مجلة الرسالة/العدد 14/لغو الصيف

مجلة الرسالة/العدد 14/لغو الصيف

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 08 - 1933



للدكتور طه حسين

سمعت طرقا خفيفا فرفعت رأسها وصوتها آذنة بالدخول، ومدت عينها إلى الباب فلما فتح لم يرعها إلا صديقها الأديب يسعى إليها مشرق الوجه باسم الثغر مبسوط اليد مرتبكا مع ذلك شديد الحياء. قالت وقد غشي وجهها احمرار رقيق زاده جمالا وحبا إلى النفوس، مصدره الدهش لهذا المقدم غير المنتظر، أو مصدره زيه المهمل وثوبها الذي لبسته لنفسها لا للناس ولم تكن تقدر إن الطارق أحد غير الخادم التي تعودت ان تطرق عليها الباب في رفق إذا كانت الساعة الخامسة من كل يوم لتحمل إليها الشاي، فلما رأت صديقها ارتاعت لمرآه، وقالت في دهش وخجل واضطراب: (أنت من أين أقبلت؟ انجمت من الأرض أم هبطت من السماء؟) قال ولم يكن اقل منها ارتباكا واضطرابا: نعم أنا أقبلت من حيث تريدين ولكن لي إليك حاجة يا آنسة أعرضها عليكِ قبل التحية، وأتمنى لو تجيبينني إليها قبل السؤال والجواب، فسيكون السؤال طويلا دقيقا، وسيكون الجواب ملتويا مرتبكاً، ولكن حاجتي يسيرة فاسمعيها مني واقضيها لي، ثم لنأخذ بعد ذلك فيما تحبين، قالت وقد أخذت تثوب إلى نفسها وإلى ثوبها: من أين أقبلت؟ وكيف أراك في نيس وقد تركتك في القاهرة على انك ستقضي فيها الصيف؟ قال ثقي يا آنسة إني قد سمعت سؤالك ووعيته ووعيت ما يحيط به من عجب وإنكار أني سأجيب وسأحاول أن أزيل هذا العجب وأمحو هذا الإنكار ولكن حاجتي اسمعيها واقضيها قبل كل شئ. قالت لا قبل أن نجلس، ثم عادت إلى كرسيها وقد حولته شيئا عن المائدة وأشارت إليه أن اتخذ هذا الكرسي وأخذت تجمع صحفاً كانت منثورة على المائدة، ثم قالت مبتسمة: وما عسى أن تكون هذه الحاجة التي تقدمها بين يدي تحيتك، وقد بعد العهد بينك وبيني والتقينا من وراء البحر، فقد تركتك منذ أسبوعين، قال بل منذ عشرة أيام إن لم أخطئ الإحصاء، فقد زرتك قبيل السفر. . . فقطعت عليه الحديث قائلة نعم، قد ذكرت فهات حاجتك فإني لم أتعود أن انتظر تحيتك وعبثك كل هذا الوقت الطويل؛ قال حاجتي يسيرة وهي إلا تلومني ربة الدار، فقد مكرت بها واحتلت عليها، وما زلت أخدعها عنك وعني حتى تركتني أطرق الباب وأدخل عليك في غير استئذان سابق. فأغرقت في الضحك حتى استلقت إلى كرسيها وهي تقول: إنها لحاجة عسيرة، لست أدر كيف أقدر على إرضائها وقد أذنت لك فيما كنت تريد وطرقت الباب وفاجأتني بغير إذن سابق مني بذلك، وفيم كان كل هذا المكر، وفيم كان كل هذا الاحتيال؟ ومتى استباح أمثالك أن يفاجئوا أمثالي على هذا النحو، وفي مثل هذا الوقت من النهار؟ هنالك اشتد ارتباكه حتى بلغ الاضطراب أو كاد يبلغه، فلم يكن يقدر أنها ستلقاه هذا اللقاء ولا إنها ستنكر هذه المفاجأة، ولعله كان يظن بل كان يوقن أن سرورها بلقائه سيكون أشد من حاجتها إلى الاستطلاع، وسيكون أشد من إنكارها بهذه المفاجأة فلما رأى منها هذا الإلحاح في السؤال والتشدد في النكير فقد ما كان يملك من الأسباب، واختلط عليه الأمر فلم يدرِ ماذا يصنع ولم يعرف كيف يقول. ولو انه كان على شئ من البصر بصاحبته والعلم بدخيلة نفسها لرأى انه لم يكن مخطئاً حين قدر أنها ستبتهج بلقائه ولكنه كان شديد الذكاء قوي الفطنة واسع الحيلة ما بعد عن النساء وعن صاحبته هذه خاصة، فإذا لقي واحدة منهن أو لقي صاحبته هذه فهو رجل ساذج أول الأمر، لا حظ له من ذكاء ولا من فطنة، ولا قدرة له على ثبات أو فهم، حتى إذا اتصل الحديث وتنوع استرد ملكاته قليلا حتى يعود كدأبه في الحياة العادية، ذكي القلب قوي الفطنة متصرفا في ألوان الحديث. فلما رأت ارتباكه واختلاط الأمر عليه واضطراب لسانه في فمه دون أن يبلغ الإفصاح عما كان يريد، رقت له وأخرجته من حيرته بإجابته إلى ما كان يريد وإعلانها إليه إنها لن تلوم صاحبة الدار ولن تظهر لها سخطا ولا إنكارا.

ثم قالت: والآن حدثني من أين أقبلت وكيف أراك هنا اليوم، وقد تركتك في القاهرة منذ عشرة أيام؟ أنجمت من الأرض أم نزلت من السماء؟ قال إن عشرة أيام تكفي لقطع الأمد من القاهرة إلى الإسكندرية ولعبور البحر إلى مرسيليا (وطولون) ولبلوغ مدينة نيس حيث تقيمين قبل أن تستأنفي السفر إلى تلك المدينة الصغيرة الجامعية من مدن فرنسا الوسطى لتسمعي دروس الصيف. قالت فأني لا اشك أن عشرة أيام تكفي لهذا كله ولا اكثر من هذا كله ولكن تركتك في القاهرة غضبان أسفا لأنك ستقضي الصيف حيث لم تكن تعودت أن تقضيه، ولعلك تذكر انك كنت تحسدني وتسرف في الحسد على هذه الرحلة الجامعية التي كنت أزمعتها ولعلك تذكر انك ما زلت تصور لي حزنك ويأسك حتى رحمتك وأشفقت عليك، فكيف استطعت أن تفارق القاهرة وترحل عن مصر تظفر بزيارة باريس؟ فأنت ذاهب إلى باريس من غير شك، قال نعم أنا ذاهب إلى باريس، وماذا تكون فرنسا بدون باريس وبدون الحي اللاتيني ومونبارناس ومونمارتر؟ وقد زعموا أن الحركة الأدبية والفنية قد أخذت تنتقل الآن من مونبارناس إلى. . . قالت حسبك قد علمت هذا كله وعرفت رأيك فيه وسنعود إليه ولكن كيف تركت القاهرة؟ وكيف أتيت إلى باريس؟ قال وأي شئ أيسر من ذلك يا آنسة؟ إنما يستغرب هذا من رجل كانت تمسكه الأزمة في مصر ويعجز أجر السفينة أو نفقات الإقامة في فرنسا، فهذا الرجل إذا أتيح له السفر بعد امتناعه عليه يمكن أن يسأل أنّى لك هذا في مثل هذه الأيام الشداد. فأما إذا كان الذي يحول بين الرجل وبين السفر إرادة وزير من الوزراء أو عناد رئيس من الرؤساء فما أيسر أن يريد الوزير وقد كان لا يريد، وما أسهل أن يلين الرئيس وقد كان متأبيا عنيدا، وهذه قصتي فما زلت برئيسي حتى رق لي وما زلت بوزيري حتى عطف عليّْ. قالت صنع الله للرئيس وللوزير معا فلولا ظرف أحدهما وعطف الآخر لما أتيح لك أن ترى باريس.

قال بل لما أتيح لي أن أسعد بلقائك في نيس وأن اسعد باصطحابك ساعة أو ساعات على ساحل البحر، هذا الساحل الجميل الهادئ القوي معا حيث نستطيع أن نرى البحر والجبل وقد دنا كلاهما من صاحبه في مودة وألفة وحيث نستطيع أن نرى الطبيعة الحرة القوية والحضارة البديعة المترفة وهذه القصور الشاهقة تشرف على البحر وتشرف عليها الجبال، وحيث نستطيع أن ننشد قصيدة بودلير هذه القصيدة الرائعة التي كنت تغنينها في القاهرة أجمل غناء، أتذكرين؟

لقد عشت دهرا طويلا تحت أروقة واسعة تضيفها شمس البحر، قالت نعم كل هذا أذكره، وكل هذا افهمه وكل هذا لا تفسير له إلا انك قد رجعت إلى صوابك واسترددت قواك موفورا واستأنفت ما ذهب من العبث والمزاح. فقد آمنت انك سعيد بلقائي وقد آمنت انك ستسعد وسأسعد معك بقضاء ساعة أو ساعات على هذا الساحل الجميل.

وقد آمنت بأن رئيسك خليق بالشكر لأنه رق لك بعد أن قسا عليك وان وزيرك حري بالثناء عليك لأنه لطف بك بعد أن كان شديدا عنيفا ولكني لن أتحدث إليك الآن ولن اسمع منك الحديث عن الجبل والبحر ولا عن الصخور والقصور، فقد يتاح لنا الحديث عن هذا كله بعد حين. إنما أحب أن أسمع منك أنباء مصر، قال أنهما لخليقان بالشكر والثناء حقا ولا سيما حين تعلمين. . . قالت لا أريد أن أعلم شيئا. قال وهو يضحك ضحكا ملئه المكر والإلحاح: بل يجب أن تعلمي لتضاعفي الشكر وتجزلي الثناء فإني لم أرحل للسياحة ولا للراحة ولا لرؤية باريس وإنما رحلت. . . قالت لأمر من أمور الدولة فستدرس شأنا من شؤون التعليم أو فنا من فنون النظام أو لونا من ألوان الإدارة أو شيئا من هذه الأشياء التي يرحل الموظفون لدرسها في أوروبا أثناء الصيف، فيسرحون ويمرحون ويلهون ويلعبون ويكتبون في آخر الصيف تقريرا يرفعونه إلى الرئيس أو إلى الوزير، فيتلقى الوزير أو الرئيس هذا التقرير ويتلقى صاحبه كلمة شكر وثناء وقد فهم الرئيس عن صاحب التقرير وفهم صاحب التقرير عن الرئيس ما يريد كل منهما أن يفهم عن صاحبه، وأؤكد لك أني أضاعف شكري لصاحبيك وثنائي عليهما؛ ولكن أرحني من حديثهما كما أرحتني من حديث البحر والجبل والساحل وعد بي إلى مصر. قال ما أشد شوقك إلى مصر وتلهفك إلى الحديث عنها! ألم تشبعي من مصر وقد أقمت فيها سنة كاملة منذ رحلتك الأخيرة؟ أمشتاقة أنت إلى مصر ولما يمض على فراقك إلا عشرة أيام؟ قالت فإني لا أريد ان تحاسبني على ما أجد أو لا أجد من الشوق إلى مصر وعلى ما أحس أو لا أحس من الضيق بمصر، وإنما أريد أن تحدثني عنها كيف تركتها؟ وكيف تركت أهلها؟ ثم مست هذا الزر الكهربائي الذي لا تخلو منه غرفة من غرف الفنادق فما أسرع ما أقبلت الخادمة فهمت أن تطلب إليها الشاي ولكنه اعترض دون ذلك وقال: ماذا تريدين أجننا حتى نتناول الشاي في غرفة مغلقة والجو صحو والماء صفو والشمس توشك أن تنحدر إلى مغربها فترسل على الجبل والبحر. . قالت حسبك فإني أستطيع أن أتم ما تريد أن تقول. قال وإذن فهلم نتناول الشاي حيث نستطيع أن نستمتع بهذا الجمال الذي لا نجده في مصر، وكان حازما ملحا، فلم تجد بدا من أن تسمع له وتستجيب لدعائه، فصرفت الخادم ونهضت فغابت عنه قليلا في غرفة مجاورة متصلة بالغرفة التي كان فيها. ثم عادت إليه وقد اتخذت زيها المنظم المنسق الذي عرفه في القاهرة، فلما رآها اطمأن إلى هذا الزي الذي كان يألفه، ولعله أسف على ذلك الزي المهمل الذي كان أعجبه والذي كان قد أخذيطمئن إليه. وما هي إلا لحظات حتى كانا يسعيان معا في هذه الطريق الجميلة على ساحل البحر تلك التي يسمونها في نيس طريق الإنجليز.

وكان طرفه حائرا بين البحر وهذه الفنادق الضخمة المشيدة، وهؤلاء الرجال والنساء الذين كانوا يذهبون ويجيئون في هذه الطريق وقد اتخذوا للرياضة والشاي زينتهما. لكنها لم تتح له الاستمتاع بهذه الحيرة، فما أسرع ما ردته إلى مصر وحديثها، وعادت تسأله عن المصريين كيف تركهم. قال ولم يخف شيئا من الضجر الباسم العابث تركتهم من خمسة أيام كما تركتهم أنت منذ عشرة أيام، وكما سيتركهم كل مسافر ويلقاهم كل عائد، وكما يترك كل رجل من الناس أي جيل من الأجيال، تركتهم قوما كراما يكرمون آبائهم وأمهاتهم، ويؤثرون أبنائهم وبناتهم، ويشفقون من الآلام، ويسرعون الى اللذات، ويكثرون القول، ويقصدون في العمل، ويفرون من الدور، ويستقرون في الأندية، ويطيلون الحوار في الأدب والسياسة، ويقرءون الصحف ويعبثون بكتابها. . . قالت ياله من سيل جامح لا يقف ولا يهدأ ولا يتئد، ولا يتخير ما يحمل، ما عن هذا أسألك، وما طلبت إليك أن تصور لي المصريين كما تراهم أنت بهذا الرأي المظلم القاتم، الذي لا يعجب بشيء ولا يرضى عن شيء، بل ينكر كل شيء، إنما سألتك. . . قال ياله من جدول هادئ متئد، عذب ظريف، لا يحمل غثاء ولا جنادل، وإنما هو صافي الصفحة نقي الأديم، كله رضى وكله ابتهاج، وكله أمل، إنما تسألينني عن الأدباء أليس هذا ما كنت تريدين، قالت هو هذا، ومتى رأيتني أتحدث إليك عن غير الأدباء؟ قال فقد تركت الأدباء في شغل شاغل وهم مقيم، يقولون فيطيلون، ويعملون فلا يبلون، وكأنهم هذا القطار الذي يهم بالحركة فيكثر فيه الضجيج والعجيج والقعقعة والاضطراب، وهو ثابت في مكانه لا يريم، لأن الله لم يأذن له بالحركة بعد، أو لأن أداة من أيسر أدواته لم يتح لها أن تشترك في العمل مع أخواتها، قالت وما ذاك؟ قال انهم يذكرون حافظاً، فقد دار العام على وفاته، ولم يصنع له أحد شيئا. فهم يلومون أنفسهم وهم يلومون غيرهم، وهم يلومون مصر كلها، يلومون الشعب لأنه قصر غير عامد، ويلومون الحكومة لأنها تعمدت التقصير، حتى إذا أسرفوا في اللوم وأعياهم الإسراف عزوا أنفسهم وعزوا الشعب الذي قصر عن غير عمد، والحكومة التي قصرت عن عمد بأن حافظا كان أديبا حقا، فلا غرابة في أن تدركه حرفة الأدب. وقد كان حافظ رحمه الله حسن الحظ، ميسرا له في الأمر بالقياس الى زميله في حرفة الأدب منذ اكثر من ألف سنة. فأنت تذكرين أنها قد أدركت ابن المعتز فانتزعته من الخلافة، ولما يقم فيها يوما ولم يكفها أن تنتزعه من الخلافة، فانتزعته من الحياة على شر الأحوال واشدها نكرا، ما حافظ فقد كان بائسا في حياته لم يعرف النعيم، والبؤس أيسر من الخلع، والبؤس الدائم أيسر من البؤس الطارئ، بعد طول النعمة وحسن الحال، وقد مات حافظ على فراشه، والموت الهادئ أيسر من الموت العنيف، وحافظ بائس بعد موته لم يجتمع له الناس، ولم تمتلئله الأوبرا، ولم تلق فيه الخطب المدبجة. ولا القصائد المنمقة. وقبر حافظ مجهول أو كالمجهول ولكن هذا البؤس كله ليس شيئا بالقياس الى بؤس آخر أشد وأمض، وهو هذا الثناء المتكلف، وهذا الإكبار المصنوع، وهذه الخطب والقصائد التي لا يراد بها وجه الله، ولا وجه من قيلت فيه، وإنما يراد بها وجه الذين يصرفون السياسة ويسيرون أمور الناس كما يحبون، والى حيث يحبون، فقد كان حافظ ومازال بائسا، وكان حافظ ومازال شقيا، ولكن شقاء حافظ سعادة، وبؤس حافظ نعيم، وما كان أحق شوقي رحمه الله واجدره، بأن يشارك حافظا في هذا البؤس المجيد، فقد كان شوقي كما كان حافظ مجداً لمصر وللشرق وللأدب العربي؛ ولكن السياسة استأثرت بشوقي فازدردته ازدرادا. وعجزت عن أن تستأثر بحافظ، وأي غرابة في هذا؟ لقد كان شوقي رحمه الله هينا لينا رفيقا رقيقا، وكانت في حافظ صلابة الشعب وغلظته، وخشونة الشعب وشدته.

قالت وهي محزونة: ولكن بؤس حافظ مهما يكن مجيدا بالقياس إليه فهو عار على مصر، ومن حق مصر لنفسها أن تكشف هذا العار، وكانا قد بلغا ناديا من هذه الأندية التي يكون فيها الرقصمع المساء والتي يؤخذ فيها الشاي، فاتخذا مكانا منزويا فيه دون أن يتفقا على ذلك، إنما هي رغبتهما في اتصال الحديث، وزهدهما في هذا المتاع الذي يتهالك عليه الناس، ولم ينقطع حديثهما وقتا طويلا إنما هي لحظة طلبا فيها الى الخادم ما كانا يريدان، ثم اتصل بينهما الحديث، ولكنه لم يمس أمير الشعراء ولا شاعر النيل. قال ومع ذلك فلم تسأليني عن مصر والمصريين وأنت ترين مصر وأدباءهافي فرنسا كأحسن ما تحبين أن تريهم؟ قالت في فرنسا؟ وأين ذاك؟ قال ماذا تصنعين إذن منذ تركت السفينة؟ ألا تقرئين؟ قالت لا. قال بل تكتبين، وقد كان ينبغي أن أفهم هذا، ولعلى قد فهمته حين رأيت تلك الصحف المنثورة على المائدة، والتي أسرعت الى جمعها وإخفائها حين رأيتني مقبلا عليك كأنك خفت أن أمد إليها يدا، أو أن أختلس إليها نظرة، قالت لا تقل هذا ولا تسرف في التجني، فما كنت أستطيع أن أمضى في الكتابة وقد أقبلت، وما كان ينبغي لي أن أدع المائدة مختلطة كما كانت، قال فإذا سألتك أن اقرأ بعض هذه الصحف التي كانت منثورة فهل تأذنين؟ قالت هذا شيء آخر دعنا من هذه الصحف المنثورة فستقرأها يوما ما، ولكن حدثني أين وكيف أستطيع أن أرى مصر والمصريين في فرنسا؟ قال تستطيعين أن ترى مصر والمصريين في فرنسا الآن، وفى هذا المكان، وعلى هذا النحو، ثم أخرج لها صحيفة النوفيل ليترير ونشرها، وقال انظري، فنظرت فدهشت فسكتت، ثم قالت هذا غريب! صفحة أدبية عن مصر لا يكاد يكتب فيها مصري! قال ولو ترجم ما فيها للمصريين لرأوا أنفسهم كما يرونها في المرآة الصافية الناصعة، أليس قد صور لهم كاتب أمير شعرائهم العظيم تصويرالا يصفه من قريب ولا من بعيد؟ أليس قد زعم هذا الكاتب إن قد كان لأمير الشعراء خصوم كلهم بغيض؟ أليس قد أذاع هذا الكاتب بين الفرنسيين والأوربيين الذين يقرءون هذه الصحيفة صورة عن شاعر مصر وعن أنصاره وخصومه لا تلائم رأي مصر ولا حاجتها، وإنما تلائم رأى السياسة القائمة،؟ قالت سأقرأ هذا الفصل، ولكن انظر قال وما تريدين أن أنظر؟ أتظنين أني لم اقرأ هذه الصفحة قبل الآن؟ ماذا تنكرين؟ فصل لصديقنا الأستاذ أنطون الجميل عن المجمع اللغوي الملكي، أي غرابة في هذا؟ قالت وهى تضحك ضحكا حزينا، الغرابة أن يعلن عن هذا المجمع في فرنسا ولما يوجد في مصر بعد، قال لم يوجد الآن فسيوجد بعد عام! قالت فقد كنت أحب من صديقنا، بل كنت أحب لصديقنا أن ينتظر حتى يوجد هذا المجمع بالفعل قبل أن يكتب عنه فيطيل، فقد أرى أن فصله غير قصير، وما عسى أن يكتب بعد أن يوجد المجمع؟ قال ليس على صديقنا بأس من أن يكتب عن مجمع إن لم يوجد بالفعل فهو موجود بالقوة، ولا سيما إذا طلبت إليه الكتابة وأثقل عليه في الطلب، وليس إسراعه الى الكتابة في شيء هو الى الوهم اقرب منه الى الخيال فضلا عن الحقيقة الواقعة هو الذي أنكره عليه أو ألومه فيه، إنما أنكر عليه فهمه للمجامع اللغوية وتصويره لتاريخها عند العرب، أترين الى أسواق الجاهليين؟ لقد كانت مجامع لغوية عند الأستاذ انطون الجميل، ثم أترينالى مدارس اللغة والنحو والأدب في البصرة والكوفة وبغداد وفى حلب ودمشق والقاهرة وقرطبة؟ لم تكن من المجامع اللغوية في شيء عند الأستاذ انطون الجميل. هذا كثير ألا ترين ذلك؟ قالت وأكثر منه أن يستجيب صديقنا لدعوة السياسة، وان يرضى صديقنا لنفسه أن يضع الأدب من السياسة هذا الموضع، وقد كنت أرى أنه يجب إخضاع السياسة للأدب، لأكتبن إليه، قال لا تفعلي، فليس هو الآن في القاهرة، أنه يطوف في لبنان فانتظري حتى تعودي ويعود، ثم خذي معه في هذا الحديث، ولكن اقرأي هذا الفصل وفكري فيه، فهو فصل من فصول الصحف السيارة في مصر لا أكثر ولا أقل.

ولكن حدثيني أتريدين أن تطيلي الإقامة في نيس؟ قالت وأنت حدثني كيفوقعت الى نيس وأنت تقصد الى مدينة النور؟ قال وهل يكون النور إلا حيث أنت يا آنسة؟ قالت مغيضة: هل تعلم انك تثقل علي أحياناً بهذا العبث السخيف؟ قال ما أردت هذا ولا فكرت فيه، وما أرى أني ألام إن كنت ثقيلا، فلعل الثقل أن يكون بعض طبيعتي؟ فخذيني كما أنا، قالت فان لم يعجبني منك هذا، قال فاحتمليه على أي حال فلعل عندي ما يهون عليك احتماله، أتريدين أن تطيلي الإقامة في نيس؟ قالت سأقيم أياما، وأنت؟ قال سأقيم فيها ما أقمت إن لم يثقل عليك ذلك، وسنرتحل معا حتى إذا كنا في بعض الطريق تخلفت أنت في مدينتك الجامعية الصغيرةفاصطليت فيها حر الصيف ونار العلم والأدب، ومضيت أنا الى باريس، ومن يدرى، لعل نار الأدب والعلم أن تستهويني فأتخلف وقتا طويلا أو قصيرا، وهل أنا فراشة تستهويها النار، ولا تكره أن تحترق بها؟ قالت في شيء من التفكير: أنت مقيم في نيس ما أقمت، مرتحل عن نيس إذا ارتحلت عنها، متخلف حين أتخلف، مصطل للنار التي أريد أن اصطليها. قال هذه خطة مرسومة، وكيف تريدين يا آنسة أن تغيري ما رسم القضاء؟