مجلة الرسالة/العدد 136/الفلم المصري

مجلة الرسالة/العدد 136/الفلم المصري

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1936



بمناسبة فلم دموع الحب

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

لا يسع المصري إلا أن يغتبط أعظم الاغتباط عندما يرى تلك الأفلام المصرية الجديدة التي أقدم أبناء مصر على إخراجها بين حين وحين؛ ولا شك في أنها فتح جديد يجب أن نفخر به، ونحرص على المزيد منه؛ وإذا كان الجمهور المصري قد أقبل على رؤيتها ذلك الإقبال الباهر فان في ذلك دليلاً قوياً على مقدار تطلعه إلى أن يرى تلك الصناعة تنمو وتنجح. فالشعب يؤدي واجبه في تشجيع أبنائه من أهل الفن ويجيب مجهود المقدمين منهم إجابة كريمة مستنيرة.

والفلم المصري له مكان لا يستطيع فلم آخر أن يحل محله. فانه يشبع من عواطف المصريين مالا يشبعه خير الأفلام العالمية الأخرى، وذلك أثر من آثار النهضة المباركة التي نحسها في كل ناحية من النواحي. فالشعب المصري يحس بنفسه ويريد أن يرى تلك النفس مصورة أمامه تصويراً فنياً كما يحتاج الإنسان إلى أن ينظر في مرآة ليرى صورة وجهه أو هندامه، وكما يرتاح إلى أن يسمع ترديد آماله ونزعات نفسه ومُثُله العليا.

فكل فلم من تلك الأفلام حديث نفسي يتحدث به الفنان إلى بني قومه. فهي ليست قطعة من الفن فحسب. بل هي رسالة عاطفية يرسلها الفنان من نفسه إلى نفوس الجماهير المتعطشة إلى الحياة والعلو والقوة. ولهذا فنحن إذا ذهبنا لإجابة الداعي إلى فلم مصري كانت إجابتنا أولاً قومية وثانياًفنية.

ومن هذا الاعتبار لا يسع المصري أن يقارن أو يوازن بين الأفلام المصرية، وبين ما تخرجه الشركات العالمية من آيات الفن. لأن الأفلام العالمية إنما تؤدي رسالة واحدة وتشبع ناحية واحدة هي رسالة الفن المحض والناحية الأدبية الصرف، ومنهما كانت تلك الناحية الفنية فهي في المحل الثاني من نفوسنا، ولا يمكن بأي حال أن تحل المحل الأول الذي استولت عليه الآمال والأماني، والرغبة القوية في الحياة، والسمو والاعتزاز بالنفس.

غير أنا نطلب من النفس المصرية أكثر مما تستطيع بذله إذا نحن وقفنا عند حد الأماني القومية؛ بل أن تلك الأماني نفسها قد تخيب ولا تجد ما يستثيرها، أو يعبر عنها إذا لم تتقد الناحية الفنية وتعلو إلى المستوى الذي تتطلبه النفوس من الجمال والقوة؛ ولهذا نجد من أنفسنا جرأة على أن نتناول ما يظهر من الأفلام المصرية بالتحليل والنقد حتى نشير إلى ما كنا ننتظر، وما كانت نفوسنا تصبو اليه؛ ولهذا نرجو أن يدرك قراء هذه الكلمة قصدنا منها، وهو أن نشير إلى أمور نحب أن تراعى في الأفلام التي يقدمها المخرج المصري. فإذا ظهر أننا على حق فيما نذهب إليه كان مخرج الفلم المقبل على هدى فيما يتطلبه الجمهور المصري منه فيعمل على تحقيقه، وبذلك يكون الغد أقرب إلى الكمال من اليوم. إننا لا نستطيع أن ننكر فضل أولئك الرواد الذين قدفتحوا باب ذلك الفن، ولا نستطيع أن ننكر ما مهدوا من العقبات، ولا ما عانوا من المشقة في سبيل عملهم المجيد، وإنما ندعو بهذه الكلمة إلى التطلع إلى العلا، وبلوغ درجات جديدة من الإتقان. فإذا تكلمنا هنا عن فلم دموع الحب فلسنا نريد أن نخصه بالنقد، بل إنا نتخذه مثلاً في النقد لأنه أحدث الأفلام وأقربها مثولاً في الأذهان.

إن الفلم لا يكون ذا أثر بالغ في النفس إلا إذا كان يخدع الناظر عن المقصد المباشر الذي يرمي إليه الفنان. فان الناظر إذا استغرق في تأمل القصة التي أمامه، كان ميالاً إلى نسيان الحقيقة وأنه إنما ينظر إلى قصة - بل يخال أنه يعيش ويتأمل منظراً من مناظر الحياة؛ وتبلغ مقدرة الفنان ذروتها إذا استطاع أن يخدع الناظر فيجعله لا ينتبه إلى أنه إنما يطالع صفحة صور متحركة بل ينظر منظراً من مناظر الحياة الحقيقية، ويكون هذا الخداع ممكناً إذا عمل الفنان على أن تكون كل الوقائع المعروضة تسير سيراً طبيعياً لا تكلف فيه، وتتابع تتابعاً طبيعياً من غير تعسف ولا شطط. فإذا شعر الناظر أن هناك قفزة في الوقائع، أو أن هناك ثغرة في التسلسل، انتبه إلى نفسه وصحا من سحر المنظر، وفسدت عليه الغاية التي يقصدها الفنان.

وإذا أردنا أن نضرب أمثلة من فلم دموع الحب على تقصير الفنان في هذا الجانب النفسي لم يصعب علينا الأمر. فأن تصور أية حادثة من الحوادث في تلك القصة يتيح لنا فرصة للتمثيل. فلنأخذ الموقف الأول الذي ظهر فيه فكري أفندي (عبد الوهاب) في حديقة المنزل وقابل الفتاة ابنة صاحب المنزل، فأن المنظر لم يزد على مقابلة جاءت عفواً، ولم يطل أكثر من مدة صب الشاي، ثم استأذن فكري أفندي في الخروج لمقابلة صديق، ومع ذلك قد كانت هذه المدة الوجيزة كافية لأن تجعل الشاب فكري أفندي يهوى الفتاة، ولأن يجعل الفتاة تحب ذلك الشاب، كأنما قد عزم كل منهما ابتداء على أن يحب الآخر إذا رآه! حقاً إن هناك نوعاً من الحب ينشأ للنظرة الأولى، ولكن ذلك الحب لا يستطيع أن يكون من نظرة عابرة جاءت عفواً؛ ولئن كانت النظرة السريعة تعقب الحب فلا بد أن يكون هناك عامل قد ساعد عليها، وأنه من حق النظارة أن يروا ما هو ذلك العامل الذي أسرع بالحب إلى هذا الحد.

على أننا إذا سلمنا أن الحب قد ينشأ من النظرة العجلى، فأنا لا نستطيع أن نسلم أن تبادل ذلك الحب يكون بغير تدرج ولا تقديم، وذلك على الأقل بين أصحاب النفوس المثقفة المهذبة، فكان لا بد للمخرج أن يدبر من الحوادث ما يساعد على إتاحة الفرص لتبادل ذلك الحب وإنمائه، ولكن فلم دموع الحب سار من المقابلة القصيرة الأولى إلى نزهة في الفجر في الحديقة يلتقي فيها الشاب بالفتاة ويبادلها أول ألفاظ التعارف فلا يكادان يسيران معاً دقائق قليلة حتى ترتفع الكلفة، وحتى يندفع الاثنان في تصريحات ودية، وحتى تبادلا الحب تصريحاً. ثم يسير الفلم بعد ذلك إلى نزهة لا مناسبة لها، ولا تفسير يعلل حدوثها، وفيها يتبادل المحبان العهود والمواثيق على أقدس أنواع الارتباط.

ومثل آخر لا يستطيع الناظر إلا أن يصطدم به وهو عندما عاد فكري أفندي من السفر بعد أن تبسم له الحظ ليحمل إلى حبيبته بشرى تحقيق الأمل في الزواج فيجد حبيبته في الحديقة إلى جوار حلمي صديقه، ولم يكن يعرف أن ذلك الصديق له أية علاقة بحبيبته وكذلك لم يكن ينتظر أن يجد تلك الحبيبة في مثل تلك الجلسة الخاصة مع شاب آخر. ومع ذلك فأنه لم يفعل شيئاً أكثر من أن وقف وجعل يتكلم عما جاء له، وكأنه لم يلاحظ شيئاً في وجود حبيبته في الحديقة منفردة مع شاب يناجيها وحيداً. ألم يكن من حق الناظر أن يرى علامة من علامات الاستياء على وجه المحب المتيم؟ ألم يكن على الأقل من حقه أن يرى علامة من علامات الدهشة أو الارتياع على وجه الشاب الذي أتى يحمل كل آماله إلى حبيبته فلا يجدها تطير نحوه كما كان ينتظر؟ وأين كرامته المجروحة؟ وأين حبه الثائر؟ وأين غيرته ونيران حقده؟ ثم ذلك الصديق الذي خانه مع سابق إخلاصه إليه وآسر على سعادته مع ما قدمه له في الأيام الماضية من وده وإخائه. ألا يستحق منه غير ذلك الموقف الفاتر الخامد؟ ويعود فكري أفندي بعد ذلك إلى الدار التي كان قد بناها لتكون داره مع زوجته المنشودة فيبكي ويتضاءل حتى يبلغ مكان صورة تلك الحبيبة الغادرة - ولكنه يقف فيطيل البكاء إلى جانبها ولا تحدثه نفسه بثورة ما - أحقا هكذا يفعل المحب الثائر الحب؟

إننا نخطئ كثيراً لو زعمنا أن الفلم يستطيع أن يبلغ المستوى المطلوب بالغناء وحده، فإذا شئنا الغناء فليكن الفلم صورة لعرض غنائي لا محاولة فيه للتمثيل. فإذا كان ولا بد من المزج بين الغناء والتمثيل فليكن الدور الأكبر مسندا إلى من يستطيع أداءه، وليختر موضوع الفلم اختياراً يسمح بأن يكون للمغني دور لا يحتاج إلى كبير دراية في فن التمثيل. فالحق أن الأدوار الثانوية في فلم دموع الحب كانت لا نسبة بين أدائها وبين أداء الدور الأكبر. فلقد أتقن المعلم حنفي (عبد القدوس) ما شاء له الفن وكذلك أتقن حلمي أفندي (سليمان نجيب) دور الصديق الغادر والغني المستهتر اتقانا يستحق كل الإعجاب، ولو كان هذان الفاضلان هما بطلا القصة لكان الإخراج الفني أبرع وأبدع.

وأما عن الغناء فلست أدري ماذا يرى كل من شهد الفلم فيه، لأن الغناء مرجعه إلى الذوق ولا يستطاع فيه النقد المنطقي الذي يصح في التمثيل، على أني لا أستطيع أن أكتم ما أحسست به، وذلك أنني لم أسمع إلا تلك الأغاني التي اعتدنا سماعها في الصالات، وفي ليالي الغناء المعتادة، وفي أسطوانات الأدوار الشائعة. وبعد فأنّا نتساءل: أهذا هو الغناء المقصود في روايات الأوبرا أو الأوبريت؟ إننا لم نشهد بعد من تقدم الغناء ما كنا شهدنا بوادره في روايات السيدة منيرة المهدية أمثال كرمن وروزينا وتابيس وغيرها مما عرضته تلك الفنانة الماهرة في وقت ما منذ عشرات السنين، وقد كنا ننتظر أن يسمو الغناء المسرحي بعد ذلك إلى درجة أعلى من تلك، فإذا بنا نعود إلى تلك الأغاني الساذجة المكررة التي اعتدنا سماعها على التخوت أو في الصالات. وإنا لا نشك في أن تلك الأغاني لها جمالها الخاص، ولا سيما عند بعض الأذواق التي يجب أن تخرج عن قيود المألوف إلى التعبير عن عواطف النفوس، وتستدرج السامعين إلى أنواع منوعة بدل تلك الآهات المكررة والأنغام الواحدة المعتادة. وإنه لمن العجيب أن نسمع صوت العود والكمان، بل نقر الدف لحفظ الوحدة في تلك الأغاني كأنما نحن نستمع إلى تخت لا إلى شخص حي يفيض بعواطفه ويترجم عن وجدانه! والحق أن تلك الآلات الموسيقية وذلك النقر الناشز كان له أثر عظيم في تحويل العقل عن الاستغراق في القصة، وإلى إزالة غشاء الخيال عن جو القصة وإعادتها إلى جو آخر تنبه فيه العقل إلى أن الصور التي أمامه إن هي إلا صور متحركة وليست قصة حياة.

ولقد جرى مخرجو الأفلام المصرية إلى الآن على عادة لا نظنها تؤدي بهم أبدا إلى التفوق المنشود، وذلك أنهم يحاولون الاستغناء عن المؤلف الأديب. ولو كان المؤلف الأديب غير ضروري لكان لهم العذر فيما يذهبون اليه، ولكانت رغبتهم في الاقتصاد مفهومة واضحة، إذ لا نستطيع أن نلومهم على اقتصاد مبلغ من المال بدل أن يبذلوه للأديب الذي لا فائدة منه، ولكن الأمر على غير ذلك، فان أول أساس لنجاح القصة أن تكون قصة صالحة مكتوبة كانت أو مترجمة. ولقد رأينا فيما مضى أن أقوى مهارة في التمثيل تضمحل وتنتهي إلى الفشل التام إذا لم يكن دعامة ذلك التمثيل موضوعاً سامياً وقصة رائعة ذات جمال وفن وأدب؛ ونحن إذا استعرضنا المحاولات التي حاولها المخرجون إلى الآن لم نجد أنهم خصصوا لناحية القصة عناية تذكر. وقد يشكو المخرجون من أن الأدباء لا يواتونهم بالمؤلفات اللائقة كما أنهم قد يشكون من أن الأدباء يظهرون لهم من صعوبة المراس ما يجعلهم ييئسون من تعاونهم، ولكننا مع ذلك نريد أن نذكرهم ببعض أرقام قد تكون لها دلالة كبرى فان متوسط ما يناله الأديب الإنجليزي نظير قصة من قصص الأفلام يتراوح بين خمسمائة جنيه وألف جنيه، في حين أن متوسط ما يناله الأديب من هوليوود أكثر من ألف جنيه بلا نزاع؛ وليس من العجيب ولا المحرم أن يفوز المغني بآلاف الجنيهات؛ وكذلك ليس من العجيب ولا المحرم أن يفوز المخرج أو الممثل أو عارض الأفلام بآلاف مثلها، ولكنا نضيف إلى ذلك أنه ليس من العجيب ولا من المحرم أن يفوز الأديب ببعض تلك الألوف، لأنه شريك أساسي في المجهود الفني. ولهذا نرجو أن يعني المخرجون باختيار الموضوعات وألا يضنوا على الأدباء بما يشجع المبرز منهم على التخصص في إخراج ما تحتاج إليه الأفلام المصرية من القصص.

هذه كلمة لا نقصد بها إلا خدمة ذلك الفن الوليد ونحن على يقين من أن القراء مدركون قصدنا منها، وكذلك نرجو أن يحملها المخرجون والفنانون على المقصد السامي الذي نرمي إليه.

محمد فريد أبو حديد