مجلة الرسالة/العدد 141/عصر الخفاء

مجلة الرسالة/العدد 141/عصر الخفاء

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 03 - 1936



البارون فون أوفنباخ

داعية ومغامر ومشعوذ

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان القرن الثامن عشر عصر الخفاء في أوربا، تزدهر فيه الدعوات والحركات السرية، ويزدهر فيه أقطاب الدعاة السريين؛ ففي أوائله نرى حركة البناء الحر (الماسونية) تتغلغل في أنحاء أوربا، وتقوم طائفة أخرى من الحركات والجمعيات السرية؛ وفي أواخره نرى طائفة من أقطاب المغامرين الذين يتشحون بأثواب الخفاء والشعوذة يجوبون أوربا من أقصاها إلى أقصاها، ويثيرون الروع والدهشة أينما حلوا؛ ولهؤلاء الدعاة المغامرين سير عجيبة تفيض بها سير القرن الثامن عشر، وتبدو كأنها قصص مغرق، بيد أنها ترجع في الغالب إلى كثير من الحقيقة، وكل ما هنالك أن هذه الحقيقة يكتنفها كثير من الغموض والخفاء يرجع إلى ظروف العصر والمجتمعات التي ظهر فيها أولئك الدعاة المغامرون

ومما يلاحظ أن معظم المغامرين والدعاة السريين الذين ظهروا في هذه الفترة هم يهود أو ينتمون إلى أصل يهودي، وأن معظم الحركات والدعوات السرية التي ازدهرت فيها ترجع أيضاً إلى أصل يهودي، أو نلمس فيها على الأقل وحي الدعاية اليهودية؛ وهذه الملاحظة ترجع في الواقع إلى ظاهرة تاريخية أعم، وهي أن اليهودية كانت منذ العصور الوسطى مستقى أو مبعثاً لكثير من الحركات والجمعيات السرية التي قامت في أوربا، ومعظمها يرمي إلى غايات هدم دينية أو اجتماعية، تقصد بها النصرانية ومبادئها وعقائدها قبل كل شيء

وقد كانت (الكابالا) اليهودية منذ العصور الوسطى أكبر مصدر لهذه الدعوات والرموز السرية. والكابالا شهيرة في تراث اليهودية الروحي والفلسفي، وهي عبارة عن مزيج من الفلسفة والتعاليم الروحية، والرموز السحرية، يتوارثها أحبار اليهودية ودعاتها منذ أقدم العصور، وأخص تعاليمها الروحية أن الله وهو الكائن المطلق الخالد ينفث من نفسه إلى عالم الأرواح النقية، وأن روح الإنسان تنتقل من جسم إلى جسم حتى تعود في النهاية إلى الله وتفنى فيه؛ ولكن الكابالا اشتهرت بالأخص برموزها السرية وتعاويذها السحرية، وقد كانت هذه مدى العصور تراث الخفاء في يد الدعاة والمشعوذين، يستغلون به سذاجة الكافة، ويتخذونه سلاحاً قوياً لبث دعواتهم وتحقيق غايتهم في مجتمعات مؤمنة يروعها السحر والخفاء على كر العصور

وقد بلغت هذه الدعوات والتعاليم السرية اليهودية ذروة القوة والذيوع في القرن السابع عشر؛ وكانت بولونيا، وبالأخص مقاطعة بودوليا التي كانت يومئذ منزلا لطوائف كثيرة من اليهود، مركزاً للدعوة الكابالية؛ وكانت هذه الدعوة تتمخض من آن لآخر عن فورات دينية يتردد صداها في المجتمع اليهودي كله. وفي أواسط القرن السابع عشر ظهر في تركيا شابتاي زيبى، وهو داعية يهودي زعم أنه المسيح المنتظر، فأثار ظهوره ومزاعمه فتنة كبيرة في المجتمع اليهودي؛ ولم يكن (المسيح المنتظر) سوى داعية ماهر من دعاة (الكابالا)؛ وفي أواسط القرن الثامن عشر ظهر في بولونيا عدة متعاقبة من الدعاة الكاباليين، أشهرهم إسرائيل البدولي الذي أسس طائفة (الحسديم)؛ وكان إسرائيل بارعاً في ضروب الشعوذة واستخدام الرموز والتعاويذ السحرية، فلقيت دعوته صدى كبيراً، والتف حوله كثير من اليهود الذين خرجوا على تعاليم (التلمود) وتقاليده

وفي ذلك الحين أيضاً ظهر داعية من أعظم دعاة الكابلا، وأشدهم خفاء وغموضاً، فأثارت شخصيته الغامضة، وحياته العجيبة، ومزاعمه الخارقة، وبذخه الطائل أيما روعة ودهشة في مجتمعات أوربا الوسطى. واسم هذا الداعية الغريب يعقوب فرنك، وكل ما نعرف عن نشأته وحياته الأولى أنه ولد في بولونيا، وكان في حداثته يشتغل بتقطير الخمور؛ ثم تجول حيناً في بلاد القرم وفي تركيا، ودرس تعاليم (الكابالا) ورموزها دراسة عميقة، واتصل بأنصار شابتاي زيبى ودعاهم إلى لوائه، ثم عاد إلى بودوليا منزل الحركة الكابالية، وهنالك أسس في سنة 1755 طائفة جديدة تعرف بجماعة (الزوهاريين) نسبة إلى (زوهار) أو كتاب الضوء، وهو من الكتب العبرية الكابالية؛ ولم يلبث أن ذاعت دعوته وقويت عصبته؛ ونهض لمقاومته جماعة (التلموديين) الرجعيين، ونشبت بينهما خصومة قوية، فالتجأ فرنك إلى حماية أسقف كامنيك وأفضى إليه بميوله النصرانية، وأحرق التلمود علناً؛ وعاونه الأسقف على مقاومة خصومه حيناً ولكنه لم يلبث أن توفى، واشتد الأحبار اليهود في مهاجمة فرنك ومطاردته، وأوقعوا به لدى حكومة وارسو، ولدى مبعوث البابا، وصوروه للسلطات الدينية والمدنية يهودياً مرتداً، ونصرانياً مماذقاً، وأن دعايته خطر على العقائد المرعية، فهبت السلطات لمقاومته، وبدأت يد المطاردة تعمل لسحق (الزوهاريين) وتشريدهم

والواقع أن مذهب فرنك لم يكن يهودية خالصة ولا نصرانية خالصة، بل كان مزيجاً غريباً من اليهودية والنصرانية والوثنية؛ ولم تكن بولونيا مهداً خصباً لمثل هذه الدعوات الجريئة؛ فلم يمض بعيد حتى قبض على فرنك بتهمة الارتداد الكاذب ونشر الإلحاد والكفر، وزج إلى قلعة شنتشوف، وبادر كثير من أنصاره بالفرار إلى تركيا، واعتنق الكثلكة كثير ممن بقى منهم في بولونيا، ولكنهم بقوا يهودياً في سرائرهم، وقبض على عدد منهم، وحكم على البعض بالأشغال الشاقة، ولكن كثيرين منهم استطاعوا أن يتقوا بستار الكثلكة ويل المطاردة؛ ولقي الذين هاجروا إلى تركيا عنتاً واضطهاداً من السلطات الدينية في مولدافيا، وانقض عليهم العامة ونهبوهم، وتفرقوا في كافة الأنحاء. أما يعقوب فرنك فلبث يرسف في سجنه حتى سقطت قلعة شنتشوف في أيدي الروس في سنة 1772، وعندئذ أطلق سراحه؛ فتجول حيناً في بولونيا وبوهيما ومورافيا متشحاً في الظاهر بثوب الكثلكة، وهو يجمع الأموال والرسوم الفادحة من أنصاره وأبناء جلدته، ويثير الروع والإجلال بين الكافة بمظاهر بذخه؛ وكان مذهب الزوهاريين قد ذاع في المجتمعات اليهودية في تلك الأنحاء، وكانت تعاليمهم أكثر جنوحاً إلى النصرانية، فهم ينكرون التلمود، ويسلمون بالتثليث والحلول، ولكن ينكرون أن المسيح وحده أهل للحلول؛ وكان هذا المزيج بين المذاهب والتعاليم المختلفة ملاذ الدعاة في كل عصر، فهم يزعمون دائماً أنهم ينشئون مذهباً أو ديناً جديداً، ولكنهم يعمدون دائماً إلى الاقتباس من المذاهب والأديان القائمة، ويسبغون على مزيجهم نوعاً من الجدل الغامض للتمويه على العامة والبسطاء

على أن يعقوب فرنك غدا مذ قوضت دعائم طائفته رجلا آخر، فهو لم يبق بعد داعية يتزعم مذهباً جديداً؛ ولم يبق بعد اعتناق الكثلكة يهودياً ينفث دعاياته إلى أبناء دينه؛ بل غدا في الواقع شخصية جديدة يحوطها خفاء من نوع جديد؛ ذلك أنه ظهر فجأة في المجتمع الرفيع، يعيش في بذخ شرقي طائل، ويحيط نفسه بحاشية كبيرة فخمة، ويدهش المجتمعات الرفيعة في ألمانيا والنمسا بروعة مظاهره وفيض بذخه؛ ومازالت حياة فرنك في تلك الفترة لغزاً، وما زال مصدر تراثه المدهش سراً على التاريخ؛ ومن ذلك الحين يعيش فرنك في فينا وفي برون على مقربة منها، تحيط به أروع مظاهر الفخامة والبذخ، كما يحيط به أعمق الأسرار وأغرب المزاعم؛ ولبث فرنك مدى حين يدهش البلاط النمسوي وكل مجتمع فينا الرفيع بشخصيته الخفية، وحياته الفخمة الباذخة؛ وكانت له ابنة حسناء تدعى (حوه)، استطاعت أن تتقرب من الإمبراطورة ماريا تيريزيا، وأن تنال لديها حظوة ونفوذاً، وأن تمهد لأبيها كثيراً من السبل؛ ولكن الريب الذي يلاحقه أينما حل كان يحيط دائماً بشخصيته ومحيطه ووسائله ومزاعمه؛ ولم يلبث أن اضطر إلى مغادرة النمسا ليتقي شر الاتهام والمطاردة، وعندئذ تحول إلى مدينة أوفنباخ بألمانيا على مقربة من فرانكوت، واستقر بها مع حاشيته الكبيرة، وعاش هنالك بنفس البذخ الطائل الذي كان مثار الروع والدهشة والإعجاب أينما حل

وعاش فرنك في أوفنباخ أعواماً طويلة، وتسمى بالبارون فون أوفنباخ، وهو لقب يغلب عليه في كتب التاريخ والقصص؛ وأثار بروعة بذخه ومظاهر طلعة المجتمع الألماني ودهشته كما أثار دهشة المجتمع النمسوي من قبل. ويقدم إلينا المؤرخ الألماني بيتر بير وصفاً روائياً شائقاً لحياة فرنك العجيبة وبذخه المدهش فيقول لنا: (كانت له حاشية من بضع مئين من الفتيان والفتيات اليهود ذوي الحسن الرائع؛ وكان يذاع أن صناديق المال تنهمر عليه في كل يوم ولا سيما من بولونيا، وكان يخرج كل يوم في موكب حافل ليقيم شعائره في العراء، في عربة تجرها جياد مطهمة، ومن حوله عشرة أو اثنا عشر فارساً بروسيا في حلل حمراء خضراء موشاة بالذهب، وقد شهروا الرماح ووضعوا في قلنسواتهم رموزأً من النسور أو الوعول أو أهلة وشموساً وأقماراً؛ وكان الماء يصب دائماً حيثما كان يقيم شعائره؛ وكان يؤم الكنيسة في مثل هذا البذخ، وهنالك يؤدي القداس بطريقة خاصة، وفي خشوع خاص؛ وكان أنصاره يعتقدون فيه الخلود، بيد أنه توفى في سنة 1791؛ ودفن في بذخ يعدل بذخ حياته، وسار وراء نعشه موكب من ثمانمائة؛ بيد أن سر ثرائه وبذخه دفن معه في قبره؛ وانحدرت أسرته بعد وفاته إلى حالة من البؤس تدنو إلى التسول؛ وعبثاً حاولت تستدر عطف أنصاره أو صدقتهم؛ ولم يمض سوى قليل حتى غمرها النسيان والعدم، واضطرت لكي تعيش أن تزاول أعمال الحياة الفانية)

هذه في قصة يعقوب فرنك وقصة حياته العجيبة. قصة مغامر ومشعوذ بارع استطاع أن يستغل ظروف عصره، وما كان يسود مجتمع عصره من إيمان وتعلق بالخوارق والأساطير. بيد أنه من الخطأ أن نقف عند هذه الصورة الظاهرة من حياته. ذلك أن حياة فرنك كانت سراً من الأسرار التي لا تنفذ إليها طلعة الكافة، وكان وراء هذه الحياة الفخمة الباذخة ناحية أخرى يغمرها الخفاء المطبق. كل كان فرنك يعمل لنفسه وبوسائله الخاصة أم كان يعمل بوحي قوة خفية أخرى تمده بأسباب البذخ الطائل وتدفعه إلى المجتمع مزودا بتلك المظاهر الرائعة لكي يعمل الرائعة لكي يعمل على بث داعية معينة وتحقيق أغراض معينة؟ وتحقيق أغراض معينة؟ لقد كان العصر الذي ظهر فيه فرنك عصر الخفاء حقاً، وكانت موجة من الخفاء والتعلق بالخوارق والمجهول تغمر مجتمعات أوربا الرفيعة وتملك عليها تفكيرها وأهواءها؛ وفي نفس الوقت الذي ظهر فيه فرنك مسلحاً بأسراره ومظاهره العجيبة، ظهر يوسف بلسامو أو الكونت كاجيلو سترو مسلحاً بمثل هذا الخفاء وأثار دهشة المجتمعات الرفيعة ولا سيما في فرنسا بمظاهره وأعماله العجيبة ومزاعمه الخارقة؛ وظهر في نفس الوقت مغامر آخر من نفس الطراز وإن كان أقل روعة وتأثيراً، وهو الكونت سان جرمان واقتفى أثر زميله في التذرع بالخوارق. ومما يلفت النظر أن الثلاثة كانوا يهوداً؛ وقد كانت اليهودية يومئذ مبعث الحركات والدعوات السرية، وكانت الكابالا اليهودية كما أسلفنا مستقى خصباً للدعاة السريين فيما يعرضون من ضروب الرموز والأساليب السحرية، وكانت حركة البناء الحر (الماسونية) يومئذ تضطرم في جميع أوربا؛ وقد أثبت البحث الحديث أن لحركة البناء الحر أغراضاً خفية غير الأغراض الإنسانية التي تتظاهر بها، وأنها تعمل لغاية ثورية شاملة هي سحق الأديان والمعتقدات القائمة كلها، وإدماج الإنسانية كلها في نوع من التفكير الحر المطلق والمساواة الاجتماعية المطلقة. ويرى بعض الباحثين أن الثورة الفرنسية كانت مؤامرة (ماسونية) ونفثة من نفثات البناء الحر، وأن محافل البناء الحر هي التي نظمت خططها وبرامجها الأولى، بل يرى بعض الباحثين أن الثورة البلشفية الحديثة ليست بعيدة عن تأثير البناء الحر، وأن ما ترمي إليه من إحداث ثورة عالمية يطابق نفسه الغاية التي يعمل لها البناء الحر؛ وقد كان أولئك الدعاة المغامرون الذي خلبوا الباب أوربا في القرن الثامن عشر يتصلون بمحافل البناء الحر اتصالاً وثيقاً وإن يكن خفياً. أفليس لنا نعتقد بعد ذلك أن يعقوب فرنك لم يكن مغامراً أفاقاً يعمل لنفسه ولمطامعه الشخصية، وأنه بالعكس كان داعية خطيراً يبعث حركة خطيرة لها صلة بخطط البناء الحر وغاياته؟ وأنه كان يستمد المال الوفير والنصح والحماية من قوة خفية أعظم؟ هذا ما نرجح، وهذا ما يؤيد خفاء حياته وخفاء وسائله ومزاعمه وغاياته، واتشاحه بثوب الدعوة الدينية التي كانت على كر العصور ملاذاً لمختلف الدعوات والغابات.

محمد عبد الله عنان