مجلة الرسالة/العدد 131/أيها الشبان!

مجلة الرسالة/العدد 131/أيها الشبان!

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 01 - 1936



لبول بورجيه

بمناسبة وفاته في 25 ديسمبر سنة 1935

ترجمة الأستاذ عبد الحليم الجندي

إليكم هذا الكتاب يا شباب الوطن، الذين تتراوح أعماركم بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، والذين تبحثون في مؤلفاتنا عن جواب عن المسائل الآخذة عليكم مذاهب التفكير، أما الجواب فيعتمد قليلاً على حياتكم المعنوية حياة فرنسا ذاتها، فلسوف تسيطرون في العشرين سنة المقبلة على مصائر هذه الأمة العجوز. . . . . . . . . أمنا جميعاً

ماذا حصلتم من مؤلفاتنا؟ هذا سؤال يخاف الكتاب النزيهون من تبعاته. . . . .

في كتاب (التلميذ) بحث لهذه التبعات، وفيه دليل على أن الصديق الذي يطالعك وأنت تطالعه إنما يملؤه إيمان عميق بسلطان الأدب، ودليل آخر على أنه يفكر فيك أيام درجت تتعلم الهجاء، أيام كنا نحن كاسفي البال نوقع ألحان قريضنا الناشئ على رنين المدافع الفاغرة أفواهها على باريس، أيام كان كبارنا في صفوف المعركة، وكنا نحن الصغار في صفوف الجامعة، ترزح ضمائرنا تحت عبء فادح هو إحياء فرنسا.

كنا نناجيك يا شباب اليوم بما ناجاك به بانفيل: (أقبلوا أيها الفيلق المبارك، يا شباب الأيام التي لم تنفرط من عقد الزمان بعد، أقبلوا كالفجر الطالع، واملأوا آفاق الورى بالنور. . . .) كنا نتمنى أن يشرق فجركم وضاء يغمر الورى إشراقاً، فلقد كان فجرنا يختنق ببخار الدم الذي يسمم الأفق، وكنا نعرف أن علينا أن نعيد لكم فرنسا سيرتها الأولى؛ ولئن كنا صغاراً فلقد كنا نعلم أن أفضل ما علمنا أساتذتنا هو (أن الظفر أو الخذلان في الخارج إنما هما مظهر المنعة أو الانحلال الداخلي) كنا نعلم أن نهضة ألمانيا في فاتحة القرن لم تكن إلا عملاً من أعمال (النفس)، وكنا نعلم أن النفس الفرنسية هي التي انكسرت في حرب السبعين، وأن الأزمة الفرنسية إنما هي أزمة نفسية عبر عنها ديماس حينما قال: (. . . حذار. . . حذار. . . إنها برهة عجلى ما أسرع أن تفوت. . . تلك البرهة التي يمكن أن يكون فيها الفتى حساساً كله عواطف، أو متشككاً أو ساخراً أو مهذاراً. أما الله، وأم الطبيعة، أما العمل والزواج والحب والبنون، فأولئك أمامك دائماً. . . أولئك يجب أن يحيوا أو أن تموت. .)

بلى: هذا الجيل الذي أنا منه والذي زخرت نفسه بالآمال الجسام، كم جاهد لمجد فرنسا!. إن نفسي لتذوب حسرات كلما تذكرت أن رجال السلطة قد تخلوا عنا في غضون هذا الجهاد العاصف، وأن الطبقة الوسطى هي التي غذت فرنسا في العشرين عاماً الماضية بالقادة والساسة والفنانين العباقرة حتى ليتساءل المرء: (ما أقدر هذا الفلك الفرنسي السيار! ما أكبر حيوية هذه الأمة الفرنسية! إن خُطاها لاتني حيث كانت تهلك أية أمة أخرى!) هذه الطبقة الوسطى التي شهدت بعض الزعماء يضحون بالعزيز عليها من العقائد بأسم الحرية، ودجاجلة سياسيين يلعبون على الاقتراع العام فيسمو التدجيل بكفاياتهم المتواضعة إلى أسمى الدرجات. . كم تحملت لتبعث فرنسا في العوالم من جديد. .! ولئن خطر الجند الفرنسيون ذهاباً وجيئة، أو أضمرت الحكومات لنا الاحترام، أو تقدم التعليم العالي، أو كانت الآداب الفرنسية ما برحت تحمل لفرنسا لواء العبقرية والمجد، فلهذه الطبقة الوسطى تلكم اليد العليا. .

كيف تحابك فرنسا وتنهض؟ هذه مسألة الساعة.

إنك لا تتذكر صورة أولئك الخيالة البروسيين وهم يتبخترون على أرض فرنسا، يهزون أعطافهم كبرياء، ويصعرون خدودهم صلفاً؛ أما نحن فكم غصصنا بهذه الرؤى. . وما كنا نحسب أن الصلح يمحوها من الأحلام، أو أنه سيسوي أسباب الخصام والسلام إنني أعلم أنك على استعداد لتهب في سبيل الوطن روحك، لكن ليس هذا الفخر، ولا يكفي أن تعلم كيف تموت، بل يجب أن تعلم كيف تحيا. . .

هل لك مثل أعلى من أمثالنا العليا؟ أفيك أيمان أقوى مما تنطوي عليه أضالعنا؟ هل لك آمال دونها آمالنا؟. . .

أن كان الجواب نعم، فشكراً.

وأن كان الجواب لا. . .

إن كان الجواب لا. . .

إن كان الجواب لا: فإن من شباب هذا الجيل طرازين كلاهما ثري وكلاهما مشئوم.

أما الأول فهو ذلك المرح المستهتر بالأشياء، الذي همه وكِبر مناه في الدنيا أن يستمتع، وعلى الأصح أن يصل وأن ينجح، فإذا كان سياسياً أو رجل أعمال أو أديباً أو محامياً أو فناناً أو ضابطاً فإنما (. . ذاته) هي الأمل المشتهى، وهي المبدأ والمنتهى؛ يندفع في تطبيق قانون تنازع البقاء على أساليب عيشه وكفاحه اندفاعا بربرياً؛ هولا يهوى من الحياة إلا النجاح، ولا من النجاح إلا المال؛ ولقد يقرأ ما أكتب كما يقرأ كل شيء ليكون فقط (. . مع الدنيا. .)؛ ولقد يرميني بأني أهزأ بالجمهور وما أنا إلا صورة منه؛ طراز إباحي في كل شيء؛ ليس المثل العالي لديه إلا فكاهة! فإذا مارس الديمقراطية مثلاً فليتبوأ مقعده في مجلس النواب. . . أو ليس ذلك الشيطان الرجيم؟. .

هذا الذي لم يقطع من مراحل الحياة خمساً وعشرين مرحلة وليست نفسه إلا (عداداً) لحساب الملذات.

ثم أرأيت إلى ذلك الأخر الأخلق بالزراية والمقت، هذا طراز قد اجتمعت له أرستقراطية الأعصاب والصلف، أبيقوري مهذب على نقيض الأول؛ فذلك أبيقوري متوحش، وهذا الأرستقراطي إباحيّ لبق؛ طافت كل الأفكار برأسه، فلا تحدثه عن التجديف أو عن المادية، فإن للمادة عنده معنى غير ذي حدود. . . هو أنفذ بصيرة من أن يجهل أن كل دين دانت له الدنيا في إبانة. . . هو لا يدين إلا (لذاته). . ليس الخير ولا الشر، ولا الجمال ولا القبح أموراً ذات بال تعنيه، وإنما نفسه (أداة) متعلمة يلتذ بتجريدها وتعطيل مزاياها كأنها موضوع تجارب، لا يفقه في الحق ولا في الباطل ولا في الإنسانية ولا في البهيمية، بل كما قال (بارس) تناهت به شهواته إلى عبادة ذاته أو لذّاته. . . . .

لا تكونوا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أيها الفتيان. . . .

لا إلى الواقعيين المفرطين في عالم الحس، ولا إلى المتفيهقين المستهترين في عالم المعقول؛ ولا يركبنكم شيطان الغرور فيذلنكم للكبرياء والشعوذة، بل عليكم أن تجعلوا شعاركم: (إنما يحكم على الشجرة بما تؤتي من ثمار).

إن ثمة حقيقة لا مراء فيها لأنها بين الضلوع، تبصرونها وتحسون بها: تلك هي النفس. وإن من الفكَر التي تسيطر على أذهانكم لأفكاراً تضعف من قوى الإرادة والمحبة، فأعلموا أنها أفكار زيوف مهما طلاها السحر بالألوان. وزيدوا (المحبة والإرادة) نماء فليس سواهما إلا عار دائم وعذاب مقيم.

وأعلموا أن العلم الصحيح اليوم يعرف أن حدود (العالم المجهول) تتاخم حدوده - وكما قال لتريه: هذا بحر غامض تلاطم شواطئنا لجاته، تشهده نواظرنا وآلهة، لا زورق يسبح بنا فيه ولا شراع. . . . فقولوا للأولى زعموا أن عنده الظلمات والهاوية: (إنكم لا تعرفونه)

وما دامت في جنوبكم هذه النفس فتعهدوها

إن فرنسا تريد من كل فرنسي أن يفكر فيها.

باريس في 5 يونيو سنة 1889