مجلة الرسالة/العدد 147/بعض ما يذكر

مجلة الرسالة/العدد 147/بعض ما يذكر

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 04 - 1936



بعد الزهاوي!

بقلم عبد الوهاب الأمين

أصبح (الزهاوي) الآن في رحمة التاريخ الذي لا يرحم! ودخلت (كان) الخالدة عليه، فليس يشار إليه إلا بها. وذهب في عالم الشعر والخيال، بعد أن كان بشعره مرآة للحوادث المهمة في حياته وحياة عصره

ولقد كان في حياته - وما أشد وقع (كان) هذه! - يتمتع بعطف شديد من طبقة الأدباء، بقدر ما كان مغضوباً عليه من الطبقات المتعصبة، ولقد يكون من المناسب أن أذكر الآن أنني كنت ممن نقدوا شعر (الزهاوي) بشدة، وقد ساقني إلى ذلك وقتئذ اختلاف عصري عن عصره بطبيعة الحال وبعد شقة التفاهم بين عاطفة شيخ من أدباء القرن التاسع عشر وميول شاب في القرن العشرين لم يطمئنه ويرضه أدب لا يعبر عن ميوله؛ وكنت في ذلك الحين أترقب التشجيعين المعنوي والأدبي بنقدي ذاك، فما راعني إلا ذلك اللوم والعتاب الذي فجأني من جماعة كثيرين كانوا مجمعين على أحقية النقد، غير أن ذلك لم يمنعهم من أن يقابلوه بشيء غير قليل من التذمر! حتى لقد بلغني أن أحد من كان بيدهم الأمر حينئذ أشار إلى رئيس تحرير الجريدة التي كنت أشتغل بها أن يطلب مني الكف عن نقد (الزهاوي)!

وكنت في ذلك الوقت اشتغل بالصحافة، فلم يسعني إلا النزول على ذلك الطلب، وكففت عن الكتابة في تلك الجريدة، غير أني تابعت نقده في غيرها!

لقد أوخذ (الزهاوي) على بعض عقائد له جاهر بها في حياته، وعرف له فيها كثير من الإغراق والتطرف، كما أنه كان يجد على تطرفه هذا كثيراً من المشجعين. وفي رأيي أن المؤرخ الذي سيكتب تاريخ حياة (الزهاوي) جدير به أن ينظر في هذا الأمر بدقة عند كتابته حياة الفقيد، فعلى فهم هذه الناحية من حياة (الزهاوي) يتوقف تقدير أدبه ومدى تأثيره، وما له وما عليه، فلقد كان فقيدنا متطرفاً بالرغم منه. إذ أن ما اعتوره من الأمراض العصبية والأمراض الجسدية المزمنة، جعله كذلك؛ ومن هنا يدرك القارئ أن رأيه في (اللذة والألم) الذي ناقشه فيه الأستاذ العقاد قبل سنين، لم يكن مجرد إغراق منه كان يقصده للظهور بمظهر المخالف، بل كان في الحقيقة يمثل حالته النفسية والعصبية، فقد كان يرى أن الألم في الحياة أمر قائم بذاته، وأن اللذة هي انعدام الألم، وذلك طبيعي بالنسبة له؛ فما كان يشعر باللذة في حياته إلا في الوقت الذي ينصرف فيه الألم الجسدي عنه!

وقد تنبه الأستاذ العقاد إلى هذه الناحية عند التعقيب على تلك المناقشة فأشار إلى أنه لا ينكر أن (الزهاوي) يكابد من حياته ما له دخل كبير في تمكين هذه العقيدة من نفسه

فالتطرف إذن هو الظاهرة التي تتركب عليها نفسية الزهاوي في حياته الشخصية وحياته الأدبية؛ وإذا أدرك الناقد أو المؤرخ علة ذلك في تكوينه وفي أعصابه، فسيدرك بطبيعة الحال أن الإغراق والتطرف في شعره قد يؤديان في بعض الأحيان إلى ظهوره بمظهر المنقلب على نفسه، وعلى ذلك فليس في شعر (الزهاوي) تناقض أو رجوع، بل هي حالات نفسية جارفة تقلبت عليه في وقتها فأنطقته بما خيل إليه أنه لا يتعارض وآراءه السابقة، أو للتخلص من الضيق الذي سببته له بعض آرائه الجريئة، كان يريد به تخفيف وطأة الطبقات المتعصية عليه؛ وفي هذه الناحية كان يبدو على شعره الشيء الكثير من التعمل الظاهر فيه حمله على نفسه، وهنا لا يصح اعتبار مثل هذه الحالات ميزاناً للحكم على آثاره الأدبية والشعرية

يخطئ أشد الخطأ من يفاضل بين الزهاوي ومعاصريه من شعراء العراق، فإنه فضلاً عن سخافة فكرة المفاضلة لن تتوفر فيها الشروط الأساسية المطلوبة، فإنهم ليسوا (معاصريه) حقاً ولا يمتون إليه بصلة العصر. بل كان عمره المديد المليء بخدمة الشعر والمساهمة فيه مثار الأشكال في فهم شعره وحياته. فهو من بقايا القرن التاسع عشر، وليس من رجال القرن العشرين، وما كان بوسعه أن يخرج على نفسه في هذا الأمر طيلة حياته

وإذا كانت خطوات البشرية في عصورها السابقة للقرن التاسع عشر قريبة المدى من بعضها، وإذا كان التشابه والتقارب بين تلك العصور موجودين فهما في هذا العصر قد بلغا آخر درجات التباعد. وقد مرت مئات السنين على البشرية في (عصور الظلام) فما كان لتلك السنين المديدة أن تؤثر تأثير بضع سنوات في نهاية القرن التاسع ومطلع القرن العشرين، فيكاد هذان العصران يمثلان (سن الرشد) للبشرية والدهر، ففيهما استيقظ الإنسان وأحس وأدرك، وظل كذلك يخطو بسرعة فائقة حتى لقد كاد أن يكون من المشكل التفاهم بين الولد وأبيه. كأن بضعة السنين التي بينهما قد أقامت بين تفاههما حواجز العصور!

من هنا يدرك القارئ السبب في وجود هذا البعد الكبير بين نفسية (الزهاوي) وبين نفسية شباب اليوم وسبب نقمتهم على أدبه، ومع ذلك فقد أرضى (الزهاوي) كثيرا من نزعات الشباب وأفكاره، ودافع عن تلك الرغبات دفاعاً شغل حياته الطويلة ووسمها بسمات لا يستطيع مؤرخه إهمالها، فقد كان من مناصري المرأة والسفور والتجدد، وظل كذلك إلى آخر حياته، برغم ما جرته عليه هذه الأفكار من المتاعب له، ومن هنا أيضاً تتضح لنا أهمية الرجل في العصرين اللذين كان له نصيب الحياة فيهما، ومدى تأثيره في كليهما

وبعد فهل يحق لنا أن نتفاءل بهذه الحركة التي قام بها بعض المعجبين بأدب الزهاوي؟ وهل لنا أن ننتظر منهم غير ما تعودنا انتظاره في مثل هذه الحال من دراسة منتظمة لعصره وحياته وآثاره، أم لا تزيد هذه الهيجة على نصب تمثال له فقط؟

على كل حال، إننا ننتظر ونأمل أن تتشكل لجنة من المعجبين بشعره من الأدباء لتدوين تاريخ حياته، لأنه والحق يقال، قد كون في حياته فصلا كاملاً لحياة العراق في ملتقى عصرين مهمين من حياة البشرية

(بغداد)

عبد الوهاب الأمين