مجلة الرسالة/العدد 132/في ميدان الاجتهاد

مجلة الرسالة/العدد 132/في ميدان الاجتهاد

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 01 - 1936



للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية بالأزهر

كيف منع الاجتهاد

ينشد المسلمون الإصلاح في هذا العصر، وتنشده جامعتهم الأزهرية الكبرى في مصر، ويعالجون في سبيل ذلك طرقاً ملتوية يمشون فيها إلى أن تنتهي بهم إلى أسوأ مما كانوا فيه، فتعلو كلمة الجامدين بالرجوع إلى قديمهم الممقوت، ويوافقهم على ذلك بعض من يتظاهر بحب الإصلاح إذا أقبل عهده، ويخفى في قلبه كرهه وبغضه. ولو أنعم هؤلاء الناس النظر لرأوا الذنب في لذلك يرجع إلى تلك الطرق الملتوية، لا إلى الإصلاح المنشود الذي دعا إليه جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة، وغيرهما من كبار المصلحين في هذا العصر.

وهذا الإصلاح المنشود يتلخص في كلمتين: فتح باب الاجتهاد في علومنا عامة والعلوم الدينية منها خاصة، وتأليف كتب جديدة في هذه العلوم تسري فيها روح الاجتهاد بدل تلك الكتب الميتة الجامدة؛ أما ما عدا ذلك من أمور الإصلاح فمن الأمور الكمالية ألقى ضرنا الاهتمام بها أكثر من هذه الأمور الأساسية.

ولست بسبيل الكلام في هذا الإصلاح فقد قطعت شوطاً من حياتي في الجهاد فيه، حتى آل الأمر بنا إلى تلك الطرق الملتوية، ووجدت في ذلك غرائب وعجائب صرفتني عن العناية بذلك الأمر إلى أمور أخرى في العلم والأدب؛ وقد حاورت فيها أناسا آخرين وحاوروني، فوجدت علماء الأدب أكرم الناس أخلاقا، وأسلمهم طوايا، وأطهرهم أقلاما، ووجدت الخير فيهم مرجوا، والشر منهم مأمونا؛ ولست أدري وقد تركتهم إلى هذا الموضوع الديني الخطير أأجد أقلاما مثل أقلامهم، ونفوسا سمحة مثل نفوسهم، أم أجد النفوس لا تزال على عهدي بها، وإن تظاهرت بحب الإصلاح والانتصار له؟ وقد أكون مخطئا في ظني، وأرجو من الله أن أكون مخطئا فيه، وأن نكون قد بدلنا نفوساً أخرى تبحث مثل هذه الأمور المهمة في هدوء، وتعرف الصواب للمصيب فلا تحسده عليه أو تتعامى عنه، وتحسن الظ بمن يطلب الصواب فيخطئه طريقه، فتأخذه بالتي هي أحسن، حتى يعرف خطأه واضحا فيرجع عنه، ويشكر للذي دله عليه.

وهكذا كان حال سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. كان باب الاجتهاد بينهم مفتوحاً على مصراعيه لا يحمل أحد منهم بسببه ضغينة على أخيه، ولا يحاول قهره على موافقته في رأي خالفه فيه، إلى أن نبتت فتنة الخوارج المعروفة، ولعبت السياسة بعقول الناس فيها، فكانوا أول من سن في الإسلام أخذ المخالف في الرأي بوسائل القهر؛ ثم تتابعت الحوادث وأتى عصر بني العباس فرأوا من الأئمة المجتهدين في عصرهم انكماشاً عن سلطانهم فأخذوا ذلك عليهم، وجعلوا يصطنعون الوسائل لإيذائهم، فآذوا في ذلك أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة الجماعة، وصاروا ينصرون عليهم خصومهم من المعتزلة، واستباحوا في ذلك ما استباحوا من الحجر على حرية الرأي، وتعذيب المخالف لهم فيه بالسجن والضرب والقتل، وبلغ ذلك شدته في مسألة خلق القرآن المعروفة.

وكان التعليم من أول الإسلام يتخذ المساجد دوراً له، فتتولاه الرعية بعيدة عن الحكومة، كما تتولاه الأمم الآن في الشعوب الراقية في أوربا وأمريكا. وينشأ التعليم في كنفها حراً لا يتأثر بهوى حاكم، وينشأ رجاله أحراراً لا تلين قناتهم لظالم وقد أخذ حكام المسلمين في آخر الدولة العباسية يدخلون في أمور التعليم ليكون لهم نفوذ عليه، وسلطان على رجاله، فأنشئوا له المدارس الخاصة به، وحبسوا عليها من الأوقاف الكثيرة ما رغب العلماء والمتعلمين فيها، وجعلهم يتنافسون على أبواب الملوك والحكام من أجلها، فضاعت كرامة العلم والعلماء، وخضع أهله لمن بيدهم أمر تلك المدارس والأوقاف.

ومن أقدم ما بني في الإسلام من المدارس المدرسة البيهقية المنسوبة إلى البيهقي المتوفى سنة 450هـ، والمدرسة السعيدية بنيسابور بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود حين كان والياً بها، والمدرسة النظامية التي بناها الوزير نظام الملك وزير السلطان ألب أرسلان وابنه ملكشاه ببغداد سنة 459هـ واحتفل بافتتاحها يوم السبت عاشر ذي القعدة من هذه السنة، وجمع الناس على طبقاتهم ليحضروا دروس الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، فجاء الشيخ ليحضر فلقيه صبي في الطريق، فقال يا شيخ كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فرجع الشيخ واختفى. فلما يئسوا منه ذكر الدرس بها أبو نصر الصباغ.

ولما ملك السلطان صلاح الدين بن أيوب مصر لم يكن بها شيء من المدارس، فبنى بها المدرسة الناصرية لتعليم المذهب الشافعي سنة 566هـ ثم بنى المدرسة الصلاحية بالقرافة الصغرى سنة 572هـ مجاورة للإمام الشافعي رضي الله عنه، وجعل لناظرها أربعين ديناراً في كل شهر؛ ورتب له في كل يوم ستين رطلاً من الخبر، وراويتين من ماء النيل؛ ثم بنى أخرى مجاورة للمشهد الحسيني، وجعل دار عباس الوزير العبيدي مدرسة للحنفية.

وكان من دواعي إنشاء هذه المدارس تأييد المذاهب التي كان السلاطين يشتدون في نصرتها، كما فعل صلاح الدين حين استولى على مصر، فقد حارب فيها مذهب الشيعة الفاطميين الذين حكموا مصر قبله، وكانت دروس هذا المذهب تلقى في الأزهر وغيره من مساجدهم، فأبطل هذه الدروس، وأحيا مذهبي الشافعي ومالك وبنى لهما كثيراً من المدارس.

وفي هذه المدارس أقفل باب الاجتهاد؛ وقبرت المذاهب الفقهية عدا هذه المذاهب الأربعة الباقية؛ وقد كانت هناك مذاهب كثيرة لأهل السنة والجماعة بقى بعضها إلى القرنين السابع والثامن الهجريين؛ ومن هذه المذاهب مذهب البصري والثوري ولم يطل العمل بهما لقلة اتباعهما؛ ومنها مذهب الأوزاعي، وقد بطل العمل به بعد القرن الثاني للهجرة؛ ومنها مذهب أبي ثور، وقد بطل العمل به بعد القرن الثالث؛ ومنها مذهب ابن جرير الطبري، وقد بطل العمل به بعد القرن الرابع؛ ومنها مذهب الظاهري، وقد طالت مدته وزاحم المذاهب الأربعة حتى جعله المقدسي في أحسن التقاسيم رابع المذاهب في زمنه (القرن الرابع) بدل الحنبلي، وذكر الحنبلية في أصحاب الحديث، وعده ابن فرحون في الديباج الخامس من المذاهب المعمول بها في زمنه (القرن الثامن)؛ ثم درس بعد ذلك ولم يبق لأهل السنة والجماعة إلا المذاهب الأربعة. وذكر ابن خلدون أن الظاهري درس بدروس أئمته، وإنكار الجمهور على منتحله، ولم يبق إلا في الكتب، وربما يعكف متكلفو انتحاله عليها لأخذ فقههم منها؛ فلا يحلون بطائل، ويصيرون إلى إنكار الجمهور عليهم.

وهكذا أخذت المذاهب الأربعة تتغلب مع الزمن على غيرها من هذه المذاهب حتى تم لها التغلب عليها في القرن السابع الهجري. وأخذ فقهاء هذه المدارس تبعاً لهوى أصحابها من الأمراء يتعصبون لها، ويفتون بوجوب اتباعها. قال المقريزي في خططه: (فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري ولي بمصر والقاهرة أربعة قضاة، وهم شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة 665هـ حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعري، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه؛ ولم يول قاض، ولا قبلت شهادة أحد، ولا قدم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب. وأفتى فقهاء هذه الأمصار بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم)

وإذا لم يكف هذا الإجمال في بيان ما أتت به يد السياسة من وسائل القهر والإغراء في إحياء بعض هذه المذاهب وإماتة بعضها، ومحاربة الاجتهاد إلى حد القضاء عليه في تلك المدارس، فأنّا نسوق مثلاً من ذلك في المدرسة المستنصرية التي أمر بانشائها، المستنصر بالله العباسي، وشرع في ذلك سنة 625هـ وقد تكامل بناؤها سنة 631هـ وأنفق عليها أموالاً كثيرة، واحتفل بافتتاحها في تلك السنة احتفالاً عظيماً حضره بنفسه، وحضره نائب الوزارة وسائر الولاة والحجاب والقضاة والمدرسون والفقهاء ومشايخ الربط والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء وجماعة من أعيان التجار الغرباء، واختير لكل مذهب من المدارس وغيرها اثنان وستون نفساً، ورتب لها مدرسان ونائبا تدريس؛ وكان المدرسان محي الدين محمد بن يحي بن فضلان الشافعي، ورشيد الدين عمر بن محمد الفرغاني الحنفي؛ وكان نائباهما جمال الدين عبد الرحمن بن يوسف بن الجوزي الحنبلي، وأبا الحسن علياً المغربي؛ وجعل لها معيدون لكل مذهب أربعة، وقسمت إلى أرباع، فجعل ربع القبلة الأيمن للشافعية، وجعل ربع القبلة الأيسر للحنفية، وجعل الربع الذي على يمين الداخل للحنابلة، وجعل الربع الذي على يساره للمالكية. وقد شرط المستنصر في وقفه عليها أن يكون عدة فقهائها ثمانية وأربعين ومائتي فقيه، من كل طائفة اثنان وستون، بالمشاهرة الوافرة، والجراية الدارة، واللحم الراتب، إلى غير ذلك من وسائل الإغراء التي لم تتح لغير هذه المذاهب. وقد كان قبر الاجتهاد في هذه المدرسة، وحجر النظر فيها على العلماء بهذا الشكل.

في سنة 645هـ أحضر مدرسوها إلى دار الوزير، فتقدم إليهم ألا يذكروا شيئا من تصانيفهم، وألا يلزموا الفقهاء بحفظ شيء منها، بل يذكروا كلام المشايخ تأدباً معهم، وتبركاً بهم. فأجاب جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي مدرس الحنابلة بالسمع والطاعة. وقال سراج الدين عبد الله الشرمساحي مدرس المالكية: (ليس لأصحابنا تعليقة، فأما النقط من مسائل الاختلاف فمما أرتبه). وقال شهاب الدين الزنجاني مدرس الشافعية، وأقضى القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني مدرس الحنفية: (إن المشايخ كانوا رجالاً ونحن رجال) فكانا أفضل القوم إجابة. ثم أوصل الوزير أمر ذلك إلى المعتصم بالله، وكان قد ولى أمر الدولة بعد أبيه المستنصر، فتقدم إليهم أن يلزموا بذكر كلام المشايخ واحترامهم فأجابوه بالسمع والطاعة. وذهب إباء مدرس الشافعية والحنفية في الهواء. ولو أنهما استمرا على إبائهما لكان جزاؤهما القتل أو نحوه.

ونستطيع بعد هذا أن نحكم بأن منع الاجتهاد لم يتم إلا في عصور الظلم، وبأن قصر الناس على هذه المذاهب الأربعة حصل بوسائل غير مقبولة من القهر والإغراء. وفي يقيننا أنه لو أتيح لغير هذه المذاهب ما أتيح لها من تلك الأوقاف والرواتب لكان حظها من البقاء مثل حظها، ولبقيت معروفة مقبولة ممن يجهلها اليوم أو ينكرها.

وقد حوّلت هذه الوسائل لإلزام الناس بهذه المذاهب قبل هذه العصور فلم يرض بهذا المسلمون حتى أصحاب هذه المذاهب. روى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس أنه قال: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه؛ فقلت لا تفعل، فان أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب. فقال وفقك الله تعالى يا أبا عبد الله.

وروى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس قال: لما حج المنصور قال لي قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوا إلى غيره، فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.

فنحن إذن في حل من أمر هذه المذاهب التي فرضت علينا فرضاً، وفي حل من ذلك الحظر على الاجتهاد في أحكام ديننا، لأنه أتى بطريق القهر، ولم يتم برضا المسلمين وتشاورهم، وإنما أمر المسلمين كما حكم الله تعالى شورى بينهم.

عبد المتعال الصعيدي