مجلة الرسالة/العدد 142/أوربا على المنحدر

مجلة الرسالة/العدد 142/أوربا على المنحدر

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 03 - 1936


1 - من فرساي إلى لوكارنو

مسألة الرين وسلام أوربا

بقلم باحث دبلوماسي كبير

وقع في السابع من مارس الجاري حدث عظيم في السياسة الدولية لازالت أصداؤه تدوي في أرجاء أوربا، ولازالت آثاره ونتائجه موضع البحث الخطير في دوائر السياسة العليا. ذلك هو إقدام الحكومة الألمانية على إلغاء ميثاق لوكارنو الخاص بتأمين السلام على ضفاف الرين، وإقدامها في نفس الوقت على إلغاء آخر التعهدات والقيود العسكرية التي فرضتها عليها معاهدة الصلح، ووضع فرنسا وأوربا أمام الأمر الواقع باحتلال منطقة الرين الشرقية التي قضت معاهدة الصلح بتجريدها من السلاح ومن كل وسائل الدفاع العسكرية

ولم يكن عمل ألمانيا مفاجأة مطلقة، فقد كان معروفاً منذ أسابيع أنها تفكر في انتهاج مثل هذه الخطة، وأنها تترقب الفرصة لتنفيذها؛ ومنذ أسابيع تتحدث الصحافة الألمانية عن منطقة الرين ووجوب تسليحها استكمالاً لحقوق السيادة الألمانية وصوناً لشرف ألمانيا وكرامتها، ومنذ أسابيع تتحدث الصحافة الفرنسية عن نيات ألمانيا، وما يجب على فرنسا أن تتخذه إذا أقدمت ألمانيا على تنفيذها

وقد نفذت ألمانيا خطتها، واحتلت منطقة الرين الحرام فصائل من الريخسفر (الجيش الألماني) في نفس الوقت الذي ألقى فيه الهر هتلر من منبر الريخستاج الذي عقد خصيصاً لهذا الغرض خطابه القوي الجامع عن موقف ألمانيا تجاه السياسة الأوربية، وتجاه فرنسا، وأعلن فيه إنكار ألمانيا لنصوص ميثاق لوكارنو، وإعادة حقوق السيادة الألمانية كاملة على منطقة الرين

ويجب لكي نفهم حقيقة هذا الحدث السياسي والعسكري الخطير، وحقيقة البواعث التي حملت ألمانيا على انتهاجه، ومدى تأثيره في السياسة الأوربية، أن نستعرض أولا نصوص معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) الخاصة بمنطقة الرين، ثم نصوص ميثاق لوكارنو الخاص بتأمين السلام على ضفاف الرين، وأن نتتبع تطورات السياسة الأوربية الأخيرة التي مهدت إلى هذا الطور الخطير الحاسم

معاهدة فرساي ومنطقة الرين

كان ضمن الشروط والأغلال الفادحة التي فرضتها معاهدة الصلح على ألمانيا أن تجرد مناطق الرين الألمانية من سلاحها سواء ما كان منها غرب هذا النهر ملاصقاً للحدود الفرنسية والبلجيكية أو ما كان منها شرقي هذا النهر على بعد خمسين كيلو مترا داخل ألمانيا ذاتها. وقد أدمج تجريد منطقة الرين الألمانية من السلاح في المواد 42 و43 و44 من معاهدة فرساي، وهذا نصها:

يحضر على ألمانيا أن تستبقي أو تنشئ تحصينات سواء في الضفة اليسرى من الرين، أو في الضفة اليمنى غرباً على مدى خط طوله خمسون ميلا شرقي النهر (42)

يحظر أيضاً أن يستبقى أو يحشد في المنطقة السابقة قوات مسلحة سواء بصورة دائمة أو بصورة مؤقتة، وكذلك يحظر إجراء أية تمرينات عسكرية مهما كان نوعها، أو الاحتفاظ بأية إجراءات مادية لتسهيل التعبئة (43)

إذا خالفت ألمانيا بأي صورة ما نصوص المادتين 42 و43، فإنها تعتبر أنها قد ارتكبت عملا عدائيا ضد الدول الموقعة على هذه المعاهدة، وأنها تحاول تعكير السلام العالمي (44)

فهذه المواد الثلاث تجعل من ولايات الرين الألمانية منطقة محرمة من الوجهة العسكرية على ألمانيا؛ والغرض من وضعها تحت هذا النظام واضح، وهو أن تبقي أبواب ألمانيا الغربية مفتوحة أمام الجيوش الفرنسية والبلجيكية المرابطة على الحدود بحيث تستطيع في حالة وقوع حرب أو أعمال عدائية أن تقتحم الأراضي الألمانية في الحال قبل أن تستطيع الجيوش الألمانية تخطي المنطقة الحرام ومواجهة الغزاة

وكان هذا الشرط الفادح إلى جانب تجريد ألمانيا من السلاح وإنزال جيشها إلى مائة ألف، وتقييدها بأشد القيود فيما يتعلق بالمنشآت البحرية والجوية وصنع الذخائر، أشد ما يحز في نفس ألمانيا ويصدم عزتها كدولة عظمى لها ماض عسكري مجيد بين دول القارة العظمى، ولكن ألمانيا استطاعت بعد كفاح طويل شاق أن تحطم نصوص معاهدة فرساي وأن تتحرر منها تباعا؛ وكان آخر ظفر لها في هذا الميدان في شهر مارس من العام الماضي حينما أعلنت على لسان زعيمها هير هتلر بطلان النصوص العسكرية في معاهدة فرساي وتقرير حريتها المطلقة في اتخاذ أي إجراءات تراها للدفاع عن نفسها، وتقرير الخدمة العسكرية الإجبارية؛ وذلك ردا على ما قررته فرنسا يومئذ من إطالة الخدمة العسكرية؛ ولم يكن باقياً من القيود العسكرية التي فرضت على ألمانيا سوى تجريد منطقة الرين وتحريمها كما تقدم، وكان هذا النظام التي رتبته معاهدة الصلح قد تأيد بعهد جديد عقد بين ألمانيا وأعدائها السابقين لتأمين السلام على ضفاف الرين، ونعني به ميثاق لوكارنو؛ ولكن ألمانيا رأت أخيرا في عقد الميثاق الفرنسي الروسي الجديد ما يحملها على اعتبار ميثاق لوكارنو باطلا منقوضاً؛ ومن ثم فقد أعلنت على لسان زعيمها في السابع من الشهر الجاري بطلان ميثاق لوكارنو، وبطلان نصوص معاهدة الصلح الخاصة بتحريم منطقة الرين، التي تحتلها الآن قوات عظيمة من الريخسفر (الجيش الألماني) وبذلك أتمت ألمانيا تحطيم آخر الأغلال العسكرية التي فرضت عليها في فرساي

ميثاق لوكارنو

وهكذا نرى أهمية الصلة المباشرة بين تجريد منطقة الرين وبين ميثاق لوكارنو؛ فميثاق لوكارنو يؤيد النظام الذي قررته معاهدة الصلح لمنطقة الرين. وقد عقد ميثاق لوكارنو في سنة 1925؛ وكانت ألمانيا في الواقع أول من سعى إلى عقده. ذلك أن السياسة الألمانية كانت تقوم في ذلك الحين على فكرة التوفيق والتفاهم والتعاون؛ وكان عميدها يومئذ الدكتور شتريزمان يرى أن ألمانيا تكسب بالتفاهم مع فرنسا أكثر مما تكسب بالخصومة والمقاومة، وعرضت ألمانيا يومئذ أن تعقد مواثيق بتأمين السلامة المتبادلة وعدم الاعتداء والتحكيم؛ وعقد مؤتمر لوكارنو على أثر ذلك وشهده ممثلو الدول ذات الشأن وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى، وأسفر المؤتمر عن عقد ميثاق بالضمان المتبادل بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا العظمى وإيطاليا، وعن اتفاقات بالتحكيم بين ألمانيا وبلجيكا وألمانيا وفرنسا، وألمانيا وبولونيا، وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا. وكانت فكرة ألمانيا ترمي إلى قصر الميثاق على منطقة الرين، أعني حدود ألمانيا الغربية، ولكن فرنسا أصرت على أن يشمل الضمان الحدود الشرقية، وأن يسمح لفرنسا بمعاونة بولونيا في حالة خرق معاهدة التحكيم الألمانية البولونية؛ وأصرت إنكلترا من جانبها على أن يقصر تعهدها بالضمان على منطقة الرين. وكان أهم نتائج مؤتمر لوكارنو بالطبع هو ميثاق السلامة الشهير الذي سمي بهذا الاسم، والذي عقد في 16 أكتوبر سنة 1925

وقد أدمج هذا الميثاق الشهير في الملحق (ا) من معاهدات لوكارنو، متضمناً لخمس مواد؛ ونص في ديباجته على أن الدول الموقعة عليه وهي ألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا، وبريطانيا العظمى، وإيطاليا تقوم بعقد هذا الميثاق سعياً إلى تحقيق رغبة الشعوب التي عانت ويلات الحرب الكبرى في السلامة والحماية

وتنص المادة الأولى من الميثاق على أن هذه الدول المتعاقدة تضمن ضماناً مشتركا جامعاً بقاء الحدود والأوضاع الأرضية القائمة بين ألمانيا وبلجيكا، وبين ألمانيا وفرنسا، وعدم انتهاك هذه الحدود والأوضاع التي قررتها معاهدة الصلح المعقودة في 28 يونية سنة 1919، وكذلك تضمن مراعاة نص المادتين 42 و43 من المعاهدة المذكورة وهما الخاصتان بالمنطقة المجردة

وتنص المادة الثانية على أن ألمانيا وبلجيكا، وكذلك ألمانيا وفرنسا تتعهد كل منهما إزاء الأخرى ألا تعتدي عليها بأي حال أو تغزوها أو تلجأ إلى محاربتها مع استثناء الأحوال الآتية: (1) استعمال حق الدفاع الشرعي أعني مقاومة انتهاك العهود المشار إليها أو انتهاك نص المادتين 42 و43 من معاهدة الصلح إذا اتخذ هذا الانتهاك صفة عمل أو اعتداء لا مبرر له، واقتضى حشد القوات المسلحة في المنطقة المجرد اتخاذ الإجراءات السريعة (2) اتخاذ الإجراءات التي تنص عليها المادة 16 من عهد عصبة الأمم (وهي الخاصة بتوقيع العقوبات الإجماعية على الدولة المعتدية) (3) العمل تنفيذاً لقرار تتخذه الجمعية العمومية للعصبة أو مجلسها طبقاً لنص المادة 15 فقرة 7 من ميثاق العصبة (وهي الخاصة بإجراءات التوفيق والتسوية عند وقوع الخلاف)

وتنص المادة الثالثة على أنه بناء على التعهد المدون في المادة الثانية تتعهد ألمانيا وبلجيكا، وألمانيا وفرنسا، بأن تعمل كل منهما على تسوية أي خلاف يقع بينهما مهما كان نوعه بالوسائل السلمية وطبقاً للإجراءات المبينة بعد، إذا لم يمكن تسويته بالوسائل الدبلوماسية المعتادة وأن كل خلاف يقع بين الفريقين خاصاً بحقوقهما المتبادلة يعرض للتحكيم القضائي ويتعهد الفريقان بالخضوع لقراراته؛ وتعرض المسائل الأخرى على لجنة للمصالحة، فإذا لم يقبل الطرفان حكمها أحيلت المسألة على مجلس عصبة الأمم ويتبع المجلس في شأنها نص المادة 15 من ميثاق العصبة

وتنص المادة الرابعة على أنه إذا ادعى أحد المتعاقدين بأنه وقع انتهاك لنص المادة الثانية من هذه المعاهدة أو نص المادتين 42 و43 من معاهدة فرساي، فأنه يعرض الأمر على مجلس العصبة؛ وأنه إذا اقتنع المجلس بوقوع هذا الانتهاك فأنه يدعو الدول الموقعة على هذه المعاهدة حالاً، وهي تتفق فيما بينها بالإجماع على معاونة الدولة التي وقعت ضدها المخالفة؛ وأنه إذا وقع انتهاك للمادة الثانية من هذه المعاهدة أو المادتين 42 و43 من معاهدة الصلح، فإن باقي الدول الموقعة تتعهد بمعاونة الدولة التي وقع ضدها الانتهاك حالما يثبت أن الاعتداء وقع دون مبرر، سواء كان ذلك بعبور الحدود، أو وقوع الأعمال العدائية أو حشد القوات المسلحة في المنطقة المجردة؛ هذا ويصدر مجلس العصبة قراراته في الموضوع الذي يرفع إليه طبقاً للفقرة الأولى، وتتعهد الدول الموقعة أن تتبع توصياته بشرط أن يوافق عليها بالإجماع من جميع الأعضاء ماعدا ممثلي الفريق الذي ارتكب الاعتداء

وتنص المادة الخامسة والأخيرة على أن الدول الموقعة تضمن تنفيذ نصوص المادة الثالثة من هذه المعاهدة. . . الخ

هذه خلاصة وافية لميثاق لوكارنو؛ ونلاحظ أن الميثاق يرمي قبل كل شيء إلى تأمين السلام بين فرنسا وألمانيا عن طريق تأمين سلامة الحدود الألمانية الفرنسية، وأنه يؤيد معاهدة الصلح بقوة فيما أوردته خاصاً بتجريد منطقة الرين من وسائل الدفاع، وأنه ينوه بصفة خاصة بالأهمية التي تعلقها فرنسا على استبقاء هذه المنطقة بحالتها التي قررتها معاهدة الصلح؛ ونلاحظ من جهة أخرى أهمية الميثاق فيما يتعلق بتسليم ألمانيا نهائياً بالأوضاع والحدود التي قررتها معاهدة الصلح على ضفاف الرين، وفيما ينطوي عليه ذلك من نبذها نهائياً فكرة المطالبة بتعديل حدودها الغربية واستعادة ولايتي الالزاس واللورين

ونستطيع أيضاً أن نقدر أهمية النتائج الخطيرة التي تترتب اليوم على إنكار ألمانيا لنصوص معاهدة الصلح، ونصوص ميثاق لوكارنو؛ فهي تحطم اليوم آخر أغلال فرساي العسكرية وتحقق سيادتها العسكرية كاملة في منطقة الرين، وتواجه خصيمتها القوية (فرنسا) فيما يتعلق بوسائل الدفاع عن حدودها وجهاً لوجه؛ ثم هي تعلن ضمناً أنها لا تقبل الأوضاع والحدود المقررة لحدودها الغربية، وأنها في حل من أن تعود غداً إلى المطالبة بالالزاس واللورين

هذا وسنعرض في فصل آخر إلى بواعث والأسباب التي تذرعت بها ألمانيا لتحقيق غايتها والى الآثار الدولية التي يمكن أن تترتب على تصرفها

(للبحث بقية)

(* * *)