مجلة الرسالة/العدد 14/التجديد في الأدب

مجلة الرسالة/العدد 14/التجديد في الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 08 - 1933



للأستاذ أحمد أمين

(4)

الشعر

من قديم حاول الأدباء والنقاد أن يضعوا تعريفا للشعر فاختلفت تعاريفهم لاختلاف أنظارهم، ولأن كلمة الشعر استعملت في معاني مختلفة، فكان كل أديب يعرفه حسب نظره، وحسب المعنى الذي يرمي إليه، وكان سواء في ذلك أدباء العرب والإفرنج.

ذلك أن الشعر (على العموم) يتكون من عنصرين أساسين وهما الوزن والقافية أولاً، وإثارة المشاعر ثانيا، فإذا فقد الكلام عنصرا من هذه العنصرين لم يصح أن يسمى شعرا، غير أن بعض العلماء طغى عليه النظر إلى عنصر الوزن فعرفه تعريفا أفقده روحه، فقالوا أن (الشعر هو الكلام الموزون المقفى) ومثله قول بعض الفرنج (أي كلام موزون يسمى شعرا سواء أكان جيدا أم رديئا) وعلى هذا التعريف فألفية ابن مالك شعر، وقواعد الحساب المنظومة شعر، والمتون الفقهية المنظومة شعر، كما أن بعض العلماء طغى عليه النظر إلى روح الشعر ومعناه فعرفوه تعريفا أفقده موسيقاه، كالذي قال بعضهم (الشعر فيضان من شعور قوي نبع من عواطف تجمعت في هدوء) ومثله قول رسكن: (الشعر إبراز العواطف النبيلة من طريق الخيال) وهو تعريف يصح أن يكون للأدب كله نثره وشعره بل للفن جميعه من أدب ونحت وتصوير وموسيقى.

وابن خلدون نقد التعريف بأنه الكلام الموزون المقفى وقال انه اصبح تعريفا عند العروضيين لا يصح عند البلاغيين ثم اختار أن يعرفه (بأنه الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله الجاري على أساليب مخصوصة. وعيب هذا التعريف انه ممل وانه لم يلتفت إلى مزية الشعر وروحه وهو إثارة المشاعر واستقلال كل جزء منه في غرضه ومقصده ليس من العناصر الأساسية التي يصح أن تدخل في التعريف.

فلو قلنا إن الشعر هو الكلام الموزون المقفى المنبعث عن عاطفة والمثير لعاطفة كان تعريفا أقرب إلى الصواب.

فإذا وجدت نوعا من الأدب يجمع الوزن والاتصال بالمشاعر فسمه شعرا وإلا فلا.

والشعر يثير المشاعر بما فيه من خصائص (فأولاً) بأوزانه وقوافيه ولذلك كان المعنى الواحد إذا قيل مرة شعراً ومرة نثرا كان في الشعر أقوى أثرا (وثانيا) بلغته فللشعر لغة غير لغة النثر ولسنا نعني بلغة الشعر الكلمات الغريبة أو أنواع البديع أو نحو ذلك فقد يكون الشعر في منتهى الرقي وكلماته في منتهى السهولة وهو كذلك خلو من كل أنواع البديع إنما الذي نعينه أن للشاعر ملكة لا يمكن أن نوضحها تمام الوضوح، بها يستطيع أن يتخير من ألفاظ اللغة ما يرى أنها ابعث للمشاعر. وهو كذلك يضعها في قوالب يتخيرها من القوالب العديدة والتراكيب اللغوية المختلفة، وهذا هو ما يجعل الشاعر شاعرا فقد يكون عندنا شعور فياض كالشعور الذي عند الشاعر أو أغزر منه ولكن ليس لنا هذه القدرة على الإفصاح واختيار الألفاظ والقوالب والتراكيب ومن ثم كان من المستحيل ترجمة الشعر إلى شعر لأن الترجمة لا ترينا ما للشاعر من قدرة فنية على اختيار الألفاظ والأساليب، والذي نترجمه هو المعنى الذي حواه الشعر وما فيه من تصوير وخيال. ويعد المترجم أمينا إذا هو استطاع أن ينقل هذا، أما طريقة الأداء فلا يمكن ترجمتها. نعم إن بعض الشعراء قد يقرأ القطعة من الشعر ويكون له قدرة فنية فيصوغ هو شعراً مستمدا من وحي ما قرأ وقد يجري مع الأول في واد واحد وتكون له عذوبة ما للأول ولكن ليس هذا ترجمة على الإطلاق.

كذلك يثير الشاعر الشعور بما عنده من لطف النظر أو الإلهام أو اللقانة أو ما شئت فسمه، فللشاعر روح غامض طبع عليه لا يكتسب بتعلم، به ينظر إلى الأشياء نظرا خاصا وبه يبعث الشعور عند السامع. ولعل هذا هو الذي جعل شعراء العرب يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا ينفث فيه الشعر. ولأمر ما خلط العرب فسموا النبي شاعراً أحيانا وكاهناً أحيانا (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذَكَّرون) وللشاعر نظر باطن للحياة يغوص فيها ويستخرج معانيها ويعرضها في شعره، ولأن الشعر هو معنى الحياة كان شعر كل عصر مرآة له. وقديما قالوا: (الشعر ديوان العرب) والحق انه ديوان الأمم تسجل فيه حياتها وأفكارها ومشاعرها. فالشاعر يعطينا صورة روحية حية أكثر مما يعطينا إياها التاريخ. والشعراء عادة في مقدمة قومهم شعوراً وشعرهم إيذان بالفلسفة وإرهاص لها، فهم يلهمون الشيء إلهاما غامضا ثم يتضح ما أُلهموا به على مر الأزمان وتأتي الفلسفة بعد فتشرح وتحلل وتدلل.

أما الوزن في الشعر فهو موسيقاه وله قيمة كبرى في الشعر حتى عُد أهم فارق بينه وبين النثر، والشعر يحلو بالموسيقى الجيدة ويضعف شأنه إذا ساءت موسيقاه. وارتباط الشعر بالموسيقى أشد من ارتباط الفنون الأخرى كالنقش والتصوير حتى كان الرومان يقولون: (إن الشعراء ليسوا إلا مغنين يترنمون بشعرهم ويغنون به لأنفسهم ولمن شاء أن يردده بعدهم).

ومن أنواع الشبه بين الموسيقى والشعر ما لاحظه بعضهم من أن كلا منهما يتنوع أنواعا متماثلة. فالصوت يختلف عن الصوت من نواح أربعة:

(1) من ناحية الطول والقصر (2) والغلظة والرقة (3) والارتفاع والانخفاض (4) ومن ناحية مصدر الصوت كعود أو قانون.

وهذه النواحي الأربعة يمكن أن نراعيها في الشعر، فمن النوع الاول اختلاف التفاعيل طولا وقصراً فالرجز أقصر في التفاعيل من الطويل وهكذا. ولهذا الاختلاف تأثير كبير في الأذن الموسيقية.

كذلك نرى في الشعر ما يتناسب مع الشدة والضعف والغلظة والرقة. فالشعر قد يناسبه (أحياناً) حروف وكلمات ضخمة قوية وقد يناسبه حروف وكلمات لينة رخوة كالذي قالوا في قوله:

ألا أيها النوام ويحكموا هبّوا ... أسائلكم هل يقتل الرجل الحب؟

فالشطر الاول قوي شديد والثاني رخو ناعم

وفي الشعر ما يناسبه الهدوء والدقة كشعر الغزل، ومنه ما يناسبه الشدة والبطش، ويناسبه إنشاده في قوة وجلبة كشعر الحماسة. ونلاحظ في الموسيقى إن النغمة الواحدة إذا وقعت على الكمنجة ثم وقعت بعينها على البيانة كانت النغمتان مختلفتين تأثيرا، وهذا يقابله في الشعر القافية فالقصيدة على قافية قد يكون لها أثر لا يكون إذا قيلت على قافية أخرى وهكذا.

والشعر أقل تقدما وأبطأ خطى من النثر سواء في ذلك اللغة العربية وغيرها من اللغات، وسبب ذلك على ما يظهر أن الشعر لغة العواطف والنثر لغة العقل، والمشاعر والعواطف قليلة التغير بطيئة الرقي، وما حدث فيها من تغير فأكثره تغير في الشكل لا في الموضوع، أما العقل فراق أبدا وثاب في الرقيّْ ومظهر ذلك الرقي العلمي الذي نحسه من سنة إلى أخرى. ولأن الشعر تعبير شخصي وأعني بذلك أن الشاعر يعرض علينا في شعره مشاعره ونظراته إلى الحياة وإحساسه بها أما الناثر فعالمي إنساني يعرض الشيء كما هو لا كما يرى. تحس في الشعر دائما بالشاعر يحدثك عن نفسه وتحس في النثر بعقل يخاطب عقلك، وان شعرت بالناثر فمن وراء حجاب ومن أجل هذا خضع النثر للمنطق ولم يخضع له الشعر، ترى في الشعر غالبا مبالغة لا يرضاها المنطق وتناقضا لا يقره المنطق وتحكما في الحكم لا يؤيده المنطق، وتخبطا وهراء يغتفرهما العقل في الشعر ولا يغتفرهما في النثر. وهذه الظاهرة وهي سير النثر إلى الأمام في سرعة وقفز وسير الشعر في بطء وتمهل هي التي جعلتنا نتذوق الشعر العربي في العصر العباسي وما بعده أكثر مما نتذوق النثر في ذلك العصر، لأن الصلة بين نثرنا والنثر القديم صلة ضعيفة قد خالفناها كل المخالفة ولم يبق منها إلا أساس التركيب الذي تقتضيه طبيعة اللغة، بل أن مسافة الخلف بين نثرنا والنثر من عشرين سنة بعيدة كل البعد، وعلى العكس من ذلك الشعر فالفرق بين الشعر القديم والحديث قليل تافه، ومع هذا فالشعر يجب أن يخضع لسنة النشوء والارتقاء ويجب أن يتقدم ويجاري الزمان كما حدث في الشعر الغربي. يجب أن يتقدم الشعر في كل من عنصريه عنصر الوزن وعنصر المعنى، ففي الوزن نرى إن العرب في الجاهلية صبت شعرها في ستة عشر بحرا وكان خضوعها لهذه البحور لا لأنها حصرت كل ما يمكن أن يكون ولكن ابتكروا أولاً بحرا أو بحرين ثم جاء الخلف فزادوا هذه البحور شيئا فشيئا لا يهديهم في الابتكار إلا الأذن الموسيقية: وهم لا عيب عليهم في ذلك ولكن العيب عيب من أتى بعدهم فقد سوّا هذه البحور ولم يشاءوا أن يخرجوا عنها قيد شعرة وقد تحكم العلماء والأدباء في أذواق الناس فأبوا عليهم أن يقولوا في غيرها أو أن يشذوا ولو قليلا عنها. وهو تقديس في غير محله لأن أوزان الشعر كما قلنا هي موسيقاه، وكما تطورت الموسيقى في العصور واخترعت نغمات وولد من القديم نغمات جديدة، وكانت موسيقى العصر العباسي غير موسيقى العصر الأموي، وهما غير موسيقى الجاهلية، كان واجبا أن يغير الشعراء موسيقى الشعر ولا يقفوا عند الحد الذي رسمه الجاهليون، وعجيب أن نسمح في عصرنا للموسيقى الشرقية أن تطعم بالموسيقى الغربية ونهيئ آلاتنا للتوقيع عليها بهذه النغمات الجديدة، ونهيئ آذاننا لسماعها ثم لا نفعل ذلك في الشعر! نعم أخذ بعض الناس يتحللون من قيود البحور والقوافي الجاهلية كما فعل الأندلسيون بالموشحات وما إليها، ولكن وقف من بعدهم على اختراعهم ولم يسيروا على سننهم في التقدم. يجب أن يتحرر نوابغ الشعراء من هذه القيود ويشعروا بما يحسون ويوقعوا على النغمة التي يرتضون وليس الحكم بيننا وبينهم هو البحور الستة عشر ولكن الحكم هو الأذن الموسيقية، والأذن الموسيقية وحدها. وكما نرجع في كل فن إلى الخبيرين نستفتيهم ونحتكم إليهم فكذلك في هذا الضرب يجب أن نحتكم إلى من رقت أذنهم الموسيقية وأذواقهم الفنية وليس في هذا ضير على ثروتنا القديمة في الشعر فإنا باختراعنا بحورا وأوزاناً نزيد في ثروتنا إلى ثروتهم، كما نزيد في موسيقانا إلى موسيقاهم، وفي علمنا إلى علمهم.

أما من حيث الموضوع ومعاني الشعر فمجال القول فيه أوسع، وتقصير الشعراء فيه أبين ولئن كانت تعد الشعر ديونها تسجل فيه نزعاتها وآمالها وحياتها فأنا أخشى أن يكون الشعر العربي سجلا ناقصاً لم يدون فيه إلا وقائع قليلة من نزعات كثيرة، وصفحات ضئيلة من حياة حافلة مركبه معقدة. لقد دون الشعر كثيرا من وقائع المديح والرثاء والغزل والخمريات وما إليها وهذا حسن، وهو ضرب من الشعر لابد منه، ولكن ليس هذا كل مشاعرنا ولا أكثرها لقد مررت في هذا العام على تلاميذ مدارس ثانوية خارجين من لعب الكرة فسمعت بعضهم يصيح (يا محني ديل العصفورة، ومدرستنا هي المنصورة) فجرت من عيني دمعة على ما نحن فيه من ضعة وانحطاط وقلت أين الشعراء يضعون الأناشيد تجاري نفسية الطلبة، وترقي من مشاعرهم وتزيد في روحهم حماسة وقوة وتميز الطبقة المتعلمة من طبقة العامة وأمثالهم؟ وأتى كشّافة العراق ينشدون الأناشيد المختلفة في المناسبات المختلفة، فلم يجد كشافة مصر ما يجيبونهم به ويساجلونهم فيه إلا هراء من الكلام وسخفا من الغناء، ثم أين الشعراء يضعون أغاني للشعب وأغاني للمتعلمين تناسب حياتهم وموقفهم الاجتماعي؟ نعم تنبه بعض الشعراء لهذا ووضعوا أغاني أرقى ممن وضع من قبلهم ولكن أكثرها بكاءً وحنين وذوبان وهي من الأدب الذي سميته أدباً مائعاً، والذي لا يصح لأمة ناهضة أن تقتصر عليه، بل أين شعراء الشرق الذين تغنوا بما حوته طبيعة بلادهم من جمال إبداع فرقوا ذوق شعوبهم وأشعروهم بجمال الطبيعة، وغذوا عواطفهم وعودوهم تقدير الجمال والهيام به؟ لقد قصر شعراء العرب قديما وحديثا في هذا الباب فلا نعثر منه في الأدب العربي إلا على قليل، وهذا القليل لا يكفينا الآن ولا يسد رغباتنا لأن شعر الطبيعة قد رقِّيَ عند الأمم وأصبح مؤسس على شيئين لابد منهما وهما علم بالطبيعة ومعرفة بقوانينها، وحب للطبيعة وهيام بها ثم صياغة ذلك كله في قول ساحر جذاب.

وهذا الضرب من الشعر قطع فيه المحدثون من الغربيين شوطا بعيدا وسبقوا فيه من قبلهم بمراحل طويلة (وبعد هذا كله) أين الشعر الاجتماعي العربي الذي يساير نزعات أمم الشرق ومطامعها وآمالها في الحياة؟ إن أمم الشرق تنزع إلى الحرية وتأمل أن تتبوَّأْ في العلم الإنساني المكان اللائق بها، وتنشد ضروبا من الإصلاح الاجتماعي ترى الحاجة ماسة إليه وكلها مجال فسيح للشعر يلهب حماستها ويقوي إيمانها ويهديها سبل الحياة. فأين الشعراء الذين وقفوا هذه المواقف وقادوها قيادة صالحة؟ إن عواطف الأمم الشرقية ساغبة تنتظر من يغذيها ولا تجده. الحق أن أدباء النثر قد أدوا رسالتهم خيراً مما أداها أدباء الشعر، وفي كل من الفريقين تقصير؟