مجلة الرسالة/العدد 137/القفاز

مجلة الرسالة/العدد 137/القفاز

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 02 - 1936



بقلم حسين شوقي

(س) عنده الصفات التي تكفل عادة للمرء النجاح في ميدان الحياة: الذكاء والشباب وحسن المنظر. . ولكنه خجول لسوء الحظ إلى حد بعيد، وقد أفسد عليه خجله أموراً كثيرة وعاق مستقبله، إذ أن س لا يعمل غير عمل متواضع، في محل تجاري متواضع. .

ماذا يفعل (س) في خجله؟ ماذا؟ لماذا عالج هؤلاء الإغريق الحكماء الفهاهة بوضع قطع من الحجر في الفم ولم يفكروا في معالجة الخجل؟. .

وإذا كان خجل (س) عاق مستقبله المادي، فإنه كان اشد عليه ضرراً في ميدان العاطفة. . إذ انه برغم كونه في ريعان الصبا لم يعرف الحب بعد. . أو على الأصح لم يتصل بفتاة ما. . مع انه تواقاً بشدة إلى الحب. . كم خفق قلبه في (السينما) عندما يتلاقى المحبان على الشاشة بعد فراق طويل!. وكان إذا عاد إلى منزله بعد مشاهدة مثل هذه المناظر الغرامية، يرتمي إلى المخدة ليدفن فيها حزنه وألمه، ويأخذ في البكاء الشديد. . لم يجد (س) في حياته الجرأة لمغازلة الفتيات، حقيقة إن بعضهن غازلنه، ولكن س لم يكترث لهن، لأنهن كن يتفاوتن في الدمامة، و (س) لا ينظر إلا إلى الجمال، لان الحب في نظره أمر سماوي مقدس. . وكثيراً ما كان يذهب إلى المتنزه العمومي، حيث كان يأمل التعرف بسهولة إلى حبيبة القلب المرتقبة. . فهناك ربما تنسى فتاة منديلها، (أو حقيبة يدها) على أحد المقاعد، فيلتقطه ويقدمه لها، فتتم بهذه السهولة المعرفة بينهما. .

يا للعجب! هاهي أمنية (س) تتحقق، لان المقادير التي تضن علينا بكسب سباق (الدربي)، لاتضنّ علينا بتحقيق أمانينا المتواضعة. .

إليك كيف تحققت أمنية (س):

شاهد (س) ذات يوم سيدة رائعة الجمال (كما تخيلها في أحلامه) تجلس في المتنزه على أحد المقاعد وهي تقرأ كتاباً في يدها باهتمام شديد، فجلس (س) حيالها على مقعد يترقّب فرصة التعرف إليها. . ثم لم يمض زمن طويل على هذا، حتى نهضت السيدة من مكانها ونسيت حقيبة يدها على المقعد (كما تمنى س) فنهض من فوره ليلتقط الحقيبة ويقدمها إليها، ولكن قدوم شرطي في هذه الأثناء أفسد عليه الأمر إذ خشي س إن يحسبه الشرطي لصاً. . وكان من حظ الشرطي تقديم الحقيبة لها، وقد شكرته السيدة بابتسامة ساحرة وانصرفت. .

مسكين (س)، كم كان مغتماً لخروجه من المتنزه في ذلك اليوم!. .

ولكنه لم ييأس، فعاد في اليوم التالي إلى الحديقة في المكان نفسه، عساه يجدها هناك مرة أخرى، فإذا بالسيدة الحسناء جالسة على المقعد نفسه تقرأ!. . وكان من حسن حظه إن السيدة نسيت في هذه المرة أيضاً حقيبتها على المقعد، لدى انصرافها، فالتقطها وهرع فقدمها إليها، قائلا في تردد شديد:

- إنها المرة الثانية التي تنسين فيها حقيبتك يا سيدتي!

- هذا حقيقي! ولكن كيف عرفت ذلك؟

- كنت هنا بالأمس عندما فقدتها، لقد هممتُ وقتئذ بالتقاطها وإعادتها إليك، ولكن قدوم الشرطي أفسد عليّ الأمر فقد خشيت أن يظنني سارقاً. .

فضحكت السيدة عندئذ ضحكة عالية لسذاجة الشاب وبساطته. . ثم أذنت له في مرافقتها في السير، كما تولت إدارة الحديث بعدما رأته على هذه الحال من الخجل:

- إني لا بد أن أنسى شيئاً عندما أقرأ كتاباً. .

- إن ما تقرئينه لا بد أن يكون ممتعاً جداً حتى ينسيك حقيبتك يومين متواليين. .

- هي رواية بوليسية. . إني شديدة التعلق بالروايات البوليسية لأن حبك الدسائس يتطلب ذكاء نادراً. .

كم أسف (س) عندئذ لعدم قراءته قصصاً بوليسية، ولقد بدا عليه الآسف واضحاً. .

قالت - ربما كان المشي يتعبك؟

- أبداً!

يا لسذاجتها! إن (س) ليصعد معها جبال الهملايا عن طيب خاطر!

- إني مضطرة إلى المشي كل يوم. . لمعالجة الأملاح. . .

تذكر (س) عندئذ اسم دواء للأملاح كان أوصى به طبيب لأخته فصاح قائلا:

- هناك دواء نافع للأملاح أسمه. . . .

ولكنها قاطعته في سحرية: - دواء؟ صدقني ليس هناك ما هو خير من المشي. . .

وبعد أن تنزها نصف ساعة وصلا إلى باب الخروج فاستأذنت وانصرفت بعد أن وعدته بالحضور إلى الحديقة في اليوم التالي للتريض. . .

كم كان سعيداً في ذلك اليوم! هاهي ذي أحلامه تتحقق! إن جمال هذه السيدة هو أسمى ما يطمح إليه! أما هي، فقد شعرت من فورها (باستلطاف) نحو هذا الشاب الساذج الخجول، لأنها لم تشاهد حولها في وسطها الراقي (إذ كانت من طبقة الأشراف) غير رجال أشبه بالطيور الجارحة. .

وفي اليوم التالي بكر في الذهاب إلى الحديقة، حيث التقى بسيدة أحلامه، وقد تروضا هذه المرة ساعة بدل من نصف ساعة. . .

ثم تقابلا في الأيام التالية. . .

وكانت هذه السيدة الحسناء تلبس دائماً قفازاً أسود طويلاً، ودّ (س). لو نزعته حتى يستطيع أن يطبع قبلة على يديها المحبوبتين. . .

وكان كلما طلب منها ذلك رفضت في لطف. .

وقد ألح يوما عليها فقالت:

- سوف تندم يا عزيزي لو نزعت قفازي. . .

- هل تعنين إن يدك غير جميلة؟

- أجل إن يدي اليمنى بها ست أصابع. . .

- إذن الثم اليد اليسرى

- اليد اليسرى ينقصها إصبع. . .

- فليكن ذلك

- أقول لك إنك سوف تندم

ولكنه ألح إلحاحاً شديداً اضطرت السيدة إزاءه أن تخلع القفاز، ولكنه بدلاً من أن يلثم يدها التي نزعت عنها القفاز، صرخ صرخة مؤلمة ثم سقط مغشياً عليه إذ لمح في يدها خاتم الخطوبة. . .

حسين شوقي