مجلة الرسالة/العدد 141/فلاسفة الإسلام والتوفيق بين الفلسفة والدين

مجلة الرسالة/العدد 141/فلاسفة الإسلام والتوفيق بين الفلسفة والدين

مجلة الرسالة - العدد 141
فلاسفة الإسلام والتوفيق بين الفلسفة والدين
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 03 - 1936



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

سيداتي، سادتي!

أشكر قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية على أن هيأ لي فرصة للتحدث إليكم الليلة في موضوع جاف ودقيق؛ ولست أدري هل دقته منشأ جفافه، أم جفافه زاد في دقته وغرابته؛ ومهما يكن فالذي أستطيع أن أؤكده لكم أنكم لستم بصدد موضوع من تلك الموضوعات الطريفة المسلية التي تمر بالمستمع في شوق ورغبة وهدوء وسكون، وقد أعذر من أنذر! على أن لي في سعة صدركم وعظيم انتباهكم ما يشجعني على القول برغم ما يصادفني من صعوبات. وما فكرت في أن أخوض معكم غمار هذه الأحاديث إلا رغبة منى في أن أوجه النظر إلى شطر من الثقافة الإسلامية أهمله أهله وتغافل عنه ذووه. وأعني بهذا الشطر الدراسة العقلية والبحث النظري في الإسلام. للإسلام فلسفة انفردت بخصائصها ومميزاتها وأضحت ذات شخصية مستقلة. فليست مجرد الفلسفة الأرسطية مصوغة في عبارات عربية كما يزعم رينان، ولا فلسفة مدرسة الإسكندرية منسوبة فقط إلى بعض رجال الإسلام كما يدعي دهيم. كلا بل هي فلسفة ذات موضوع خاص ومشاكل معينة وطريقة البحث جديدة إلى حد كبير. هذه الفلسفة مجهولة ومهملة إلى درجة لم تصل إليها فيما أعتقد أية فلسفة أخرى. فرجالها لا يكادون يعرفون، وكتبهم ليست أعظم حظاً منهم؛ ولا يزال قدر منها مخطوطاً إلى اليوم دون أن يفكر أحد في طبعه ونشره. ولو لم يقيض الله لهذا التراث بعض المستشرقين لما عرف عنه شيء وتقي في طي الكتمان إلى الأبد. وما أجدرنا أن نقوم نحن على إحياء مجدنا والإشادة بذكر رجالنا كي يتصل حاضرنا بماضينا ونؤسس نهضتنا على أسس متينة من القديم الحي والجديد النافع

قلت أيها السادة إن موضوعنا دقيق، وعنوانه كاف للدلالة على ما فيه من أمور شائكة ومشاكل عويصة. فان الأبحاث الدينية في جملتها مثار اتهامات وتأويلات وشبه لا حصر لها. وقد ساد بلدنا في العشرين سنة الأخيرة روح اتهام خبيثة ترمي بالإلحاد والزندقة والتمرد والكفر كل من حاول تفسير ظاهرة من الظواهر الدينية تفسيراً تاريخياً أو عقلياً.

لذلك تحاشى كثير من الباحثين هذا الميدان وتجنبوه اتقاء لما فيه من شرر متطاير وعراك ونضال. غير أني أشعر بنسمة من نسمات التسامح الإسلامي القديم تهب علينا من جديد، وألمح في صفوف قادة الرأي والمفكرين اتجاها نحو الحرية وسعة الصدر وطلاقة التفكير. ولا أدل على هذا من خمود تلك النعرة القديمة، نعرة الإباحيين والمستمسكين واللادينيين والدينيين. ويغلب على ظني أنه لو كان تقدم الزمن عشر سنين بكتاب ككتاب (حياة محمد) مثلاً للدكتور هيكل لعد في صف المؤلفات المحاربة المطرودة. أما اليوم فانه مقروء ومرغوب فيه بشكل يدعو إلى الإعجاب والتقدير. وليس هناك شك في أن لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي يداً في هذه النزعة الصالحة والتسامح الجديد. وإذا كانت النفوس اليوم أكثر استعداداً لتفهم مسائل الدين في جو حر طليق فأني لا أرى غضاضة في أن أتحدث عن بعضها. على أني لست في هذا الحديث إلا رسول الأمين والناقل الصادق لما قال به فلاسفتكم الأقدمون. فمهمتي أن أنقل إليكم آراء كبار فلاسفة الإسلام، وأردد بينكم أصواتاً تقادم بها العهد، وأبعث من تحت الرغام أشباحاً طال رقادها، وأبين لكم كيف حاول الفارابي وابن سينا وابن رشد التوفيق بين الفلسفة والدين

الدين وحي الله، ولغة السماء وغذاء القلوب، ومصدر الأوامر والنواهي. فكيف نوفق بينه وبين الفلسفة التي هي صنع البشر ولغة الأرض، ومجال الأخذ والرد والبحث والتعليل؟ كيف نوفق بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية، والأولى عمادها الإلهام، والثانية أساسها البرهان؟ كيف نوفق بين السمعيات والعقليات، بين المسلمات واليقينيات؟ كيف نوفق بين أفكار العامة المبنية على البساطة والسهولة، وآراء الخاصة الناتجة عن التفكير الزائد والتأمل العميق؟ مهمة شاقة قطعاً ومحاولة يعز أن تكلل بالنجاح. ولكنها ضرورية لقوم عاشوا في العالم الإسلامي واعتنقوا الإسلام، وكانت دراستهم بل حياتهم كلها خاضعة للجو المحيط بهم، ومتأثرة بمختلف العوامل والظروف التي استولت على عصرهم. فلم ير الفلاسفة المسلمون بداً من محاولة التوفيق بين معتقداتهم وأبحاثهم. وهذه المحاولة هي حجر الزاوية في فلسفتهم وأخص خصائصها، وبها تتميز من الفلسفة الأرسطية وتبدو في ثوبها الفذ المستقل. ففي كل خطوة من خطاهم، وفي كل بحث من أبحاثهم، صوب هؤلاء الفلاسفة نحو هذا الغرض واتجهوا نحو هذه الغاية. وكان لمجهودهم أثر يذكر في انتشار الفلسفة ونفوذها إلى صميم الدراسات الإسلامية الأخرى. ويعد الفارابي أول من سلك سبيل هذا التوفيق وأظهره في شكل مهذب منسق. ثم أتى بعده ابن سينا فسار على سنته واهتدى بهديه، ووسع طريقته وكمل ما فاته، إلا أن محاولة التوفيق التي قام بها هذان الفيلسوفان لم ترق لدى الغزالي، فشن عليها الغارة وأثار عليها حرباً شعواء ونقض أصولها وفروعها وأعمل معوله في هدم بنائها الفخم وأركانها المتينة؛ وكتابه تهافت الفلاسفة قائم على انتزاع أحجار هذا البناء الواحد بعد الآخر، وإثبات أن الفلاسفة أساءوا إلى الفلسفة والدين معاً بمحاولتهم التوفيق بينهما. وقد جاء ابن رشد أخيراً مدافعاً عن أسلافه الفلاسفة ومبيناً ما في حجج الغزالي من مغالطة وسفسطة. ولم يمنعه تعصبه الزائد لأرسطو وعنايته الكبيرة بالفلسفة القديمة من أن يقف على هذه المشكلة ثلاثة كتب هامة هي: تهافت التهافت في الرد على الغزالي، وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ومناهج الأدلة في عقائد الملة. ولا يعنينا كثيراً أن نعرف ما إذا كان هؤلاء الفلاسفة مخلصين في عملهم أو غير مخلصين، فهذه مسألة تتجاوز دائرة بحثنا وتتعلق بأشخاصهم وصلتهم بربهم. وما لنا نتتبع بواطن الناس وقد دلت ظواهرهم على حسن نيتهم؟ ومن لنا بالوقوف على أمر هذه البواطن والله وحده هو الذي يتولاها ويدرك كنهها وخفاياها؟ على أن البحث عن السرائر مقرون غالباً بالشك وإلصاق تهم بأشخاص لم يقم دليل من أقوالهم وأفعالهم على اتهامهم. فلندع هذا جانباً، ولنقنع بأن نقرر أن فلاسفة الإسلام الذين نتحدث عنهم خلفوا كتباً تشهد برغبتهم الأكيدة في التوفيق بين دراستهم وعقائدهم، وفلسفتهم كلها قائمة على هذا الأساس

واضح أن التوفيق يستلزم على الأقل جانبين متقابلين وطرفين متنافرين. ومهمة الموفق أن يبعد أسباب الخلاف ويقرب الشقين المتباعدين؛ وهذا ما حاوله الفارابي وابن سينا في ربط الفلسفة بالدين، فقد كان أمامهما من جهة الفلسفة الأرسطية تراث الإغريق وأسمى صورة لما أنتجه العقل الإنساني في ذاك الزمن، كما كانا يعتنقان من جهة أخرى عقائد الإسلام والملة الحنيفية السمحاء التي تدعو إلى تحرير الإنسان من قيوده وتوجيهه نحو البحث والنظر. وفي فلسفة أرسطو نواح لا تلائم أصول الدين، كما أن في الإسلام تعاليم قد لا تتفق ظواهرها والروح الفلسفية؛ فعنى الرجلان بصبغ مذهب أرسطوا بصبغة دينية وكسوة الدين بثياب فلسفية، وبذا أصبحت الفلسفة دينية، والدين فلسفياً؛ أو بعبارة أدق أصبحت فلسفتهما ديناً ودينهما فلسفة. وليس في مقدورنا أن نأتي هنا على تفاصيل أوجه التوفيق التي حاولاها، وإنما نكتفي بالمسائل الرئيسية التي أدخلاها في الفلسفة والدين معاً. فنتبين النقط التي خالفا فيها أرسطو والحلول التي عرضناها لبعض المشاكل الدينية. وعلى هذا فأوجه التوفيق تنقسم إلى شعبتين، تتصل إحداهما بالفلسفة والأخرى بالدين، وكأن الموفقين شاءا أن يخطوا بالفلسفة نحو الدين في الوقت الذي قربا فيه الدين من الفلسفة؛ وكأن التصالح بين الطرفين، إن صح هذا التعبير القضائي، تم على تساهل متبادل وتضحية مشتركة. في الفلسفة الأرسطية ثلاث مسائل جوهرية تبعد عن تعاليم الإسلام: الأولى فكرة الإله ومدلولها الصحيح وتحديد صفات البارئ وخصائصه؛ والثانية الصلة بين الله والعالم وبيان ما إذا كانت الحركة والمادة محتاجتين إلى الله أو غير محتاجتين؛ والثالثة النفس وخلودها، نظرية كلامية ميتافيزيقية، وأخرى فلكية طبيعية، وثالثة سيكلوجية. هذه هي النقط الثلاث الهامة التي تباعد بين آراء أرسطوا وما جاء به الإسلام، وفي التعاليم الإسلامية من جانب آخر مشكلتان عظيمتان هما: مشكلة النبوة ومشكلة السمعيات. وقد شغل الفلاسفة بهما وعنوا بتفسيرهما تفسيراً علمياً ينطبق على مبادئ البحث العقلي. وسأعرض عليكم سريعاً أوجه الخلاف هذه وطريق علاجها

لم يعن أرسطو عناية خاصة بمعرفة الله، ولم يعتبرها غرضاً رئيسيا لفلسفته، ولم يدخلها في قوانينه الأخلاقية ولا في نظمه السياسية، ويظهر أنه نظر أولاً إلى العالم الحسي وبين أسبابه وعلله دون أن يفكر في قوة خفية تدبره، وبعد أن استكملت الطبيعة وسائلها وانتظمت الأفلاك في سيرها انتهى به المطاف إلى محرك أول أخص خصائصه أنه يحرك غيره ولا يتحرك هو. هذا المحرك الساكن أو المحرك الصوري هو الإله في رأيه، ولا يذكر من صفاته إلا أنه عقل دائم التفكير، وتفكيره منصب على ذاته. فإذا ما طالبته بتفاصيل أكثر وبيان أشمل ألفيت نفسك أمام صمت عميق وسكون مطبق. ذلك لأنه يتحرج عن الكلام في المسائل الدينية، ويعدها فوق مقدور البشر، ويصرح بأن الكائنات الأزلية الباقية وإن تكن رفيعة مقدسة ليست معروفة إلا بقدر ضئيل. وليت أرسطو وقف عند هذا الحد، بل جاوزه إلى ما هو أقبح وأشنع، فإن نظرياته المختلفة تشعر بتردد بين الوحدة والتعدد. حقاً إنه ينادي بالوحدة مردداً قول هومير إنه (ليس حسناً أن يكون هناك سادة متعددون) ويلاحظ أن وحدة نظام العالم تستلزم وحدة سببه الغائي، ولكنه يقرر في مقام آخر أن لكل فلك محركا خاصاً لا يختلف كثيراً عن المحرك الأول والإله الأعظم. فالأفلاك وحركاتها تقوده إلى التعدد وإن جهر بالوحدة وبرهن عليها، وبذا لم يستطع التخلص تماماً من التقاليد الإغريقية القديمة التي كانت تعتبر النجوم آلهة. ففكرة الإله عنده غامضة وغير متمشية مع مذهبه، ولا تشغل حيزاً واضحاً في فلسفته، وأراني في غنى عن أن ألاحظ أن هذه الفكرة تختلف كل الاختلاف عن العقيدة الإسلامية. لذلك اضطر الفلاسفة المسلمون أن يبينوا حقيقة الله ويشرحوها شرحاً لا يدع مجالاً للإبهام والشك؛ وقد أثبتوا أن الله هو الموجود الأول والسبب الحقيقي لسائر الموجودات، وأنه منزه عن الشريك والنظير والمثيل والضد، هو الإله الواحد الحي القادر العليم الحكيم السميع البصير. يقول الفارابي: (الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها وهو بريء من جميع أنحاء النقص. . . فوجوده أفضل الوجود وأقدم الوجود ولا يمكن أن يكون وجود أفضل ولا أقدم من وجوده. . . فهو أزلي دائم الوجود بجوهره وذاته من غير أن يكون به حاجة في أن يكون أزلياً إلى شيء آخر يمد بقاءه، بل هو بجوهره كاف في بقائه ودوام وجوده. . . وهو مباين بجوهره لكل ما سواه ولا يمكن أن يكون الوجود الذي له لشيء آخر سواه). وفي هذا المعنى يقول ابن سينا إن (الأول لا ند له ولا ضد له ولا جنس له ولا فصل له فلا حد له ولا إشارة إليه إلا بصريح العرفان العقلي. وهو معقول الذات قائمها، فهو قيوم بريء عن العلائق والعهد والمواد وغيرها مما يجعل الذات بحال زائدة. وقد علم أن ما هذا حكمه فهو عاقل لذاته معقول لذاته. تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته وبراءته عن الصمات إلى تأمل لغير نفس الوجود ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله وإن كان ذلك دليلاً عليه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف، أي إذا اعتبرنا حال الوجود فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود. وإلى مثل هذا أشير في الكتاب الإلهي: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم). أقول هذا حكم لقوم؛ ثم يقول: (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟) أقول إن هذا حكم الصدِّيقين الذين يستشهدون به لا عليه)، وقد برهن الفيلسوفان على وحدة الله بطريقة مبتكرة وفي مهارة ولباقة خلابتين، وإذا كان الله واحداً فإنا لا نستطيع أن نتصور له صفات خارج ذاته، بل هو عالم حي سميع قادر بذاته. (فليس يحتاج في أن يتعلم إلى ذات أخرى يستفيد بعلمها الفضيلة خارجة عن ذاته، ولا في أن يكون معلوماً إلى ذات أخرى تعلمه، بل هو مكتف بجوهره في أن يَعلم ويُعلم، وليس علمه بذاته شيئاً سوى جوهره، فإنه يعلم وأنه معلوم وأنه علم، كل ذلك ذات واحدة وجوهر واحد) فالفارابي وابن سينا يقولان، كالمعتزلة، بوحدة الذات وبلغيان الصفات الخارجة عنها، وفكرة الإله عندهما أساس الذهب جميعه، وكل المسائل الأخرى متفرعة عنها. وفي هذا ما يبين مسافة الخلف بينهما وبين أستاذهما أرسطو

لم يفارق فلاسفة الإسلام أستاذهم في هذه النقطة فحسب، بل انفصلوا عنه في مسألة أخرى هي نتيجة لهذه، ألا وهي الصلة بين الله والعالم. وذلك أن أرسطو وقد قال يقدم المادة والحركة لم يدع لله مكاناً في هذا العالم. نعم إنه يسميه المحرك الأول ومعنى هذا أنه علة فاعلية، ولكنه يعود فيقول إنه محرك ساكن؛ وكل ما هنالك أن العالم يتجه إليه في حركته. فهو غرض وغاية فقط؛ وليس تأثيره في العالم بأكثر من تأثير التمثال الجميل في نفس المعجب به. وإله هذا شأنه يتنافى مع ما يصرح به القرآن من أن الله خالق كل شيء. فلا المادة ولا العالم يتصور لهما وجود بدون الله. والتغيرات الكونية على اختلافها ترجع إلى الخالق المبدع جل شأنه. إزاء هذا التناقض الواضح فجاء الفارابي وابن سينا إلى حل وسط فقالا إن المادة مخلوقة وقديمة. خلقها الله بفيض من عنده أولاً وتعهدها بعنايته ورعايته فيما بعد. وكلمة (فيض) هذه ليست من الكلمات التي تمر بنا دون أن نعيرها أية أهمية فإنها ذات مدلول خاص وأهمية تاريخية. ويراد بها أن الله وهو عقل محض وتفكير مستمر قد صدر عنه العقل الأول كما يصدر الضوء عن الشمس، وعن العقل الأول صدر العقل الثاني وهكذا إلى العقل العاشر. وهذه العقول مرتبة ترتيباً تنازلياً فأسماها العقل الأول وأدناها العقل العاشر. وهي موزعة على الأفلاك المختلفة لتمدها بالحركة وتحقق فيها النظام. ويختص العقل العاشر أو العقل الفعال بالعالم الأرضي وعنه صدرت المادة التي هي مخلوقة وقديمة في آن واحد. يقول الفارابي: (وأول المبدعات عنه شيء واحد بالعدد وهو العقل الأول ويحصل في المبدع الأول الكثرة بالعرض لأنه ممكن الوجود بذاته، واجب الوجود بالأول، ولأنه يعلم ذاته ويعلم الأول. وليست الكثرة التي فيه من الأول لأن إمكان الوجود هو لذاته وله من الأول وجه من الوجود. ويحصل من العقل الأول بأنه واجب الوجود وعالم بالأول عقل آخر ولا يكون فيه كثرة إلا بالوجه الذي ذكرناه. ويحصل من ذلك العقل الأول بأنه ممكن الوجود وبأنه يعلم ذاته الفلك الأعلى بمادته وصورته التي هي النفس. والمراد بهذا أن هذين الشيئين يصيران سبب شيئين: أعني الفلك والنفس. ويحصل من العقل الثاني عقل آخر وفلك آخر تحت الفلك الأعلى. وإنما يحصل منه ذلك لأن الكثرة حاصلة فيه بالعرض كما ذكرناه بديا في العقل الأول، وعلى هذا يحصل عقل وفلك من عقل، ونحن لا نعلم كمية هذه العقول والأفلاك إلا على طريق الجملة إلى أن تنتهي العقول الفعالة إلى عقل فعال مجرد من المادة؛ وهنالك يتم عدد الأفلاك؛ وليس حصول هذه العقول بعضها من بعض متسلسلاً بلا نهاية، وهذه العقول مختلفة الأنواع كل واحد منها نوع على حدة، والعقل الأخير منها سبب وجود الأنفس الأرضية من وجه، وسبب الأركان (العناصر) الأربعة بواسطة الأفلاك من وجه آخر)، ويقول ابن سينا كذلك إن (الأول يبدع جوهراً عقليا هو بالحقيقة مبدع ويتوسطه جوهراً عقلياً وجرماً سماوياً. وكذلك عن ذلك الجوهر العقلي حتى تنم الأجرام السماوية وتنتهي إلى جوهر عقلي لا يلزم عنه جرم سماوي. فيجب أن تكون هيولي العالم العنصري لازمة عن العقل الأخير وعلى هذا فالفارابي وابن سينا يثبتان الخلق الذي جاء به القرآن وإن كانا يصورانه بصورة عقلية روحية، ويسلمان مع أرسطو بقدم العالم وإن اعترفا بمبدئه

(يتبع)

إبراهيم مدكور