مجلة الرسالة/العدد 142/التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
مجلة الرسالة/العدد 142/التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
3 - التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
للأستاذ إسماعيل مظهر
أرى واجباً عليَّ قبل المضي في موضوع هذا المقال أن أبدأ باستدراك لابد منه. فقد عاب عليَّ بعض أصدقائي من المفكرين أني أنكرت فيما كتبت ناحية ذات شأن من نواحي الحياة في مصر ولم أعرها التفاتاً. ويعتقد هؤلاء الأصدقاء أن لتلك الناحية خطرها في صبغ الحالة الاجتماعية في مصر بصبغة خاصة. ولو أنهم عنوا بتلك الناحية شيئاً غير الأزهر إذن لكان لما يعيبون به عليَّ من الوزن قدر غير يسير؛ أما وأنهم يعنون الأزهر ويقولون بأنه معسكر ثالث من معسكرات العوامل المؤثرة في الحالة الاجتماعية في مصر، ينبغي لنا أن نحسب حسابه، وأن نتناوله بالتحليل والنقد، وأن نزن أثره في تكييف الحالات الاجتماعية، فأكبر ظني أني لن أسلم برأيهم مهما ساقوا في سبيل إثباته من بينات. ذلك بأن بينة واحدة تكفي لهدم جميع ما يقيمون من دلائل، فأن القوى التي تؤثر في حالة اجتماعية بعينها، إنما هي القوى الموجبة لا القوى السالبة، والأزهر، ولا شبهة، قوة سالبة. قوة اتجهت بكل ما فيها من عوامل الحياة إلى الأخرويات لا إلى الدنيويات
وأنت ترى في كل الأطوار التي تقلبت فيها الأمم منذ بداءة العصر الإنتاجي الحديث أن القوى السالبة فيها انحصرت في فئتين: الأولى رجال الدين، والثانية رجال الحكومة، وهما بما فيهما من صفات السلب والمحافظة كانتا في كل الحالات دريئة طالما حمت جسم المجتمع من كثير من الهزات العنيفة والانقلابات الخطيرة التي يجنح إليها الغلاة من المصلحين أو السياسين، وإن لهذا الموضوع لظرفاً آخر غير هذا الظرف قد يتاح لنا فيه أن نبحثه بحثاً أوفى
فرغنا في مقالنا الثاني من الكلام في التطفل الاجتماعي وأحطنا ببعض ظواهره، وأثبتنا أن هذه الظاهرة تنخر في عظام مجتمعنا كما ينخر السوس الحب. واليوم ننتقل إلى ظاهرة اجتماعية أخرى، لا تقل عن ظاهرة التطفل الاجتماعي فعلاً وأثراً، تلك ما أسميه ظاهرة (الرجعية)، ولا أعني بها رجعية فكرية أو سياسية أو غير ذلك، فلو أنها كانت من هذا الطابع لهان الخطب، ولما أعرتها كبير اهتمام. ذلك بأني أعتقد أن بعض ظواهر الرجعية، كالرجعية الفكرية أو السياسية، وما يجري مجراهما، تحمل في تضاعيفها أسباباً تولد قوى ارتقائية، وإنما أعني بها الرجعية الاجتماعية، وأكبر ظواهرها عزوفنا عن التفقه بفقه ثقافتنا التقليدية
ولا مرية في أننا نحتاج إلى تعريف هذه النظرية الجديدة التي نسوقها اليوم لتكون أساساً في علاج حالات اجتماعية بعينها. بل نقول إن بعدنا عن درس هذه النظرية كان سببا من الأسباب الرئيسية التي هيأت المقتضيات الأولية للشعور بأننا قد أقدمنا على أزمات اجتماعية قد تكون في المستقبل بالغة منتهى الخطورة
أما ما نعني (بالثقافة التقليدية) فمجموعة الحالات والملابسات التي ينشأ شعب من الشعوب مكتنفا بها من حيث طبيعة الأرض والإقليم، وما يتطلب ذلك من العكوف على فن خاص من فنون الحياة. وبمعنى أوسع تدل الثقافة التقليدية على العناصر التي ورثها شعب من الشعوب على مدى الأزمان من طريق التأثر الطبيعي بالبيئة والمحيط، كما تدل على مجمل ما ثبت في عقليته باللقاح السُّلالي من عادات وأساطير وعلوم وآداب، نشأت بنشأته في مرباه الأصيل. وعى الجملة نقول إن الثقافة التقليدية لشعب من الشعوب إنما هي في الواقع جماع ما يرث من صفات حيوية ومعتقدات وفنون عن أسلافه الأولين
وما كان لشعب من الشعوب أن يحاول الإفلات من أقطار ثقافته التقليدية إلاّ وباء بالفشل المحقق فيما يحاول. ذلك بأن الثقافة التقليدية هي الأصل الذي يرتكز عليه الطبع الماثل في أخلاق الأمم وطرق سلوكها في الحياة. وما قولك في ثقافة يرتشفها الطفل مع ما يرتشف من لبن أمه وهو رضيع ويشب مكتنفاً بها إذا يفع، ويفتن بفنونها إذا تَفَتى، ويغرم بها إذا اكتهل، ويموت وهي مرتسمة في تصوراته جميعاً إذا هَرِم. لا مرية في أنها تصبح جزءا من طبعه وركناً من أركان نفسه، بل إن شئت فقل إنها الركن الأصيل في حياته النفسية والعقلية، وماعداها توابع لها ولواحق بها. وإنما تتأثر التوابع بالأصل، وتتكيف اللواحق بالأرومة، فما من ثقافة حديثة تضاف إلى ثقافة تقليدية إلاّ وتكيف الدخيل تكيفاً يتابع فيه ما يحتاج إليه الأصيل من ملابسات. مثل ذلك أن الطبع المصري، وإن شئت فقل (المصرية)، لن تنسخ منها الأوربية شيئاً إن هي احتكت بها، وإنما تتكيف (الأوربية) بعوامل (المصرية) إن هما تنافستا في ميدان واحد. وليس في ذلك أي خطر على كياننا التقليدي. ولكن الخطر كل الخطر في أن نضعف من مصريتنا بالبعد عن ثقافتنا التقليدية فتكمن في تضاعيف النفس ولا تظهر إلاّ ضعيفة منهوكة، ونقوي من (الأوربية) فنأخذها غير مكيفة بمقتضيات ثقافتنا التقليدية. ناهيك بأننا لسنا أوربيين بالدم والتقاليد، فلا نستطيع أن نفهم من روح الأوربية على ما يفهمها الأوربي إلاّ ظواهرها الكاذبة، فنصبح وقد قمعنا مصريتنا من ناحية، ولحقنا عقولنا (بالأوربية) من جهة أخرى. وما كل هذا إلاّ طلاء خادع ومن ورائه تختفي الحقيقة التي يجب علينا جميعاً أن نفطن إليها، وأن ندرسها أوفر الدرس، وأن نكب على تفهم روحها أقوم فهم، حتى نستطيع أن نهيئ للأجيال الآتية سبيل التكيف بروح العصر تكيفاً مطابقاً لثقافتنا التقليدية، فنخطو بثبات نحو حالات اجتماعية أثبت من حالاتنا الحاضرة. وفيما تقدم من شرح مجمل ما نعني (بالرجعية الاجتماعية): فهي قمع لمقتضيات التكيف بثقافتنا التقليدية من طريق الفصل بين هذه الثقافة الموروثة وفنون الحياة في العصر الحديث
تتصل ثقافة الشعوب التقليدية اتصالاً وثيقاً بحالاتها المعاشية أولاً، فإذا استكملت هذه الثقافة الأسس المعاشية التي تعين الشعوب على البقاء، أثرت هذه الثقافة تأثيراً آخر في مزاج الشعب، نهايته أن تتكيف فيه أشياء ثلاثة هي في الواقع ظواهر هذه الثقافة. الدين واللغة والفن، وفي هذه الأشياء جماع ما يتجلى لناظريك في الأمم من الخصائص الأخرى كالخلق والحالات النفسية والشعورية إلى غير ذلك
ولابد لنا من أن نضرب بعض الأمثال لتفصح بعض الشيء عن حقيقة هذه النظرية. فالبداوة مثلاً ثقافة تقليدية لكل القبائل التي تعيش متبدية، وجميع ما يتصل بالبداوة أس من الأسس التي تقوم عليها ناحية من نواحي الحياة في أهل البدو، والبداوة لأهل البادية بداية الحياة، لأن فيها تتجلى روح القبيلة التي بها تحتفظ الجمعية ببقائها وتصون كيانها، ومن مجموع التصورات والإدراكات التي تتمثل لأهل البادية تنشأ الفكرة الدينية ثم تنشأ اللغة ثم ينشا الفن، وبعد ذلك تتحور الأخلاق فتأخذ طابعاً خاصاً، ومن ثم يتكون قانون العرف البدائي، وهلم جرَّا. فهل من المستطاع مثلاً أن تنفك جمعية طبيعتها البداوة عن كل ما توارثته على مدى الأجيال، وتنسلخ عن كل ما انتقل إليها عن أسلافها الأقدمين، فتلبس من الأخلاق ثوباً جديداً وتتبدل من التصورات والأفكار والأخيلة والعقائد واللغة والفن غيرها مما لا علاقة له بثقافتها التقليدية، ثم تستطيع بعد ذلك أن تحتفظ بكيانها الأصيل من غير أن يهز ذلك التغير الطارئ أعماق وجودها هزاً عنيفاً شديداً؟
كذلك الحال في أمة أخرى ثقافتها التقليدية صناعية كإنجلترا أو فرنسا مثلاً. فإن انفكاك أمة منهما من الصناعة معناه تحطيم لروحها الموروث، بل ولكل ما تقوم عليه حياتها أدبية ومادية من القواعد الأصلية في نفسيتها وغرائزها. وأظن أن المصريين لا يخرجون من مقتضى هذه القاعدة. فإن لمصر ثقافة تقليدية هي الثقافة الزراعية التي ورثناها بحكم وجودنا على ضفاف النيل. وواجبنا كأمة رشيدة أن نقيم كياننا أصلاً على أساس هذه الثقافة الموروثة ثم نكملها بمقتضيات ما يتطلب هذا العصر من ضروب الثقافات الأخرى. أما عكس هذه الآية، وذلك ما ننتحيه الآن مع الأسف، فنهايته الخراب العاجل والدمار الشامل
إن ما يزرع من أرض هذا الوادي الخصيب في هذا الزمن جزء قليل مما يمكن استغلاله، ولكنه على قلته لا يستغل الاستغلال الوافي، ولهذا أسباب يطول بنا شرحها، وإنما نذكر ذلك لنقول بأن كل عاطلي هذا الزمان إنما هم عاطلون بحكم الثقافة التي تلقوها وبحكم الظروف التعليمية التي نشأوا محوطين بها، وإن بلاداً كمصر تستطيع أن تعضد من السكان ضعف ما تعضد الآن، من العجيب أن تقوم فيها مشكلة تعرف بمشكلة البطالة، وأن تؤلف في سبيلها اللجان، وتعصر الأفكار، وتسهر الأعين الليالي الطوال، ونصف الأرض المزروع فيها يكاد يكون بوراً، والنصف المزروع لا يغل أكثر من نصف ما يجب أن يغل إذا أحسن القيام عليه بالطرق العلمية الحديثة، وأكبر ظني أن السبب المباشر في قيام هذه الحال إنما يرجع إلى أننا نسينا أن لنا ثقافة تقليدية يجب أن تكون أساس الحياة في هذا الوادي. وإذن يجب أن تقوم سياسة التعليم أول شيء على فكرة الاتصال بثقافتنا التقليدية
لقد مضينا حتى الآن نقيم قواعد التعليم على النظريات، لا على طبيعة بلادنا. لهذا نرى أن كل النتائج قد اتجهت اتجاها سلبياً، لا اتجاها إيجابياً وعكس ذلك ما نطلب أن يكون
جدت في مصر مشكلة عرفت بمشكلة العاطلين من المتعلمين، وما من سبب لهذه المشكلة في الواقع إلا السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا بالفصل بين ثقافة أولادنا التي يتلقونها بين جدران المدارس وثقافة آبائنا الأقدمين. وحدث في مصر أن انشقت معسكرين لا اتصال لأحدهما بالآخر، معسكر المتعلمين العاطلين الذين لا اتصال لهم بثقافة بلادهم التقليدية، ومعسكر الفلاحين الذين اتصلوا كل الاتصال بثقافة بلادهم الأصلية، من غير أن يلقحوا بشيء من مقتضيات الحياة في العصر الحديث. وبدأت في مصر روح التبرم بالحياة المصرية، نتلقى كل يوم ألواناً مما ينتج على يد المتعلمين الذين إن لم تعوزهم الهمة إلى العمل فقد يعوزهم المجال الذي يعملون فيه بقدر ما هيأهم التعليم النظري الذي عكفوا عليه. ولسوف نتقدم خطوة بعد أخرى متمادين في العمل على زيادة عدد معسكر العاطلين مادمنا نعكف على تعليم أولادنا على أساس النظريات لا على أساس العمليات، ومادمنا نخرج رجالاً لا يعرفون عن طبيعة بلادهم شيئاً. ولن أكون مبالغاً إذا قلت إن ابن الفلاح الذي يتخرج في كلية من الكليات العليا ليس بأكثر علماً بطبيعة بلاده من زميله ابن المدينة الذي يتخرج وإياه في معهد واحد. فإذا لم يجدا لهما مرتزقاً أصبحا صنوي بطالة، ولم يمتز ابن الفلاح على ابن المتحضر بشيء مما امتاز به جدودهما من أهل الريف من قدرة على الإنتاج والعيش بما تغل سواعدهم من ثمرات الأرض
ويخيل إليّ، وربما كنت على كثير من الحق فيما أتخيل، أن الخطأ الذي نلحظه في سياسة التعليم في بلادنا غير قاصر على قمع ثقافتنا التقليدية عن أن يكون لها أثر في تكويننا العقلي والخلقي، بل إننا أضفنا إلى هذه الخطيئة خطيئة أخرى هي أننا عملنا دائماً على تضخيم المعلومات التي يتلقاها الطلبة في مدارسنا الثانوية والكليات. فقد يخرج المتعلم إلى ميدان الحياة العملية بعد حياة أمضاها في جو من النظريات الصرفة، وهو يعتقد أنه قد مليء علماً بالحياة، ثم لا يلبث أن ينكشف له الحق وإذا به يرى أن كل ما يعرفه من نظريات العلم والأدب والفن لا يكفيه رزق يومه ولا يغنيه عن الاكباب على ناحية أخرى من نواحي الحياة العملية يدرسها لتكون له في الحياة عوناً على تحصيل الرزق. ولا شك أن ذلك يحدث ارتجاجاً عظيماً في حياة شاب ملأه الأمل في الحياة والزهو بما تجمع في رأسه في المعلومات. وما من ريبة في أن هذه الصدمة المعنوية لها أثرها البالغ في سلوك الشاب وتفكيره ربما لازمه طوال حياته
يعكف الشاب المصري بين جدران معهده على ناحية نظرية من العلوم البعيدة عن تجارب الحياة ويتلقى أنواع المعارف المختلفة ويمضي مكباً عليها عمراً حتى يكون له نظرة خاصة ويتجه بفكره وقلبه اتجاهاً معيناً وينشئ في عقليته قيما للأشياء وفناً ينظر من طريقه في الحقائق. وعلى الجملة يتكون منه طريق معارفه تكويناً يهيئه لأن يكون وحدة مستقلة في جسم اجتماعي. فإذا استبان له الواقع وواجه الحياة بما استجمع من معارف فعلم أن للحياة طريقا آخر غير الطريق الذي صرف فيه عمر وأن لها قيماً أخرى غير القيم التي يؤمن بها. وأن لها فناً غير فنه الذي ينظر من طريقه في حقائق الوجود، انقلب على الماضي ثائراً ومن المستقبل يائساً، وخيل إليه أن المجتمع جنى عليه فسلبه سلاح العمل وجرده من عدة الهجوم والدفاع في ميدان المنافسة الاجتماعية. وما بالك بهذا الشاب نفسه إذا هو أراد أن يرتد إلى مصريته فيصبح فلاحا كأبيه وأن يتصل مرة أخرى بثقافة بلاده التقليدية، فيتضح له أن علمه بطبيعة بلاده ضئيل، وأن معرفته بطريقة الحياة فيها لا توانيه بالعدة الكافية للحياة في وسط مصري أصيل، الفلاح سداه والفلاحة لحمته؟
من الأخطاء التي لا ينبغي لنا أن نغفل عن وزنها وزناً صحيحاً أن تعليمنا الأدبي في الكليات ينقل إلى الأذهان صوراً من الأخلاق وفنوناً من السلوك ومذاهب من الفلسفة النفسية تختلط في عقليتنا اختلاطاً عظيما حتى لنكوَّن منها مقاييس جديدة بعيدة جد البعد عن المقاييس الخلقية والسلوكية التي يؤمن بها الفلاح الساذج. فإن عصور الظلم والاستبداد التي عانى فلاح مصر في خلالها الأمرين، وتوالي الدول في الحكم على ضفاف النيل قد طبعت الخلق المصري بطابع خاص وصبغته بصبغة خاصة، ويجب أن يعنى بدرسها المصري المتعلم أوفى الدرس وأن يكب على تفهمها كل اكباب، قبل أن يظن أنه قادر على أن يعايش ذلك الفلاح الخشن الجاهل، وأن يعلم في أول ما يجب عليه أن يعلمه من جهة العلم بالنظريات قد عوضته عنه الطبيعة ذكاء حاداً وقدرة على التحايل وفطنة في إدراك الحقائق، وأيقظت فيه قوى العقل الباطن إيقاظاً شديداً حتى يكاد يكون عند بعضهم إلهاماً في توقع الأشياء وحدوثها. أضف إلى ذلك أن طبيعة البلاد ثقفته بثقافة ورثها على مدى العصور. ثقافة أحيت فيه روح اليقظة يتلقى بها الأحداث مكتمل الهمة ثابت القلب قوي الجنان عظيم الثقة بنفسه. فأن بلاداً تتوالى فيها دورات الزراعة كبلادنا، ويفيض فيها النيل في مواعيد محدودة، قد غرست في نفسه بالتجربة أن الحياة فرص يجب انتهازها، وعلمته أن إهمال ساعة أو يوم قد يفوت عليه رزق عام. هذا الفلاح الذي اكتملت ثقافته العملية من هذه النواحي وأمثالها، وهي كثيرة متعددة، هو بذاته موضوع درس عميق لا يستغني عن معرفته مصري يريد أن يعيش من فوق أرض مصر وعلى ضفاف نيلها مرتزقاً بغلاتها مفتناً في إحياء خيراتها. ولا شك في أن هذه الناحية الضخمة من نواحي ثقافتنا التقليدية مهملة في معاهدنا كل الإهمال، فالمصريون مع الأسف أجهل الناس بتاريخ بلادهم، ذلك في حين أن تاريخ كل شعب جزء لا يتجزأ من ثقافته التقليدية
فالشاب المتعلم الذي يدرس مذاهب اليونان الفلسفية وتاريخ روما واليونان ومذاهب الأدب ومقدمة القوانين إلى غير ذلك مما يتلقى الشباب بين جدران معاهدنا، من غير أن يتصل بثقافة بلاده التقليدية، شاب مصري بالاسم لا بالروح ولا بالتقاليد. هو يجهل طبيعة بلاده وخلق أهله وتاريخ العصور التي توالت على وطنه وشكل الحكومات التي تناوبت الحكم فيه، والميراث الذي ورثه عن أجداده الأقدمين. ولا ريبة في أن شاباً هذا شأنه إنما يخرج من معاهد العلم متعلماً جاهلاً، وإن شئت فقل يخرج متعلماً مشحون الذهن بالكثير من المعلومات التي من شأنها أن تفصله عن طبيعة بلاده وتصيره في محيطه غريباً، كأنه غلطة جديدة في طبيعة شيء قديم. ومن هنا يكون عجزه عن الكفاح في الحياة وعن الاتصال بالأرض التي أنشأته وأنشأت السلالة التي انحدر منها منذ أقدم عصور التاريخ
والمحصل أننا مشرفون على أزمات اجتماعية أساسها الظاهر الآن كثرة العاطلين من المتعلمين الذين فصل التعليم بينهم وبين ثقافة بلادهم التقليدية فأصبحوا فيها غرباء، وسنعالج في المقال التالي مجمل ما صورنا حتى الآن من نقائص حياتنا الاجتماعية من حيث علاقتها بالتعليم
(يتبع)
إسماعيل مظهر