهذا القدر القليل من الذكرى. . . بل تريد أن تأخذ عدتك لحياة جديدة، وأيام سعيدة. فما أخلفك إلا تبقي للشقاء الغابر في نفسك أثراً؟

لكن أمامك في السفينة أيام لا أراني غابطك عليها، بين أناس قد اتخذوا الدعة شعاراً، يصبحون كسالى، ويمسون كسالى، لا يعرفون جدّاً ولا دأبا، أقصى همهم أكلة لذيذة يصيبونها! أو رقدة طويلة يستطيبونها، وما عرفت الناس أدنى إلى الأنعام في مكان منهم على ظهر سفينة. . . قصارى جهد كل منكم أن يقتل الوقت، وأن يتخذ لذلك سبلا شتى: فمنكم العاكف على الشراب، لا يشفي غليله الإسراف فيه. ومنكم المكب على الورق يتسلى بإتلاف القليل من دراهمه أو الكثير. وبعضكم يلتمس اللهو في ألعاب تافهة، أو في تقليب صفحات كتاب هزيل. إذ لا يستطيع أن يجشم نفسه مشقة أو جهداً.

ولقد تقدم العالم في طريق المادة، وجاء الاختراع بسفن ذات قوة وجسامة، ولكن الركب ما برحوا اليوم كما كانوا في قديم الزمن: دود على عود!

أحسبك تتوهم أن سيتاح لك وأنت بالسفينة أن تلتقي بأعظم الرجال، واجمل النساء، ولست أدري على أي َعمدٍ قام في نفسك مثل هذا الرجاء؟ وهو لعمرك جدير بما يصيبه من الخيبة المرة بعد المرة. انك تظن أن العظمة والجمال في العالم من الكثرة بحيث يجوز أن يكون لكل سفينة تشق البحار نصيب منهما، وخيل اليك ان السفينة خير دار تلقاهما فيها، حيث لا مفر لهما منك. وان المجال الضيق كفيل بان يجعل الناس بعضهم مقبلا على بعض والوقت طويل مديد، لابد للناس ان يتعاونوا على قطعه بالحديث والسمر: فالفرصة أذن مؤاتية (فيما كنت تزعم) لأن تنعم نفسك بحديث العظمة ومرأى الجمال.

وما اشد ألمك حين ترى نفسك بين أناس ككل الناس، او أتفه من كل الناس. وان المجال الضيق قد حال بينك وبين الهرب منهم. والوقت الطويل الفسيح قد حباك الفرصة اللازمة لان تعجب كيف استطاع بنو الإنسان أن يشتملوا على كل هذه التفاهة والبلاهة.

لكن، صدقني ان الذنب ذنبك أنت إذ تركت نفسك يحلق بها الأمل الكاذب. فليست ام الدنيا ولودا للعظمة والجمال بالدرجة التي صورها لك الوهم. وما جل بنيها لو فتشت الا الطغام. وليس ببدع إن خلت سفينتك مما كنت تتمناه، ثم نظرت حولك فلم تجد على ظهرها سوى دود على عود.

ولقد تشرق عليكم الشمس صبحا، وملؤها الروعة والبهاء، فتضرج وجنات المشرق بالنجيع، ثم تسكب على صفحة الماء نضاراً وسحراً، وأنتم في أسَّرتكم الضيقة القلقة راقدون، يحاول كل منكم النعاس وسط دمدمة الآلات، وصرير الأبواب والجدران؛ فلا تصيبون من النوم سوى شيء غريب، ليس بالنوم الهادئ، ولا باليقظة أو السهاد، بل هو أشبه بغفلة المخدرين، تتخللها إفاقات قصيرة المدى. . . وأخيراً تنهضون من رقادكم المضطرب، ويقبل بعضكم على بعض تتثاءبون، وتتحدثون أتفه الحديث.

وعند المساء تميل الشمس إلى الغروب، وقد أحاطت بها السحب طبقات بعضها فوق بعض، وهي تنحدر وسطها في شيء من الحيرة، كأنما تلتمس بينها طريقها إلى المغرب. تارة تحتجب وراء سحابة قاتمة حمراء، وطورا تستتر وراء أخرى استتاراً جزئياً لا يكاد يخفيها، كأنها الحسناء في الغلالة، وتارة تنحسر السحب عنها تماما فتبدو للعين كاملة، لكنها ضعيفة لا تبهر البصر، وكأن، سير النهار قد أنهك قواها وأدال منها. فبات من السهل عليك أن تقف أمامها، محدقا في محياها آمنا، وهي كلما ازدادت ميلا إلى المغيب ازدادت ضعفاً وسقما. . . لكنها استطاعت أن تملأ السماء بشعاع أحمر قاني، ونشرته أيضاً على صفحة الماء؛ وقد اختلطت هذه الألوان كأنها بعضها ببعض، فكان منها صور تعجز الوصف.

وأنت تذكر أيها الصديق، أننا قد اتفقنا (وقلما نتفق) على ان هذا المنظر: الشمس الغاربة وسط السحاب المنشور، فوق صفحات اليم، هو أبدع شيء في الطبيعة كلها! وما أخالك الا آلماً اشد الألم، حين تنظر إلى من معك من أهل السفينة، تحاول ان تتحدث إليهم بما يبعثه هذا المنظر في نفسك من إحساس وإجلال. . . وفي تلك اللحظة يُؤذن مُؤذن العِشاء، فإذا هم يغادرونك في شعرك وسحرك، ويتسللون إلى حجرة الطعام، راغبين عن لذة لا يعقلونها إلى لذة يفهمونها ويستمرئونها. . . وإن الصخور الصماء لتحس من معانِ ذلك الغروب البديع أكثر مما تحسه أفئدة أصحابك هؤلاء وما هم لعمرك، سوى: دود على عود.

ولقد يكون البحر لكم أول الأمر صديقاً، وبكم رفيقا. ولكنه بعد ذلك قد ضاق بكم ذرعا، فأراد ان يريكم انه مثلكم يا بني آدم، ليس ذا وجه واحد. بل إن له أوجها كثيرة، وقد أراكم من قبل صفحة فيروزية زرقاء، ووجها هادئا، أملس ناعما. كأنه سهل فسيح من مرمر أزرق. وكانت جاريتكم تجري عليه في اعتدال واتزان، لا تهتز ولا تميل وكلكم فرح بذلك مسرور. تحسبون أن الوقت قد طاب وأنكم بنجوة من العذاب. ثم رأى البحر أن يريكم وجهاً من أوجهه الأخرى. فعبس وتجهم، وثار ومار، وتطاير من وجهه الشرار. وانقلب صفاؤه إلى كدر، وهدوءه إلى انفعال، وحلمه إلى مكان، ورزانته إلى رعونة، وعلا موجه من كل جانب، ووثب رذاذه على باخرتكم، ودخل إلى نوافذ حجراتكم، وجعلت السفينة تتمايل من اليمين إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين ومن الخلف إلى الامام، ثم من الأمام إلى الخلف، سكرى من غير سكر، صرعى من غير صرع.

ولم تك الا لحظة حتى انقلب اطمئنانكم إلى اضطراب، وامتلأت نفوسكم جزعا وقلوبكم هلعا. وانصرفتم عن الطعام والشراب، وعن اللعب والحديث واستحالت رؤوسكم إلى قطعة من صداع واوجاع، وضعفت أرجلكم عن حمل أجسامكم، فارتميتم على سرركم، وأسلمتم أمركم إلى بارئكم.

فيا عجبا! لقد أمعن الإنسان في الإبداع والاختراع، واستحدث كل هذه السفن الهائلة ذات السرعة والفخامة. . . ثم لا يزال ركبها اليوم كما كانوا في عهد عمرو وعمر: دود على عود

تلك أيامكم على ظهرها أيها الصديق. وإني لأرجو لك بعدها سفراً هينا ورحلة ميمونة، وما أجدرك الا تجعلها كلها عبثا ولعبا.