مجلة الرسالة/العدد 147/النيل
مجلة الرسالة/العدد 147/النيل
أبرز (شخصية) في العالم
عن مجلة (اتال) الفرنسية
إن المشكلة الحبشية مهما يكن حلها هي في الحقيقة وليدة معضلة النيل وذيولها الخفية
سُئل مرة الكولونيل لورنس: (أية شخصية في العالم أكبر نفوذاً وأعظم شأناً؟) فأجاب هذا الرجل الغريب الذي يعد أكبر مخاطر في عصرنا بكلمة واحدة هي: النيل
إن في جواب لورنس ما يدعو لأول وهلة إلى الاستغراب لأنه أنزل النهر منزلة العاقلين وجعل منه (شخصية) بارزة، ولكنه لم يخرج بتحديده وتعريفه عن اعتقاد قدماء المصريين في النيل، فضلاً عن أن للكونيل لورنس ولكل إنكليزي سبباً يحمله على مجاراة الأقدمين في اعتقاده. وهذه الرواية التي تمثلها إيطاليا وإنكلترا ويخشى أن تنتهي بمأساة عالية، أليس بطلها هذا النيل، بل هذه الشخصية المقدسة التي عبدها الإنسان قديماً ولا يزال يعبدها إلى اليوم؟
ما فتئت بريطانيا العظمى منذ أنشأت إمبراطوريتها الاستعمارية تطمع في السيادة على البحار، وفي التسلط على أهمّ المعابر البحرية حتى تم لها ذلك؛ ففي قبضتها الآن كل المغاليق التي تؤمن مواصلاتها بتلك الإمبراطورية المترامية الأطراف، وأخصها الهند كبرى مستعمراتها وأغناها وأصعبها مراسا
أدركت إنكلترا منذ حملة بونابرت على مصر أن تأمين طريق الهند يقضي ببسط نفوذها على بلاد الفراعنة دون أن يشاركها فيه أحد. ثم جاء فتح قنال السويس باعثاً آخر على تشبثها بهذا النفوذ. ومن تدبر سياسة إنكلترا في خلال قرن كامل رآها تدور كلها على محور واحد، هو سلامة طريق الهند. فكل شبح تتخيل فيه ما يمس هذه السلامة عاجلاً أو آجلاً حاذرته وسعت إلى طمسه. هكذا فعلت وكذا تفعل الآن في موقفها السلبي تجاه الغزوة الإيطالية
إن الإنكليز الذين يقبضون في السويس وعدن على مغلاقي البحر الأحمر لم يزعجهم وجود إيطاليا في إريتيريا، ولكنهم وجفوا إذ رأوا موسوليني طامعاً في البلاد التي ينبثق منها النيل الأزرق، ولذلك نراهم يلجئون إلى كل الوسائل لإحباط مساعي الرجل الذي يحلم بإعادة الإمبراطورية الرومانية
النيل واهب الخيرات
النيل إذن شخصية كبيرة كما عرفه الكولونيل لورنس، وقد يكون أكبر شخصية في تاريخ الشعوب التي عمرت شواطئ البحر المتوسط. قال هيرودوت قديماً: (مصر هبة من هبات النيل) وهذه حقيقة لأن مصر قيمتها بنيلها، ولولاه لكانت مفازة قاحلة لا شأن لها، فهي شقة من الأرض تمتد من النوبة إلى الدلتا ويجري فيها خط طويل دائم الاخضرار، ولولا هذا المجرى الحيوي الذي ينساب في أحشائها ويروي غليلها لما كان للإنسان والنبات والحيوان حياة فيها، لأنها لا تعرف المطر إلا نادراً
في شهر يونيه ترتفع مياه النيل فتفيض على الأراضي ناشرة عليها طبقة من الغرين الذي يعد من أحسن أنواع السماد. ويبلغ معظم فيضانه في أول أسبوع من شهر أغسطس، فترتفع مياهه إلى ستة أمتار، ثم تتناقص تدريجاً فيأتي الفلاح ويشق وجه الأرض بسكته التاريخية التي تشابه سكة سلفه منذ ألوف السنين ويستغل خيراتها في شهري أبريل ويونيه
جعل النيل من مصر بلداً خصباً غنياً، فلا غرو أن سبق المصريون الأقدمون شعوب الأرض في ميادين الحضارة والثقافة. كانت مصر موطئاً لثماني عشرة سلالة من الفراعنة قبل ظهور موسى، وكانت مسرحاً للحوادث التاريخية الكبيرة قبل أن تظهر للوجود أشور والفرس واليونان. ثم كانت مقصداً لطلاب العلم والفلسفة والثقافة من جميع الأنحاء، فهي إذن كانت مهذبة الإنسانية وحاملة نبراس المدنية في العصور القديمة
ولكن إلى أي شيء يعزى تفوقها في تلك العصور التي كانت شعوبها في حالة البربرية؟ كلمة واحدة تجيب على هذا السؤال، وهي: النيل
لقد تعلم المصري القديم كل شيء من نيله، ولأجل نيله استنبط علم الفلك لكي يحدد أوقات الفيضان، واخترع التقويم والحساب، وعلم الهندسة والمساحة، وإنشاء السدود وشق الترع، لكي يستثمر النيل وينتفع بخيراته. وإننا لنجد ذكر النيل ورسومه في أساطير مصر وفي كتب ديانتها، وفي كل شأن من شؤونها، فهو من مصر كالروح من الجسد
منبع النيل: أين منبع هذا النهر العجيب واهب الخيرات؟
كان في اعتقاد الأقدمين أن مخرج النيل من جبال القمر، وهذا الاعتقاد الذي يظهر لأول وهلة أنه وليد الخرافات مبني على حقيقة عرفت يوم اكتشف منبعه الأصلي، وهي أن أصول النيل تخرج من أعالي (أوجاموازي)، وهذه اللفظة معناها (بلاد القمر). وقد ظلت هذه الأصول مجهولة حتى أواسط القرن الماضي؛ وحاول كثيرون من الرحالة أن يهتدوا إلى منبع النيل فلم يظفروا بطائل؛ فمحمد علي أوفد ثلاث بعثات بين سنتي 1840 و1842، فكان نصيبها الإخفاق؛ والفرنسي دارنو لم يصل إلى أبعد من الدرجة 42 من العرض الشمالي؛ والإيطاليان مياني ودبونو، والإنكليزي بتريك، والفرنسي لاجان، لم يجاوزا الدرجة الثلاثين. وظل منبع النيل سراً مجهولاً إلى أن اكتشف الرحالة الإنكليزي سبيك بحيرة تانجانيقا بين سنتي 1857 و1859 فإذا هي مصدر النيل. وفي سنة 1860 عاد يرافقه جرانت فحدد بتدقيق مخرجه. فمنبع النيل الأبيض إذن هو بحيرة تانجانيقا العظيمة التي تزيد مساحتها على 70 ألف كيلو متر مربع، وموقعها يعلو عن سطح البحر نحو 1300 متر
يتألف النيل الأبيض من شلالات ريبون، ويسير قاطعاً المستنقعات والقفار والبحيرات، وضاما إليه بعض الأنهر الصغيرة حتى يصل أرض الفراعنة، فينساب بين سهولها وحيدا لا يعترضه شيء إلى أن يصب في البحر المتوسط. وطوله من منبعه إلى مصبه 6280 كيلومترا، وهو أعرض من نهر الأمازون في البرازيل، وأطول من المسيسيبي في الولايات المتحدة
أما النيل الأزرق فمصدره بحيرة تانا في الحبشة، ويتصل بأخيه النيل الأبيض عند الخرطوم عاصمة السودان. وهو غزير المياه ولاسيما في فصل الأمطار في الحبشة. ومدته من يونيه إلى أواخر أغسطس. ولولا النيل الأزرق لما أروى النيل الأبيض وحده أراضي السودان ومصر، فهو إذن عامل كبير في حياة تلك البلاد الواسعة؛ ولا يمكننا أن نتصور مبلغ نكبة مصر بفقدانها هذا المجرى الحيوي
الحبشة والنيل الأزرق إن بلداً كمصر يتوقف عمرانها بل حياتها على نهر، لا بدع أن يهتم أولو أمره قديماً وحديثاً بالموضع الذي يخرج منه هذا النهر ويراقبوه بعين يقظى. وكما يشغل اليوم بال الإنكليز خطر تحويل مجرى النيل الأزرق إذا ما استولت على الحبشة دولة قوية، كذلك كان يشغل أفكار الفراعنة منذ ألوف السنين مثل هذا الخطر، فكانوا يحاولون دائماً التسلط على الحبشة التي كانوا يدعونها بلاد كوش لكي يأمنوه. ولم يكن الأحباش أنفسهم غافلين عن هذه الفكرة ولكنهم لم يستطيعوا إخراجها إلى حيز العمل الكبير لافتقارهم إلى الأدوات اللازمة، وحتى اليوم لا يزال ضعف الإمبراطورية الحبشية وتأخرها في مجالي الحضارة ضمانة لسلامة مجرى النيل الأزرق. أما إذا استولت على الحبشة دولة أوربية صناعية مثل إيطالية، فما يمنعها غداً إذا أرادت أن تستثمر - كما تشاء - الثروات الطبيعية في بلاد مساحتها نحو ضعفي مساحة فرنسا أن تحول النيل إلى غير مجراه الحالي؟
إن هذه الفكرة وحدها كافية لأن ترعب إنكلترا التي ترى في تحقيقها خراب السودان ومصر، ولا عجب إذا رأيناها في موقف الجد والحزم إزاء المشكلة الحبشية التي هي في الحقيقة معضلة النيل وذيولها الخفية.
(ترجمة العصبة)