مجلة الرسالة/العدد 131/قصة المكروب كيف كشفه رجاله

مجلة الرسالة/العدد 131/قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 01 - 1936



ترجمة الدكتور أحمد زكي

وكيل كلية العلوم

كوخ رابع غزاة المكروب

يكتشف مكروب الكلوليرا في مصر

- 7 -

وفي الرابع والعشرين من مارس عام 1882 اجتمعت الجمعية الفسلجية في برلين في حجرة صغيرة حقيرة بحجمها، كبيرة عظيمة بمن اجتمعوا فيها من أعلام رجال العلم في ألمانيا. فكان في الحاضرين بول أرليس وكان فيهم علاّمتنا الجهبذ الكبير الأستاذ الشهير رودلف فرشو الذي ذكرنا قِدْما ما كان من استهانته لكوخ المأفون ودعواه المزعومة في بشلات الأدواء. وكان في الحاضرين كل مقاتل للأمراض له أسم يذكر في ألمانيا.

ولما أكتمل الجمع، قام فيهم رجل صغير، جَعدُ الأسارير، على عينيه نظارتان، وفي يديه أوراق أخذ يقلبها في خَبلة ظاهرة وهي لا تفتأ ترتعد بين أنامله وأخذ يتكلم فأضطرب صوته اضطراباً خفيفاً. هذا كوخ قام يخبر الجماعة في تواضع رفيع كيف تأتى له أن يكشف عن مكروب هذا الداء الذي يحظى بنصيب الأسد من الأدواء فيفوز برجل من كل سبعة يموتون. وأخبرهم دون أن يُجلجل بصوته، فِعلَ مصاقع الخطباء، أن أطباء العالم يستطيعون اليوم التعرّف إلى بَشلِة السل ودرس عاداتها وخصائصها. وأخذ كوخ في الحديث عن هذه البشّلة، أصغرِ أعداء الإنسان وأكبرها به فتكاً، فعرّفهم بمكامنها ومراصدها وبمظاهر ضعفها ومظاهر قوتها، وأراهم طرائق لو أنهم سلكوها فلعلهم ماحون هذا المكروب القتال من على ظهر البسيطة.

وجلس كوخ، وأنتظر النِّقاش والحِجَاج والمعارضة التي لا بد منها عندما يختم باحث عرض بحث ثوريّ كالذي نحن بصدده. ولكن لم يقف رجل على قدم، ولم تنفرج بكلمة واحدة شفتان. وأخيراً اتجهت الأنظار إلى فرشو، سلطان دولة العلم الألمانية، ومهبط وح الآلهة، والرجل الرّعاد الذي كان يعبس للنظرية الجديدة تهم بالظهور في تفسير الأدواء فيقضي عليها قبل ولادتها.

اتجهت الأنظار إلى هذا الداهية، فأنتصب قائماً، ووضع قبعته على رأسه، وغادر المكان - فلم يكن عنده ما يقول!

لو أن لوفن هوك كشف هذا الكشف الخطير في قرنه السابع عشر، أي قبل أيام كوخ بمائتي عام، لأستغرق انتشار خبر ذلك في أوربا أشهراً عديدة طويلة؛ أما في عام 1882، فلم ينفضّ اجتماع الجمعية الفسلجية حتى شاع خبر هذا الكشف في الناس، وحمله البرق في نفس الليلة إلى أقاصي اليابان شرقاً إلى أقاصي أمريكا غرباً. وأصبح الصباح فكنت تراه في جرائد الأمم كالقنبلة انفجرت على صفحاتها الأولى. وهاجت الدنيا وماجت لاكتشاف كوخ، وجاءه الأطباء زرافاتٍ في السُّفُن وعلى القُطُر تسأله تعليمهم كيف يُطبخ الفالوذج اللحم، وكيف تُضرب المحاقن مليئةً بالجراثيم في أجسام الخنازير وهي تعتلج وتضطرب.

كشف بستور ما أكتشف، فأثار فرنسا من جرائه إلى التشاحن والتطاحن. أما كوخ فكشف عن مكروبة السل الخطيرة فهزّ بها الدنيا هزّاً. وكلما أجتمع حوله المعجبون صرفهم بتلويحة من يده وهو يقول: (ليس لكشفي كل هذا الخطر الذي تزعمون). وتهرّب منهم، وتهرّب من تلاميذه يتفرغ ما استطاع لأبحاثه الجديدة. وكان مثل لوفن هوك يكره التدريس، ولكنه غُصب عليه فكان يأتيه كاظماً كرهه، إلا تمتمةً وراء شفتيه، فدرّس ليابانيين يتكلمون الألمانية سقيما، وكلامهم بها أيسر عليهم من فهمهم إياها. ودرّس لبرتغاليين كانوا قوماً يستحيل عليهم صيد المكروب ولو تعلموه على كوخ مائة عام. وخاصم بستورَ خصومة كبرى سنأتي عليها في الباب القادم. وقام بين الفينة والفينة بتعليم عونه القديم جَفْكيِ كيف يتصيد مكروب التيفود. وأضطُر اضطراراً إلى حضور استقبالات.

وتقبّل الشارات، فإذا فرغ من هذه عاد إلى عونه الآخر لُفلار وكان من ذوي الشوارب الكبيرة الرائعة فأعانه فيما هو فيه، وكان قد أخذ في سبيل اقتناص ذلك المكروب الذي يَقْطُر سمّاً في حلوق الأطفال الرضّع فيميتهم اختناقاً، وأعني به مكروب الدفتريا.

أكتشف كوخ طريقته لتكثير المكروب على سطوح الأطعمة الجامدة، وهي طريقة مُغرقة في البساطة، إلا أنها على بساطتها فتحت له أبواباً شتى إلى كشوف شتى. ووصفها جَفْكيِ بعدئذ بزمن فقال إنها كانت كالشجرة المباركة، كُثر طرحها، وثقلت به فروعها، فما كان على كوخ إلا أن يهز بجذعٍ فتساقط في حجره بكل جَنيٍ من ثمرها.

لقد قرأت جميع ما كتب كوخ فلم أجد في شيء منها قرينة تدل على أنه عد نفسه يوماً كشافاً كبيراً ومبتكراً ذا بال. وهو لم يستشعر يوماً - كما أستشعر بستور - أنه كان بحق قائداً عظيماً في حربه التي أثارها على المكروب، وقد كانت من أشد الحروب التي أثيرت عليه، ومن أجمل الوقائع التي دبرّها الإنسان لصد غارات الطبيعة ودفع قساواتها. كان هذا الرجل القصير القليل الملتحي لا يطلب إلى الشهرة سبيلاً، ولا يمثل من أجلها في الناس تمثيلاً. ولكنه مع هذا رفع على مسرح الكون ستاراً عن درامة أخذت فصولها تتكشف عن معارك حامية أثارها اللاحقون من العلماء على رسل الموت مترسمين فيها خُطى هذا السبّاق الأول، مخاطرين بأرواحهم إلى حد النزق، وبأرواح سواهم إلى حد الأجرام، كل هذا ليثبتوا أن المكروبات أسباب الأدواء.

ولنضرب مثلاً لهؤلاء رجلاً يدعى الدكتور فِيلَيسِنْ خرج من معمل كوخ، فوجد مكروباً مستديراً كالكرة، وقد تشبث بعضه ببعض فأصبح كحبات السّبحة، فأخذ هذا المكروب من جلد أنتزعه تقويراً من مرضى بداء الحمرة، ثم رّباه، وبناء على نظرية حمقاء تقول إن إصابة من داء الحمرة قد تذهب بداء السّرطان، أطلق صاحبنا البلايين من هذه المكروبات في مرضى مسروطين قلّ الرجاء فيهم، وبعد أيام قلائل التهبت جلود هذه الحيوانات التجريبيّة من بني الإنسان بداء الحمرة وكاد يقضي عليهم قضاء مبرماً، وفاز صاحبنا الأرعن ببرهانه: إن هذه الحبّات السُّبحية سبب داء الحمرة.

ولنضرب مثلاً آخر تلميذاً من تلاميذ كوخ، وبطلاً من الأبطال الذين ذهب بأسمائهم الزمان، وعفى على ذكراهم النسيان، ذلك الدكتور جاريه بمدينة بازل فهذا الرجل سمع بستور يدّعى أن نوعاً آخر خاصاً من المكروب هو سبب الدمامل التي تصيب الإنسان، فما كان منه إلا أن قام إلى أنابيب اختبار ملأى بهذا المكروب فدعك بها ذراعه، فكان جزاءَه خُراجٌ كبير وعشرون دُمّلاً؛ وكان من الجائز أن يذهب ضحية جسارته، ولكنه أحتمل أوجاعه بسن ضاحكة، ووَصف ما لَقَي بأنها تجربة (غير لطيفة)، وصاح اغتباطاً بفوزه قال: أنا الآن أعلم أن هذه الحبوب العنقودية هي سبب الدمامل والخراجات.

وجاء عام 1882 وقارب الختام، وانتهى بانتهائه الخصام الشديد الذي قام بين بستور وكوخ؛ وهو خصام على شدته لم يخل مما يضحك. أما بستور فأنفض يتفرغ بكل حوله إلى غياث الشياه والأبقار الفرنسية مما أصابها. وأما كوخ فأنفض يتشمم كالكلب في آثار مكروب جديد، هو في ذاته سهل القتل سريع الفناء، إلا أنه مع هذا شر المكروبات افتراساً للناس؛ ذلك مكروب الكوليرا. ففي عام 1883 جاءت الكوليرا من آسيا تطرق باب أوربا. فرّت من مخابئها في الهند وتسلَّلَت في خفاء عَبْرَ البحار، وجازت الصحراء والرمال إلى مصر، ثم انبثت بعدواها المخيفة في الإسكندرية، وبقيت أوربا تنظر إليها من وراء البحر الأبيض وَجلِة مرتاعة. خيّمت هذه الوافدة الُمنكَرَة على ميناء مصر الحيّة فخفّ نبض الحياة فيها، وعم السكون شوارعها اكتئاباً لفواجع النهار الحاضرة، وارتقاباً لفواجع الليل التي هي لا بد آتية؛ ولم يكن يدري الناس من أمر هذه الوافدة شيئاً، إلا أنها وباء يسترق طريقه خُفيةَ إلى جسم الرجل السليم في الصباح، فإذا أتى العصر التوى تشنجاً وانطوى ألماً، فإذا خيّم الليل تباعد إلى الأبد ما بينه وبين الآلام.

وتنافس كوخ وبستور في كشف مكروب هذه الوافدة التي طلعت نُذُرها حمراء في الأفق البعيد. وما التنافس بين كوخ وبستورإلا تنافس بين ألمانيا وفرنسا. فقام كوخ وصاحبه جَفْكِي عن برلين قاصدين إلى مصر، وحملا معهما مكرسكوبات وحيوانات؛ وكان بستور في شُغْل شاغل يبحث مكروب الكلَب، فأوفد عنه أميل رُو والصموتَ السَّكوت تويّيه وكان أصغر بُحّاث المكروب في أوربا. وعمل كوخ وصاحبه الليل والنهار، فنسيا النوم والطعام، وقاما في حجرات موحشة يقطّعون جثث الموتى من المصريين. وقاما في معمل شديد الحر شديد الرطوبة حتى كاد جوه يتقطر ماء، كما تقطرت أنفاهما عرقاً على مكرسكوباتهما - قاما يحقنان قردة وكلاباً وقططاً ودجاجاً وفئراناً بالمواد الوبيئة التي استخلصاها من جثث الإسكندريين الذين ماتوا من الوافدة قريباً. ولكن بينما الفريقان الألماني والفرنسي يستميتان في طلب هذا المكروب الجديد، إذا بالوافدة تتزايل لغير ما سبب ظاهر، كما كانت جاءت لغير علة معروفة. ولم يكن منهم من تمكن من معرفة شيء عن المكروب المنظور، فنظروا إلى الموت المتراجع نظرة الآسف على فرصة أمكنت ثم أفلتت.

وهّم كوخ وجَفْكِي بالرجوع إلى برلين، وبينما هما يتأهبان للرحيل جاءهم رسول ينتفض ارتعاداً، فقال لهم: إن الدكتور تويّيه الباحث الفرنسي مات، ومات بالكوليرا.

كره بستور كوخ كرهاً شديداً، وأخلص له بالكره بقدر ما يكره الفرنسي الصميم؛ وكره كوخ بستور كرهاً شديداً، وأخلص له الكره بقدر ما يكره الألماني الصميم. ومع كل فما علم الألمانيان بالخبر خفَّا إلى رُو يقدمان عزاءهما ويبذلان عونهما. وصحب كوخُ رفات توّييه إلى مقره الأخير، وقد حملوه في صندوق بسيط عار من الزخرف. ولدى قبره وضع كوخ على تابوته الإكليل وقال (إنها غاية في البساطة، إلا أنها من الغار. العرف يجري بأن الغار هدية الأبطال). مات هذا الشاب الجسور، أماتته تلك المكروبات الضعيفة التي جاء يتقفاها أقتناصاً، فأقتنصته في الطِّراد من حيث لا يدري.

وانتهت جنازة هذه الضحية الأولى، فعاد كوخ إلى برلين ومعه صناديق بها عينّات كان صبغها بصبغات قوية فتراءت فيها مكروبة على صورة الواو. فكتب تقريره إلى وزير الدولة، وقال فيه: (لقد وجدت جرثومة واحدة في كل حالات الكوليرا التي بحثتها. . . . ولكني لم أثبت أنها سبب هذا الداء، فابعث بي إلى الهند حيث توجد الكوليرا دائماً. . . . ففي الذي وجدته ما يكفي لتبرير إرسالي إليها).

وغادر كوخ برلين قاصداً كلكتّا تصحبه ذكرى (توّييه) وذكرى فاجعته التي كانت. وصحبه خمسون فأراً قام عليها وصياً راعياً. وزاد دوار البحر في عنته. فكثيراً ما تصورت ما خاله ركاب السفينة من أمره، لعلهم ظنوه مبشراً حمله تحمسه على ما هو فيه؛ أو لعلهم حسبوه أستاذاً همه التنقيب عن تراث الهند القديم ووجد كوخ تلك المكروبة الواوية في كل جثة في جثة من الجثث الأربعين التي فحصها. ووجدها كذلك في مَعي المرضى عند أول إصابتهم بالكوليرا. ولم يجد أثراً لها في مئات الهنود الأصحاء الذين أمتحنهم. ولم يجدها في أي حيوان سليم، من الفأر الصغير إلى الفيل العظيم.

وسرعان ما تعلّم كوخ تربية هذه البشلات الواوية نقيةً على فالوذج حساء لحم الأبقار، وما استطاع القبض عليها في أنابيب اختباره حتى درس عادات هذه المخلوقات النباتية الصغيرة الشريرة فعرف أنها تموت سريعاً إذا هي جففت ولو تجفيفاً طفيفاً، وعرف كيف تتسلل إلى الرجال الأصحاء من ثياب الموتى وأفرشتهم بعد أن تتلوّث بأقذارهم؛ واستخرج هذه الواوات عينها من صهاريج الماء الآسن التي أجتمع الهندوس حولها في أكواخ حقيرة، بل زرائب بائسة، تخرج منها توجعات المرضى يستعْدون على الموت وليس من يُعدى ولا من يعين.

وركب كوخ البحر عائداً إلى بلده، فأستقبله الألمان استقبالهم قائداً عاد منتصراً، وأجتمع له العلماء الأطباء فقال فيهم: (إن الكوليرا لا تنشأ من ذات نفسها، فلا بد للمكلور من ابتلاع بَشِلَّتها الواوية، وهذه البشلة لا يمكن أن تنشأ إلا من بشلة مثلها، وهي لا تنشأ من شيء آخر غير هذه البشلة، وهي لا تنشأ من العدم، وهي لا تنمو وتتكاثر إلا في أمعاء الإنسان، وإلا في الماء إذا زاد قذره كماء الهند).

ألا حمدا ًلكوخ ولأبحاث كوخ وشجاعته، فهي التي أمنت أوربا وأمريكا من غارات هذه الوافدة الشرقية، ولم يبق لتأمين العالم منها إلا تمدين الهند ونشر الأنظمة الصحّية فيها.

- 8 -

من يد الإمبراطور نفسه تسلم كوخ وسام التاج بنجمته؛ ومع هذا ظلت قبعته الريفية مطمئنة على رأسه الأكيس؛ وكلما أعجب به المعجبون وأثنى عليه المادحون قال: (أنا إنما أفرغت كل وسعي، فأن كنت نجحت فوق نجاح غيري، فما هذا إلا لأني وقعت اتفاقاً من مجاهل العلوم الطبية على أصقاع بكرٍ بها التِبْر كثير مركوم. فليس لي في الذي وجدت فضل كبير)

كان البحّاث الذين اعتقدوا أن المكروبات أسباب الأدواء وأعداء الإنسان رجالاً شجعاناً، ولكن هذه الشجاعة لم تفت خصومهم من الأطباء الأقدمين وعلماء الصحة المحافظين الذين هزءوا بالأحاديث الجديدة عن المكروبات المزعومة وظنوها ضلالة وخرفاً، ومن هؤلاء الخوارج الأستاذ الشيخ بيتنكوفر أستاذ ميونيخ وزعيم الشكاكين الذين لم تقنعهم تجارب كوخ على بساطتها ووضوحها. فلما عاد كوخ من الهند ومعه هذه المكروبات الواوية التي آمن بأنها أسباب الكوليرا، كتب له بيتنكوفر ما معناه: (أرسل إلي شيئاً من جراثيم الكوليرا المزعومة، وأنا أثبت لك أن لا ضرر فيها)

وبعث كوخ إليه بأنبوبة تعج بهذه الجراثيم القتالة، فما كان من صاحبنا إلا أن رفعها إلى فمه وأبتلعها ابتلاعاً. فأرتاع كل صياد يؤمن بالمكروب، فقد كان في هذه الأنبوبة بلايين من هذه الواوات تكفي لعدوى جيش؛ ولكن الأستاذ تمطى بعد ما شربها استخفافاً وصاح يتحدّى من خلَل لحيته الكثة: (والآن فلنصبر وننظر هل تجيئني الكوليرا كما يزعمون)، وانتظروا ولكن الكوليرا لم تأت لهذا الأستاذ المجنون، ولآي سبب تخلفت؟ لم يعلم أحد عندئذ ولا يعلم أحد إلى الآن من سر هذا شيئاً.

بلغ النزق الجسور بيتنكوفر أن قام بتجربة جاز أن يكون بها قضاؤه، وبلغ كذلك به اليقين بعدها أن زعم أنها قضت له قيما بينه وبين خصومه. فصاح فيهم: (ليس للمكروب شأن في الكوليرا، إنما الشأن لاستعداد الشخص المصاب)، والاستعداد كلمة مبهمة لا مفهوم لمعناها.

فصاح كوخ يجيبه: (لا كوليرا إلا بالبشلات الواوية).

فرد عليه بيتنكوفر: ((ولكني بلعت الملايين من بشلاتك القاتلة في زعمك ولم يصبني حتى وجعٌ في بطني).

كان في هذا الحوار، وأسفاه، ما يكون بكل حوار علميّ شديد: كلا الطرفين مصيب بعض الإصابة، وكلاهما مخطئ بعض الخطأ. فقد توالت الأربعون عاماً التي جاءت من بعد كوخ بحوادث كلها تؤيده في قوله إن الناس لا تأتيهم الكوليرا إلا إذا هم بلعو بشلته الواوية؛ وكل السنين التي توالت علمتنا أن تجربة بيتنكوفر ما هي إلا مثل غامض من كثير أَبَت حُجُب المجهول أن تكشف لنا عن تفسيره، حتى في هذا العصر الحاضر الذي نحن فيه عجز بحاث المكروب عن رفع طرف واحد من تلك الحجب الكثيفة، فالمكروبات الفاتكة تملأ الكون، وتنسّل إلى كل مكان، وهي مع ذلك لا تقتل منا إلا بعضنا؛ أما بعضنا الآخر فإنه يقاوم مقاومة تحير عقولنا اليوم كما حيرت عقول الجيل الصاخب في العقد الخامس من القرن الماضي، حين الرجال لا يبالون بالموت في سبيل إثبات ما يدعون أنه الحق؛ فما كان بيتنكوفر هازلاً فيما صنع. وكيف يهزل من مشى إلى الموت حتى صار منه على مدى شبر واحد. وقد بلع غيره من البحّاث على غير عمد مِثل الذي بلع من مكروب الكوليرا وماتوا على أثر ذلك شر ميتة.

وما قاربت أيام كوخ العظيمة تمامها حتى أخذ بستور وأعماله الكبرى تتراءى مرة أخرى ضخمة هائلة، فتلفت الناس والدنيا وتَزُجّ بكوخ وبغيره من البحاث إلى الوراء في رقعة الحوادث الخطيرة. فلندع الآن كوخ، ولنتركه إلى مواطنيه الطماحين ينصبون له غير عامدين شركا، بل داهية عظمى ومأساة كبرى طمست قليلاً من وهج هذا الاسم الكبير، أسم الرجل الذي أقتنص من أعداء الإنسان والحيوان مكروب الحمرة ومكروب الكوليرا ومكروب السل. وقبل أن أعود إلى بستور فأكشف عن الصفحة الأخيرة الناصعة من سفر حياته الخالد، دعوني أرفع قبعتي وأنحني احتراماً لكوخ - هذا الرجل الذي أثبت يقيناً أن المكروب ألدّ أعدائنا؛ هذا الرجل الذي نظّم بحث المكروب فجعل منه علماء؛ هذا الربّان الذي قاد السفائن في عصر من بطولة وأبطال عفّي الآن عليه النسيان بعض العفاء.

(انتهى كوخ)

أحمد زكي