مجلة الرسالة/العدد 136/الوزير أبن كلس

مجلة الرسالة/العدد 136/الوزير أبن كلّس

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1936



واضع الحجر الأول في صرح الجامعة الأزهرية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

سألني سائل كيف نشأت صفة الأزهر الجامعية، ومن صاحب الفضل الأول في إسباغها عليه؟ فرأيت أن أنتهز هذه الفرصة لأعرض في هذا الموضوع شيئاً من الشرح والتفصيل ويجب أولا أن ننفي فكرة ذائعة، هي أن الجامع الأزهر أنشئ ليكون جامعة أو معهداً للدرس، فليس ثمة في ظروف إنشائه ما يدل على أنه أنشئ لمثل هذه الغاية، وإنما أنشئ الجامع الأزهر ليكون مسجداً رسمياً للدولة الفاطمية في حاضرتها الجديدة، ومنبراً لدعوتها، ورمز لسيادتها الروحية. أما فكرة الدراسة بالأزهر فقد كانت حدثاً عارضاً ترتب على فكرة الدعوة المذهبية الجديدة؛ ففي صفر سنة 365 هـ، في أواخر عهد المعز لدين الله منشئ الأزهر، ولنحو أربعة أعوام من إنشائه، جلس كبير القضاة علي بن النعمان القيرواني بالجامع الأزهر وقرأ مختصر أبيه في فقه الشيعة في جمع حافل من العلماء والكبراء، فكانت هذه أول حلقة للدرس عقدت بالجامع الأزهر؛ ثم توالت حلقات بني النعمان بالأزهر بعد ذلك، وكان بنو النعمان من أكابر علماء المغرب الذين اصطفتهم الخلافة الفاطمية وجعلتهم دعاتها وألسنتها الروحية، فلحقوا بها إلى مصر، واستأثروا في ظلها برياسة القضاء زهاء نصف قرن؛ وكانت الخلافة الفاطمية تعتمد في توطيد سلطانها بمصر على عصبيتها المغربية، ثم على صحبها وخاصتها من الموالى الأجانب وجلهم من الصقالبة؛ وكانت حلقات أولئك العلماء المغاربة بالأزهر حلقات دعاية روحية وسياسية، تعقد في الغالب للأكابر والخاصة، ولم تكن لها في البداية صفة الدرس العام.

كانت هذه بداية جامعية في معنى من المعاني، بيد أنها لم تكن عامة ولا مستقرة؛ ولكن حدث في عهد العزيز بالله حدث جامعي آخر؛ ففي رمضان سنة 369 هـ جلس يعقوب بن كلِّس وزير المعز لدين الله، ثم وزير ولده العزيز من بعده بالجامع الأزهر، وقرأ على الناس كتاباً ألفه في الفقه الشيعي؛ وكان ابن كلس كما سنرى شخصية ممتازة، تجمع بين السياسة والعلم، وكان نصيراً كبيرا للعلماء والأدباء؛ وكان يعقد مجالسه الفقهية والأدبية تارة بالأزهر وتارة بداره فيهرع إليها العلماء والطلاب من كل صوب، وكانت في الواقع أول مجالس جامعية حقة عقدت بالجامع الأزهر.

والظاهر أن ابن كلس كان أول من فكر في جعل الجامع الأزهر معهداً للدراسة المنظمة المستقرة؛ وعلى أي حال فهو أول من فكر في تنفيذ هذا المشروع الجامعي؛ ففي سنة 378 هـ استأذن ابن كلس العزيز بالله في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس يحضرون مجلسه ويلازمونه، ويعقدون مجالسهم بالأزهر في كل جمعة من بعد الصلاة حتى العصر؛ وكان عددهم خمسة وثلاثين؛ وقد رتب لهم العزيز أرزاقاً وجرايات شهرية وأنشأ لهم داراً للسكنى بجوار الأزهر، وخلع عليهم في يوم الفطر، وأجرى عليهم ابن كلس أيضاً رزقاً من ماله الخاص.

وهنا نجد أنفسنا أمام حدث جامع حقيقي، فق كان أولئك الفقهاء الذين رتبهم ابن كلس للقراءة والدرس بالأزهر، وأقرهم العزيز بالله، أول الأساتذة الرسميين الذين عينوا بالجامع الأزهر، وأجرت عليهم الدولة أرزاقاً ثابتة وباشروا مهمتهم العلمية تحت رعاية الدولة بطريقة منظمة مستقرة؛ وإذن فهنا نستطيع أن نقول إن الأزهر يكتسب لأول مرة صفته الجامعية الحقيقية كمعهد للدراسة المنظمة، وأنه يبدأ هنا حياته الجامعية الحافلة المديدة.

- 2 -

وإذا ما تقررت هذه الحقيقة، فأنّا نستطيع أيضاً أن نقول إن أكبر الفضل في تتويج الجامع الأزهر بهذه الصفة الجامعية الجليلة يعود إلى الوزير ابن كلس الذي أسبغ عليه لأول مرة صفة المعاهد الدراسية العامة، ورتب له أول فريق من الأساتذة الرسميين.

ولقد كان ابن كلس وزيراً عظيماً وعالماً جليلاً؛ بل كان عبقرية سياسية حقيقية؛ وهو أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس؛ واسمه يدل على أصله الذمي؛ أجل، فقد كان ابن كلس يهودياً، نشأ ببغداد، وغادرها في شبابه إلى الشام واشتغل هنالك حينا بالتجارة، وأثقلته ديون عجز عن أدائها ففر إلى مصر في عهد كافور الأخشيدي؛ واتصل به وقام له ببعض الأعمال والمهام المالية فأبدى في أدائها خبرة وبراعة، وطاف بريف مصر يحصل الأموال ويعقد الصفقات، حتى تمكنت منزلته لدى كافور، وأثرى وكثرت أمواله وأملاكه؛ ثم ثابت له فكرة في الأخذ بنصيب من السلطة والولاية، ورأى الإسلام خير طريق لتحقيق هذه الغاية، وكان قد بلغه أن كافوراً قال في حقه لو كان هذا مسلماً لصلح أن يكون وزيراً، فدرس قواعد الإسلام وشرائعه سراً، وفي شعبان سنة 356 هـ، دخل جامع مصر (جامع عمرو) وصلى به الصبح في موكب حافل؛ ثم ركب في موكبه إلى كافور، فخلع عليه، واشتهر أمره، وعلت منزله، وقوي نفوذه؛ فتوجس وزير مصر جعفر بن الفرات من تقدمه وتمكن نفوذه شراً، وأخذ يدس له الدسائس، ويوغر عليه الصدور؛ فخشي ابن كلس العاقبة، وفر إلى المغرب في شوال سنة 357 هـ، ولحق بالمعز لدين الله الخليفة الفاطمي، وهو يومئذ ينظم مشروعه لغزو مصر، فقدر المعز مواهبه وكفاياته، ووقف منه على أحوال مصر ومواطن القوة والضعف فيها؛ ولبث ابن كلس في خدمته حتى تم فتح مصر على يد جوهر الصقلي. ولما قدم المعز إلى مصر بأهله وأمواله وجيوشه في رمضان سنة 362 هـ، قدم معه ابن كلس، وقلده المعز شؤون الخراج والأموال والحسبة والأحباس وسائر الشؤون المالية الأخرى، فأبدى في إدارتها وتنظيمها براعة وزاد الدخل زيادة واضحة، ثم عهد إليه المعز بشؤون الخاص؛ ولما توفي المعز بعد ذلك بقليل في ربيع الآخر سنة 365 هـ فوض العزيز بالله ولد المعز وخليفته إلى ابن كلس النظر في سائر أموره ثم لقبه بالوزير الأجل؛ ووقعت في حقه وشايات من بعض خصومه فاعتقله العزيز بالقصر بضعة أشهر، ثم أطلقه ورده إلى مناصبه؛ وتضاعفت منزلته لدى العزيز وغدا أقوى رجل في الدولة؛ وبذل ابن كلس جهوداً عظيمة في تنظيم الإدارة والدواوين، وكان من أكبر بناة الدولة الفاطمية بمصر وموطدي دعائمها ونفوذها.

وليس غريباً أن يحرز رجل مثل ابن كلس تلك المكانة الرفيعة في ظل الدولة الفاطمية مع أنه يهودي الأصل والنشأة؛ فقد كانت الخلافة الفاطمية تصطنع الذميين والصقالبة، وتولهم ثقتها؛ وقد ولى وزارتها فيما بعد، في عصر الحاكم بأمر الله، وزراء يهود ونصارى خلص مثل ابن رسوين، وابن فهد، وعيسى ابن نسطورس، وابن عبدون؛ وتولى بعد هؤلاء كثيرون في عهود مختلفة؛ ونستطيع أن نفهم سر ما كانت توليه الخلافة الفاطمية لوزرائها الذميين من العطف والثقة إذا ذكرنا أنها تتهم من بعض خصومها بالانتماء إلى أصل يهودي، وإنها كانت تتهم في عقائدها.

ولم يكن ابن كلس وزيراً وسياسياً عظيما فقط، بل كان عالماً وأديباً كبيراً أيضاً، وكان يعقد بداره مجالس علمية وأدبية دورية ينتظم في سلكها أكابر الفقهاء والأدباء والشعراء؛ وكان يشرف بنفسه على هذه المجالس، ويشترك في أعمالها، ويغدق العطاء على روادها. وقد أخذ ابن كلس بقسط حسن في التأليف والكتابة، فوضع كتاباً في القراءات، وكتاباً في الفقه، وكتاباً في آداب رسول الله، وكتاباً في علم الأبدان والصحة، ومختصراً في فقه الشيعة مما سمعه من المعز لدين الله، وهو المعروف بالرسالة الوزيرية. وكان يقرأ كتبه على الناس تارة بالجامع الأزهر وتارة بداره، ويجتمع لديه الكتاب والنحاة والشعراء فيناظرهم ويصلهم؛ وكانت موائده دائماً منصوبة معدة للوافدين؛ وكان كثير الصلات والإحسان، وبالجملة فقد كان هذا الوزير والعالم الأديب مفخرة في جبين عصره، وقد أشاد شعراء العصر بجلاله وجوده، ومن ذلك ما قاله أحدهم حين أصابت الوزير علة في يده:

يد الوزير هي الدنيا فان ألمت ... رأيت في كل شيء ذلك الألما

تأمل الملك وانظر فرط علته ... من أجله واسأل القرطاس والقلما

ومرض ابن كلس في شوال سنة 380 هـ، فجزع عليه العزيز أيما جزع، ولبث يعوده ويرعاه، حتى توفي في الخامس من ذي الحجة؛ فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتجهيزه تجهيز الأمراء والملوك، وخرج من القصر إلى داره في موكب صامت محزن، وشهد تجهيزه وصلى عليه بنفسه، ووقف حتى تم دفنه وهو يبكي بدمع غزير، واحتجب في داره ثلاثاً لا يأكل على مائدته والحزن يشمل الخاص والقصر كله؛ وأفاض الشعراء في رثاء الوزير الراحل ومديحه، فوصلهم العزيز جميعاً؛ وعلى الجملة فقد سما ابن كلس في ظل الدولة الفاطمية إلى أرفع مكانة، وترك بوفاته فيها أعظم فراغ، وكان له أعظم الأثر في توطيد حكمها وإدارتها بمصر.

- 3 -

هكذا كانت حياة ذلك الوزير الخطير الذي يدين إليه الأزهر بأول خطوة عملية حقيقية في سبيل الحياة الجامعية؛ ومن المحقق أن تلك الخطوة الأولى في ترتيب الأساتذة والدروس بالأزهر بطريقة منظمة مستقرة، كان لها أثر كبير في تطور الغاية التي علقتها الخلافة الفاطمية بادئ ذي بدء على إنشاء الجامع الأزهر؛ فقد كانت هذه الغاية كما رأينا أن يكون المسجد الجامع الجديد رمز الخلافة الجديدة ومنبرا لدعوتها؛ ولكن يلوح لنا أن الخلافة الفاطمية لم تكن ترمي في المبدأ إلى توجيه الأزهر إلى تلك الناحية الجامعية؛ ذلك لأن الجامعة الفاطمية الحقيقية أقيمت بعد ذلك في عصر الحاكم بأمر الله باسم دار الحكمة أو دار العلم الشهيرة في سنة 395 هـ (سنة 1005 م)؛ ولكن الأزهر كان يومئذ بفعل الظروف والتطورات التي أشرنا إليها قد بدأ حياته الجامعية؛ ومع أن دار الحكمة لبثت مدى حين تنافس الأزهر وتستأثر دونه بالدراسة المتصلة المنظمة، فإنها لم تنبث لصرامة نظمها وإغراق برامجها في الشؤون المذهبية، أن اضطربت أحوالها وضعف نفوذها العلمي؛ هذا بينما كان الأزهر يسير في سبيل حياته الجامعية الوليدة بخطى بطيئة ولكن محققة، ويسير في نفس الوقت إلى التحرر من أغلال تلك الصبغة المذهبية العميقة التي كادت في البداية أن تقضي على مصايره الجامعية الصحيحة.

ونحن نعرف أن هناك مشروعاً للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر - وهو عيد يقع بعد نحو أربعة أعوام - ونعرف أن من مظاهر ذلك الاحتفاء بتلك الذكرى الجليلة أن يكتب تاريخ حافل للجامع الأزهر منذ إنشائه إلى يومنا؛ فمن حق الوزير العالم ابن كلس أن يتبوأ في ذلك التاريخ مقاماً يجدر بفضله في وضع الحجر الأول في صرح تلك الجامعة الكبرى.

محمد عبد الله عنان