مجلة الرسالة/العدد 148/أعلام الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 148/أعلام الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 05 - 1936



محمد بن شهاب الزهري

بقلم السيد ناجي الطنطاوي

محمد بن شهاب الزهري، علم من أعلام التابعين، وإمام جليل من أئمة المسلمين، روى الحديث عن أصحاب رسول الله وعن أبناء أصحابه. وكان نادرة في الذكاء وقوة الحافظة والصبر على طلب العلم. ثقة، أميناً في الإسناد شهد له الخلفاء والعلماء بالتفوق والفضل حتى قال ابن تيمية: حفظ الزهري الإسلام نحواً من سبعين سنة، وكان مع ذلك سخياً كريماً يبذل ماله في سبيل العلم

اسمه ونسبه ومولده

هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله ابن الحارث بن زهُرة بن كلاب بن مرة، أبو بكر القرشي الزهري. سمي بالزهري نسبة إلى زهرة بن كلاب، كان أبو جده عبد الله بن شهاب شهد مع المشركين بدرا، وكان أحد النفر الذين تعاقدوا يوم أحُد لئن رأوا رسول الله ليقتلنه أو ليقتلنّ دونه. وقد سئل الزهري مرة: هل شهد جدك بدرا؟ قال نعم، ولكن من ذلك الجانب! أي من جانب قريش

وانتسب الزهري مرة أمام هشام بن عبد الملك، فقال له هشام: أن كان أبوك لنفّار في الفتن. فقال: يا أمير المؤمنين عفا الله عما سلف

وقال: نشأت وأنا غلام، ولا مال لي، منقطع الديوان، فكنت أتعلم نسب قومي من عبد الله بن ثعلبة، وكان عالماً بنسبهم وهو ابن أختهم وحليفهم

وقال ابن حيويل: لم يكن له كتاب إلا كتاب فيه نسب قومه، أما سنه وولادته فلم تعلم على وجه الصحة لاختلاف المؤرخين فيها فهي إما سنة 50 أو سنة 51 أو سنة 52، وقيل بل سنة 58

صفته:

قال سفيان: رأيت الزهري أحمر الرأس واللحية، وفي حمرتها انكفاء قليل، كأنه يجعل فيها كَتَّما، وكان أعَيمِشاً وعليه جُمَيحة وكان رجلا قصيرا، قليل اللحية، له شعرات طوال، خفيف العارضين

طلبه العلم

دخل مرة على عبد الملك بن مروان، فذاكره عبد الملك، فرأى فيه نباهة فوصله، وأمر له بشراء دار قطيعة بالمدينة، وبرزق يجري عليه، وأعطاه خادماً وقال له: اذهب فاطلب العلم، فإني أرى لك عينا حافظة، وقلبا ذكياً، وائت الأنصار في منازلهم. قال: فأتيت المدينة، فإذا عند الأنصار علم جمّ، فأخذته عنهم

وقال إبراهيم بن سعد: ما سبقنا الزهري بشيء من العلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل عما يريد، وكنا تمنعنا الحداثة

وقال أبو الزناد: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس بعد أن كنا نطوف نحن وإياه معنا الألواح والصحف ونحن نضحك به، وكان يكتب الحديث فيحفظه ثم يمحوه

وقال صالح بن كيسان: كنت أطلب العلم أنا والزهري فقال: تعال نكتب السنن فكتبناها ما جاء عن النبي ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة فكتب ولم أكتب فأنجح وضيعت

قوة حافظته:

كان يقول: ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته، وكان يكره أكل التفاح وسؤر الفأر ويقول إنه ينسي، وكان يشرب العسل ويقول إنه يذكر. وقال: كتب عبد الملك إلى أهل المدينة كتاباً في طومارين يعاتبهم به، فقرئ على الناس عند المنبر، ولم يكن سعيد بن المسيب حاضرا، فلما انفض الجمع قال سعيد لجلسائه: ما كان في ذلك الكتاب؟ ليت أنا وجدنا من يعرف لنا ما فيه، فلم يتكلم أحد. فقلت له: أتحب أن تسمع كل ما فيه؟ قال نعم قال: فقرأته له من أوله إلى آخره لم أنس منه كلمة

وقال: ما استفهمت عالماً قط، ولا رددت شيئاً على عالم قط يعني أنه كان يحفظ ويفهم من أول مرة

وقال الإمام مالك: حدثني الزهري بحديث طويل فلم أحفظه فسألته عنه مرة ثانية فقال لي: أليس قد حدثناكم به؟ فقلت: بلى، فأردت أن أستخرجه، فقلت له: أما كنت تكتب ما تسمع؟ فقال: لا فقلت: أما كنت تستعيد؟ فقال: لا

وقال مالك حدثنا الزهري بمائة حديث، ثم التفت إلي وقال: كم حفظت يا مالك؟ فقلت: أربعين حديثا، فوضع يده على جبهته ثم قال: إنا لله، كيف نقص الحفظ؟

وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل هشام بن عبد الملك الزهري أن يملي على بعض ولده، فدعا بكاتب فأملى عليه أربعمائة حديث

ثم إن هشاماً قال له: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول فما غادر حرفاً

منزلته عند الخلفاء

كان عمر بن عبد العزيز يقول: عليكم بابن شهاب، فأنكم لا تلقون أحداً أعلم بالسنة الماضية منه. قال معمر وإن الحسن وضرباءه لأحياء يومئذ. وقال عمر بن عبد العزيز أيضاً: ما ساق الحديث مثل الزهري، وما أتاك به الزهري بسنده فاشدد يدك عليه

وقد تقدم قول عبد الملك بن مروان له: إني أرى لك عيناً حافظة وقلباً ذكياً

وقال: لما توفي عبد الملك لزمت الوليد، ثم لزمت هشاماً بعده وحججت معه سنة 106 فكنت مع ولده أعلمهم وأفقههم وأحدثهم ولم أفارقهم حتى مات هشام بالمدينة

منزلته عند العلماء

قالوا: كان الزهري ثقة كبير الحديث والعلم والرواية فقيهاً جامعاً وقال الليث عن جعفر بن ربيعة: قلت لعراك بن مالك من أفقه أهل المدينة، فذكر سعيد بن المسيب، وعروة وعبد الله بن عبد الله، قال عراك: وأعلمهم عندي جميعاً ابن شهاب لأنه جمع علمهم إلى علمه

وقال مكحول: ما بقي على ظهرها أعلم بسنة باقية من الزهري وقال أيوب: ما رأيت أحداً أعلم من الزهري. فقال له صخر بن جويريه: ولا الحسن؟ قال: ما رأيت أعلم من الزهري وقال عمرو بن دينار: مثل هذا القرشي ما رأيت قط، وقال سعيد ابن عبد الرحمن بن جنبل: لولا ابن شهاب لضاعت أشياء من السنن، وقال سفيان بن عيينة: جالست الحسن وغيره، فما رأيت مثل الزهري وقال الإمام مالك: بقي ابن شهاب، وماله في الناس نظير، وكان إذا دخل المدينة، لم يحدث بها أحد حتى يخرج منها. وقد اتفق الأئمة على أن الزهري مات يوم مات وهو أعلم الناس بالسنة، واتفقوا على أنه كان أفقه من الحكم وحماد وقتاده وقال السمعاني: كان من أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقاً لمتون الأخبار، وكان فقيهاً فاضلاً

قال ابن عينية: ما رأيت أنص للحديث من الزهري

سعة علمه

قال علي بن المديني: له نحو ألفى حديث. وقال أبو داود: جميع حديث الزهري ألفا حديث ومائتا حديث نصفها مسند

وقال مالك: لقد أدركنا في مسجد المدينة سبعين ممن يروي الحديث وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أميناً، فما أخذت منهم شيئاً، لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا الزهري وهو شاب فازدحمنا على بابه

وقدم أحمد بن صالح العراق من مصر ليرى أحمد ابن حنبل، فاستأذن إليه فأذن له، وقام إليه ورحب به وقرّ به وقال له: بلغني أنك جمعت حديث الزهري، فتعال حتى نذكر ما روى الزهري عن أصحاب رسول الله ، فجعلا يتذاكرن ولا يغرب أحدهما على الآخر حتى فرغا، قال الراوي: وما رأيت أحسن من مذاكرتهما. ثم قال أحمد بن حنبل لأحمد ابن صالح: تعال حتى نذكر ما روى الزهري عن أولاد رسول الله ، فجعلا يتذاكرن ولا يغرب أحدهما على الآخر، إلى أن قال أحمد بن حنبل: عن الزهري عن محمد بن جبير ابن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، قال النبي : ما يسرني أن لي حمر النعم، وأن لي حلف المطيبين. فقال أحمد بن صالح سألتك بالله إلاّ أمليته عليّ. وقال: لو لم أستفد بالعراق إلا هذا الحديث كان كثيراً

وقال الليث بن سعد: ما رأيت عالماً قط أجمع للعلم من ابن شهاب. لو سمعته يحدث في الترغيب، لقلت ما يحسن إلا هذا؛ وإن حدث عن الأنبياء وأهل الكتب، لقلت ذلك؛ وإن حدث عن الأعراب والأنساب لقلت إلا هذا. قال ابن إسحاق: سألت الزهري عن شيء، فقال ما بقي أحد فيما بين المشرق والمغرب أعلم بهذا مني وكان يقول: مكثت خمسا وأربعين سنة أنقل أحاديث أهل الشام إلى الحجاز، وأحاديث أهل الحجاز إلى الشام، فما أجد أحدا يطرفني بحديث لم أسمعه

سخاؤه

قال الليث: وكان من أسخى الناس، كان يعطي كل من جاءه وسأله، حتى كان يقترض من عبيده ولا يرى بذلك بأساً، فقيض الله له على قدر صبره واحتماله: إما رجلاً يهدي له ما يسع السائلين، وإما رجلاً يبيعه بنظرة، وكان يطعم الناس الثريد في الخصب وغيره ويسقيهم العسل، وكان يسمر مع أصحابه على العسل

ونزل بماء من المياه مرة، فقال له أهل الماء: إن لنا ثماني عشرة امرأة مسنة ليس لهن خادم، فاستسلف ثمانية عشر ألفاً فأخدم كل واحدة منهن خادماً بألف، وقضى عنه هشام سبعة آلاف دينار وقال له لا تعد لمثلها تدان، فقال الزهري يا أمير المؤمنين حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي قال: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين

وأخدم الزهري في ليلة واحدة خمس عشرة امرأة من بني زهرة خمس عشرة وليدة، اشترى كل وليدة بثلاثين ديناراً

وقيل له إن الناس لا يعيبون عليك إلا كثرة الدين، فقال: وكم ديني؟ إنما ديني عشرون ألف دينار، وليس يرثني إلا ابن أخي هذا، وما أبالي ألا يرث عني شيئاً

وكان يقول: وجدنا السخاء لا تنفعه التجارب

وقال الإمام مالك: كان الزهري من أسخى الناس، فلما أصاب تلك الأموال قال له مولى له وهو يعظه: قد رأيت ما مر عليك من الضيق والشدة، فانظر كيف تكون وأمسك عليك مالك. فقال له: ويحك، إني لم أر الكريم تحنكه التجارب فقال الحسين بن عبد الله الكاتب في هذا المعنى:

له سحائب جود في أنامله ... أمطارها الفضة البيضاء والذهب

يقول في العسر إن أيسرت ثانية ... أقصرت عن بعض ما أعطي وما أهب

حتى إذا عاد أيام اليسار له ... رأيت أمواله في الناس تنتهب

ومرّ به رجال من التجار وهو في قريته، والرجل يريد الحج، فابتاع منه بزاً بأربعمائة دينار إلى أن يرجع من حجه، فلم يبرح عنه الرجل حتى فرقه. . . فعرف الزهري في وجه الرجل ما كره. فلما رجع من حجه قضاه ذلك وأمر له بثلاثين ديناراً ينفقها في سفره. فقال له الزهري كأني رأيتك يومئذ ساء ظنك فقال: أجل. فقال: والله لم أفعل ذلك إلا للتجارة: أعطي القليل فأعطي الكثير!

وكان يخرج إلى الأعراب يفقههم ويعطيهم فجاءه رجل وقد نفد ما في يده، فمد الزهري يده إلى عمامة عقيل فنزعها وأعطاها الرجل، وقال لعقيل: أعطيك خيراً منها.

وقال له زياد بن أسعد: إن حديثك ليعجبني، ولكن ليست معي نفقة فأتبعك. فقال له: اتبعني أحدثك وأنفق عليك!

وفاته

كان له ضيعة في شَغَب: وهي أول عمل في فلسطين، وآخر عمل الحجاز، توفي فيها في رمضان سنة 124 على أصح الروايات ودفن في نشز من الأرض، وقبره قائم على الطريق ليدعو له كل من مرّ عليه. قال الأوزاعي: رأيت قبره هناك مسنماً مجصصاً مبيضاً فقلت: يا قبر كم فيك من حلم وعلم.