مجلة الرسالة/العدد 132/معركة عدوى

مجلة الرسالة/العدد 132/معركة عدوى

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 01 - 1936


8 - معركة عدوى

للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي

رئيس أركان حرب الجيش العراقي

تتمة

وأراد الجنرال (باراتيري) أن ينسحب إلى (أديكايه) ليقصر خط المواصلات إلا أنه لم يجسر على ذلك خوفاً من تأنيب رومة فقرر القيام باستطلاع تعرضي في اتجاه نهر مارب شأن كل قائد متردد. وكان يرمي بذلك إلى وقف حركات الأحباش في اتجاه غوندت وأسمره، وبعد أن تأهبت الفصائل للحركة سحب أمره. ولا شك في أن هذه الأوامر المتناقضة مما أزال اطمئنان الفصائل وجعلها تخشى العاقبة.

ومما زاد الموقف حروجة قلة الأرزاق. وكلف مدير الميرة والتموين الجنرال بتقليل مقدار الأرزاق اليومي للجنود لأن مواد التموين لا تكفي وأن القوافل أخذت تتأخر والكثير منها يقع في أيدي الثوار، فاضطرت القيادة إلى تقليل أرزاق الجندي اليومي، وكان الجندي الأهلي يأخذ قليلاً من الشعير، ويفضل الدراهم مقابل الأرزاق الباقية، إلا أن الأرزاق كانت مفقودة. وتناول الضباط الأرزاق كالجنود. وأخيرا أضاف القائد العام خطيئة إلى خطيآته السابقة فكانت نذير الخذلان. فانه عقد مجلساً حربياً واستشار القواد فيما يعمل، ومعنى ذلك أنه أراد أن يلقى تبعة الحركات عن عاتقه وكان هو المسؤول الوحيد عنها.

والظاهر أن القائد العام كان يخشى حساب رومة بعد أن تلقى تلك البرقيات المرة منها، وكان قرار أعضاء أكثرية المجلس القيام بالهجوم وعدم الانسحاب لأن البقاء في ادجرات بسبب مجاعة الجيش، ولأن الأرزاق كانت على وشك النفاد برغم تقليل مقاديرها اليومية، لأن القوافل أمست لا تصل بانتظام. أما الانسحاب إلى الوراء فلم يكن من شك في أنه أحسن تدبير لتقصير خط المواصلات وتموين الجيش بصورة منتظمة، وبعد أن يتقوى بالنجدات المرسلة من إيطاليا وتكمل التدابير الإدارية وتنتظم سوق التموين والذخيرة يتقدم للهجوم بخطوات ثابتة متينة، بيد أن القائد العام والقواد الآخرين لم يكن لديهم من حب التبعة (المسؤولية) ما يجعلهم يتخذون هذه الخطة.

وفي الوقت الذي قرر المجلس الحربي فيه القيام بالهجوم وردت البرقية التالية من رومة إلى القائد العام:

(رتب الجيش بحيث يقوم الهجوم ويقاوم هجوم العدو) ومعنى ذلك أن الحكومة الطليانية لم توافق على الانسحاب وأنها تريد المقاتلة مهما كانت النتيجة.

نشوب المعركة

يظهر لنا مما تقدم أن أحد الفريقين المتحاربين شعب متوحش ملتف حول ملكه ومتعطش للقتال، ويعرف بلاده، ومستعد للاستفادة من جميع ظاهراتها للضربة القاضية على عدوه، وعلى رأسه ملك يعرف كيف يستفيد من رجاله، فاستطاع بدهائه وحنكته أن يحصل على العدد الكافي من السلاح، ويجمع الأحباش حوله ويقودهم إلى ميادين القتال.

أما الفريق الآخر فيجهل أحوال البلاد، وهو غير قادر على تحمل مناخها، وقد أساء قواده قيادته، فلم يضمنوا له ما يحتاج إليه من مواد التموين وأسباب الراحة التي تمكنه من القتال في هذه البلاد القاسية. وقد أدى التردد في التنفيذ إلى زوال اعتماد الجنود على ضباطهم والضباط على رؤسائهم.

والواضح من هذا أن المعركة سوف تنشب في ظروف غير متعادلة، وقد لا يفيد التدريب المتقن والأسلحة الحديثة في التغلب على كثرة الأحباش المتشوقين إلى القتال.

والغريب في أمر هذه الحركات أن القيادة العامة كانت لا تملك خريطة صالحة تساعدها على وضع الخطط العاجلة. ومن الضروري معرفة حالة الأرض لتسيير القوات عليها. فالخطيئة التي ارتكبت في الحركات السوقية سوف يزداد شمولها بالخطأ في التعبئة، وهذا النقص مما سبب تسيير الأرتال في ميدان المعركة بحيث لا يستطيع بعضها مساعدة بعض، وذلك مما جعل القيادة الحبشية تغتنم الفرصة وتنقض برجالها على الأرتال وتقضي عليها على التعاقب.

عسكرت القوات الطليانية في 29 فبراير سنة 1896 في (صورية) وكانت القوات كما نعلم مؤلفة من أربعة ألوية بقيادة حاكم المستعمرة العام لجنرال (باراتيري)، وكان قواد الألوية الجنرال البرتونه والجنرال دابروميدا والجنرال أريموندي والجنرال اللانا.

وكانت الأوامر الصادرة من معسكر (صورية) ترمي إلى تحريك القوات في الساعة التاسعة على ضوء القمر في اتجاه (عدوى).

وكان يؤدي إلى عدوى طريقان، وهما طريق شمالي وطريق جنوبي، وكلاهما يمتد في منطقة وعرة فيمر الطريق الشمالي بمضيق (رابي أريان)، والطريق الجنوبي بمضيق (شدان موت) قبل وصولهما إلى عدوى، وبين الطريقين جبل (راجو) الوعر الذي لا يمكن تسلقه لشدة انحداره وللصخور المكدسة فيه. وتبلغ المسافة بين المضيقين أكثر من خمسة عشر كيلو متراً. فالتقدم على هذين المضيقين يجعل الأرتال الطليانية معرضة لهجمات القوة الحبشية المتمركزة حيث تتحرك على الخطوط الداخلية، وبلغ الجنرال (باراتيري) أوامره مقتنعا بأن الأرتال بعد اجتياز المضايق يجتمع بعضها ببعض وتتقدم نحو العدو. إلا أن هذا الاقتناع لم يصح، وقد يأمل هذا القائد النصر إذا جمع الرتلين في شرقي جبل (راجو) واستفاد بعد ذلك من كثرة المدافع.

وبدلاً من تقسيم الألوية على الرتلين وتسيير لوائين في كل رتل لكي يكون لكل منها القوة الكافية لمقابلة العدو تقدمت الألوية على الترتيب التالي:

لواء البرتونه في الجنوب نحو مضيق (شدان موت)، ولواء (دابورميدا) في الشمال مضيق (رابي أريان) أما لواء (أريموندي) ففي القلب، وبقى لواء اللانا في الاحتياط إلى الوراء، ولما وصل لواء (أريموندي) إلى سفح الجبل رأى أن له. فوجه الجنرال (باراتيري) إلى الشمال وراء لواء (البرتونه) أما لواء (اللانا) فسار في المؤخرة وراء (البرتونه). وهكذا تكدست ثلاثة ألوية على طريق واحد بينما بقى لواء في الجنوب.

والحقيقة أن مضيق (رابي أريان) لم يكن فيه مجال لانفتاح لواء واحد، وكان اللواءان يتقدمان بصعوبة نحو المضيق، وذلك يجعل لواء (اللانا) يتأخر في الوراء بطبيعة الحال.

وكان القسم الأكبر من لواء (البرتونه) من الأهليين، وتقدم اللواء ليلاً على ضوء القمر، وكان الجنود يسيرون بنشاط، بينما كان الأحباش يترقبون اقترابهم بفارغ الصبر، وكانت طلائعهم تنسحب أمام هذا اللواء دون أن تحرك ساكناً.

وعلى ما يظهر كان النجاشي ينتظر مرور هذا اللواء من المضيق وابتعاده عن الرتل الشمالي لينقض عليه ملتفا حوله من كل جهة. واعتمد قائد اللواء على الخريطة غير الصحيحة فأراد أن يريح لواءه في رابية بعد اجتياز المضيق ظنا منه أن الرابية تسيطر على الأرض في شرقي المضيق. ولما وصل إلى الرابية باغت الأحباش لواءه من كل جانب وهاجموه بحرابهم وخناجرهم.

وفي الساعة السابعة صباحاً سمع الجنرال (باراتيري) صوت النار من الجنوب فكلف لواء (دابورميدا) بنجدة (البرتونه) عندما يجتاز المضيق، بيد أن الأحباش كانوا قد احتلوا الوديان والروابي في جنوبي مضيق (رابي أريان) فاضطر (دابورميدا) إلى مقاتلتهم، إلا أنه بعد مدة قصيرة رأى نفسه أمام قوة فائقة من الأحباش أحاطت بجانبه فألجأته إلى الوقوف للدفاع.

ولما علم (باراتيري) أن لواء (دابورميدا) أيضا اشترك في القتال وتأكد أنه لا يستطيع نجدة (البرتونة) أمر لواء (أريموندي) بألا يعقب لواء (دابورميدا) بل يتوجه رأساً إلى الجنوب لمساعدة (البرتونه).

ولما اجتاز هذا اللواء المضيق وتوجه إلى الجنوب وصل المنهزمون من لواء البرتونه إلى رأس الرتل فعلم منها أن الأحباش قضوا على اللواء بالإحاطة به من كل جانب وأن قائده قتل في المعركة، فتقدم اللواء في الاتجاه الجنوبي الغربي، وكان لواء (اللانا) يسير وراءه، إلا أن وعورة الأرض وكثرة الوديان والأخاديد فيها عرقلت المسير.

وكان الأحباش قد كمنوا لهذا اللواء مستفيدين من الوديان والأخاديد، فلما اقترب اللواء منهم باغتوه من كل جانب، ثم أعادوا الكرة على لواء (اللانا) فكانت مباغتة هائلة، وكان قتال وجها لوجه، فلم تستطع المدفعية مساعدة المشاة لاختلاط الحابل بالنابل. وكان بعض المدافع في المؤخرة فلم تستطع تلك المدافع أن تسلك الروابي لدخول الموضع. وكلما تقدمت قوات الاحتياطي لنجدة الخط الأول كان الأحباش يحيطون بها ويشتتون شملها. وعقب هذا القتال الشديد انسحاب، ولكن لا على الصور المعروفة بل كان أشبه بالهزيمة. فترك المشاة المدافع وولوا هاربين في طلب النجاة، فتكدسوا على الطرق وفي المضايق وفي الوديان فلم يسلم منهم إلا القليل.

أما لواء (دابروميدا) فبقى وحده يقاتل الأحباش ويظهر أن القوة التي هاجمته لم تكن كبيرة فقاتل إلى المساء بعد أن فقد قائده وانسحب بصعوبة في اتجاه آخر. أما القائد العام فلما رأى النكبة التي حلت بجيشه أصدر أمر الانسحاب في الساعة الحادية عشرة وأسرع مع أركان حربه منسحبا إلى موقع (عدي كيه) البعيد عن ميدان القتال مسافة 70 كيلومتراً فكان ذلك فراراً لا انسحاباً.

وبلغت خسائر الجيش الطلياني في هذه المعركة ما يلي: جنرالان مقتولان وهما (دابورميدا) و (إريموندي) وأخذ الجنرال (البرتونه) أسيراً.

زعيمان من سبعة زعماء مقتولان وزعيم في الأسر.

خمسة عشر قائد فوج من (أربعة وعشرين) قتلى.

والخلاصة أن مجموع الخسائر من قتيل وجريح وأسير بلغ 284 ضابطاً و 15. 400 جندي. أما الذين نجوا فكانوا 262 ضابطاً و4369 جندياً منهم 276 جريحاً.

انتهى

طه الهاشمي