مجلة الرسالة/العدد 148/الإسلام والمدنية والعلم

مجلة الرسالة/العدد 148/الإسلام والمدنية والعلم

مجلة الرسالة - العدد 148
الإسلام والمدنية والعلم
ملاحظات: بتاريخ: 04 - 05 - 1936



طريقة النظر في العلم وفي الإسلام

بقية ما نشر في العدد الممتاز

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

بقي أن نقارن بين طريقة العلم في دراسة الفطرة والطريقة التي شرعها الإسلام للإنسان في النظر لنرى إن كان بينهما من التطابق مثل الذي تبين في المقال السابق أنه موجود بين العلم والإسلام

والأصل الأول عند العلم في النظر هو العقل، وكذلك هو في الإسلام. إن القرآن الكريم كله ينطق بأن الإسلام قام على العقل، وحاكم إلى العقل، وأمر باتباع العقل، بمختلف أساليب البيان؛ فتارة يتلطف ويرغب في استعمال العقل والفكر: (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون)، (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون). وتارة يظهر التعجب الشديد والتأفف من تعطيل العقل: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عُمُرا من قبله، أفلا تعقلون). وتارة يمدح أهل العقل ويخصهم بالخطاب: (وما يذّكر إلا أولو الألباب)، (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون)، (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)؛ ثم تارة يسلك سبيل الذم البالغ لمن يهملون عقولهم ويعطلونها: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)، (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) وفي هذا ما فيه من توكيد ناحية العقل وتنبيه الإنسان إلى أن من أخص خصائصه التفكير والتدبر والفهم والتعقل، فلا ينبغي له التنزل عن أخص خصائصه بتعطيل عقله وإلا فقد تنزل عن إنسانيته وصار في الأنعام أو شرا من الأنعام

ولقد بلغ من إكبار الإسلام العقل وتوكيده واتخاذه أصلاً ومرجعاً أن أباح للمسلم إذا تعارض العقل والنص أن يؤول النص إلى ما يقضي به العقل. والعقل هنا طبعاً ليس هو عقل الفرد، ولكن عقل المجموع؛ ليس هو العقل الخاص الذي يجوز عليه الخطأ، وكثيراً ما يخطئ، ولكن هو العقل العام الذي يستحيل عليه الخطأ، والذي لا يقتنع بشيء إنه الحق إذا قام عليه الدليل القاطع. فتشريع الدين تأويل النص إلى ما يوجبه العقل أو بالأحرى إلى ما يطابق ما ثبت عند العقل بالدليل القاطع، هو التنفيذ العملي في الإسلام لمبدأ استحالة التناقض بين الحقائق ولمبدأ وجوب الأخذ بالحق كيفما ظهر وأينما كان. فالحق في العلم وفي الإسلام أحق أن يتبع لذاته لا لغيره، وفي سبيل الحق يجب أن يجاهد الناس، وعلى الوصول إليه يجب أن يتعاونوا، وبه إذا وصلوا إليه يجب أن يستمسكوا. هذا هو أخص خصائص الروح العلمية في ميدانها، وهو في الوقت نفسه أخص خصائص المؤمن حتى في المعاملة. فإن الصفات التي ضمن الرسول للمسلم بها الجنة إذا هو ضمنها من نفسه في الحديث الكريم: (اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة؛ إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف: غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم) هذه الصفات ليست في صميمها إلا أخذاً بالحق في أعم صوره، واحتراماً له ووقوفاً عنده

لكن فخر العلم الحديث ليس هو جعله العقل أصل الأصول في النظر، ولكن هو ضبطه طريق النظر العقلي، حتى صار العقل به في مأمن من الضلال. إن قدماء العلماء والفلاسفة كانوا أيضاً يكبرون العقل ويتحاكمون إليه، وهذا المنطق القياسي الذي يعين الطريق الذي يجب أن يسلكه العقل في الاستنتاج ليكون بمأمن من الخطأ، هو من وضع أولئك القدماء. فليس للعلم الحديث على العلم القديم في هذا فضل، بل الفضل في توضيح طريق الإصابة في الاستنتاج، هو للعلم القديم أو الفلسفة القديمة كما تشاء أن تقول. لكن الذي غفل عنه القدماء، وانتبه إليه المحدثون، هو وجوب الاستيثاق من صحة المقدمات قبل القول بصحة النتائج، ولو صحت طريقة الاستنتاج. كان القدماء يعنون كل العناية بالاحتياط من الخطأ في الاستنتاج، ولو أنهم عنوا بصحة المقدمات عشر معشار تلك العناية لتغير تاريخ العلم، ولتغير تاريخ العالم بالتبع، ولما تأخر الرقي العلمي كل تلك القرون، لكن أكثر القدماء كانوا فيما يظهر يتغالون في الاعتماد على العقل وحده حتى جعلوه كل شيء، وجعلوه مستغنياً عن كل شيء. فالعالم أو الفيلسوف كان يرى كافياً في طلب الحقيقة أن يجلس ويفكر، ثم يفكر، كأن الحقائق كلها موجودة كامنة في النفس أو الروح، وكأن ليس على الإنسان إلا أن يستثيرها بالتفكير. من أجل ذلك لم تعش الفلسفة القديمة أو العلم القديم إلا بصحة التفكير على الأخص، وهي العناية التي أدت به إلى اكتشاف قوانين التفكير ووضع علم المنطق القياسي. أما المقدمات فكان العالم أو الفيلسوف يكتفي من الاستيثاق منها بالاقتناع النفسي والرجوع بها إلى ما يبدو له أنه بديهي لا يحتاج إلى برهان. ومن هنا دخل في العلم أو الفلسفة القديمة الشيء الكثير من الباطل، أو على الأقل مما هو غير ثابت؛ دخل فيها على أنه حق لا شك فيه، فكان عبئاً ثقيلاً على العقل عاقه عن التقدم الحقيقي طوال تلك القرون

ولقد جعلت تلك الطريقة أمر تمييز الحق من الباطل في العلم القديم من الوجهة العملية بيد المصادفة لا بيد العقل، فكان الإنسان إذا صادف الصحة في مقدماته الأولى أو بديهياته التي يُرجع إليها مقدماته نجا من الخطأ بعد ذلك لاجتماع ركني الإصابة لديه: صحة المقدمات وصحة التفكير. ومن هنا كانت علومه الرياضية أصح تراث منه وصل إلينا. أما إذا أخطأه التوفيق في المقدمات فلا تسل عن العجائب والغرائب التي كان يؤدي به إليها قياسه الصحيح من مقدماته العليلة. أنظر إليه وهو يحكم على شكل العالم أنه كرى لأن شكل الكرة أكمل الأشكال، أو يحكم على العالم أنه حي عاقل لأن ما هو حي وعاقل خير مما ليس بحي ولا عاقل. وتأمل ما جر إليه القول بحياة العالم وعقله من القول بأفلاك ذات نفوس وعقول كل فلك منها نشأت نفسه وعقله عن نفس الفلك الذي فوقه وعقله، وأشباه هذا مما يعجب له العلم اليوم كيف أمكن أن يتورط فيه العلم بالأمس، إذا العلم والفلسفة كانا شيئاً واحداً في العصر القديم

هذا النوع من التفكير الوهمي قد سد العلم الحديث بابه، وقطع أسبابه بايجابه أولا عدم قبول شيء على أنه حق حتى يقوم عليه البرهان القاطع، وبرجوعه ثانيا إلى التجربة والمشاهدة في تمحيص المقدمات. هذان هما المبدآن اللذان قامت عليهما الطريقة العلمية الحديثة، واللذان يرجع إلى التزامهما والتشدد في تطبيقهما كل ما وصل إليه الإنسان من تقدم في ميادين العلم الحديث

فأما المبدأ الأول مبدأ اشتراط قيام الدليل القاطع على صحة القضية قبل إدخالها في دائرة الحق فهو مبدأ سلبي، ولكنه في غاية الخطورة لأنه حال دون الخلط بين الحق والباطل، وميز دائرة الشك من دائرة اليقين، وجعل العلم على بينة من أمره فصار يعرف تماما أين هو من الحق ومن الباطل: صار يعرف أي القضايا هو فوق الشك وأيها في حاجة إلى التمحيص

لكن هذه المعرفة لم تكن لتغني عنه كثيرا لو لم يجد العلم وسيلة صادقة لتمحيص ما هو منه في شك، فيزيد باطراد في دائرة الحق المعلوم، وينقص باطراد من دائرة المجهول. لكنه وجد هذه الوسيلة في مبدئه الثاني مبدأ التجربة والمشاهدة. وهو كما ترى مبدأ إيجابي يقوم بجوار مبدئه السلبي الأول: يحرس الأول منطقة الحق أن يدخلها باطل، ويوسع الثاني حدود المنطقة باستمرار. ولقد اقتضى هذا أن يقصر العلم نفسه من ميادين البحث على ما يمكن الاحتكام فيه إلى التجربة والمشاهدة، أو كما عبر بعض العلماء فأحسن التعبير على الميادين التي يستطيع أن يسأل فيها الإنسان الفطرة فتجيب. والفطرة على حد تعبير عالم آخر دائماً تجيب إذا أحسن الإنسان سؤالها. وأكبر الفرق من الناحية العملية بين العلم القديم والعلم الحديث أن هذا عرف كيف يحسن استجواب الفطرة، وأن ذاك في الأوقات القليلة التي خطر له أن يسترشد بالفطرة لم يعرف كيف يحسن سؤالها بإجراء التجارب المنظمة، وإن عرف أحياناً كيف يسمع لها بمشاهدة بعض ما يجري حوله. وبالجملة فإن أكبر ما يميز العلم في عصره الحديث عن مثله في العصر القديم هو إجماع أهله على اتباع ذينك الأصلين: أصل التفرقة التامة بين اليقيني وغير اليقيني، وأصل تمحيص غير اليقيني بعرضه على التجربة والاختبار

هذان الأصلان اللذان هما قوام الطريقة العلمية، واللذان إليهما يرجع كل ما أدرك العلم في ميدانه من تقدم، ما شأنهما في الإسلام كما يتجلى في القرآن؟

إن الذي أنزل القرآن روحاً من أمره وهدى يهدي به الإنسانية سبل الحياة شاءت رحمته بعد أن جعل العقل أصل الأصول في النظر ألا يكل الإنسان إلى عقله من غير أن يبين له معالم الطريق ويحذره مهاوي الخطأ والضلال. فهو أولاً يوجب على الإنسان في القرآن ألا يُدخل في الحق إلا ما قام عليه البرهان والدليل أنه من الحق (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) وفي هذه الآية الكريمة نرى كيف ينبه الله الإنسان إلى أن الظن والتخمين ليسا من العلم والبرهان في شيء، وهو معنى لقي توكيداً عظيما في القرآن بوروده صريحاً في أكثر من آية. (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، وما لهم به من علم، إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً). (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً. إن الله عليم بما يفعلون)، وهذا بالضبط هو ما اهتدى إليه العلم الحديث وشدد من أجله في وجوب التفرقة بين الثابت الذي لا شك فيه، وغير الثابت الذي هو في حاجة إلى التمحيص، ومن هنا ترى أن التطابق تام في هذه الناحية أيضاً بين العلم وبين الإسلام

على أن هذا ليس هو كل ما وضح به القرآن سبيل الحق أمام الإنسان، فأنه كما حذره من الخلط بين الحق والباطل، ومن إنزال الظن والتخمين منزلة البرهان واليقين، دله على الطريق العملي الذي يتبين به وجه الحق فيما هو منه في شك: طريق استعمال العقل لا السمع والبصر. ومن العجيب أنك لا تكاد تجد في القرآن ذكراً للسمع والبصر إلا والعقل مقرون بهما مذكور معهما كأنما يريد الله أن ينبه الإنسان إلى ما بينهما وبين العقل من ترابط، فالعقل لا يتم إلا بأثرهما وهما لا ينفعان نفعهما إلا إذا كان العقل من ورائهما يوجههما وينظم عملهما، أو كأنما يريد الله سبحانه أن ينبه الإنسان إلى أن ما يكسب من علم أو معرفة راجع في صميمه إلى هذه الثلاثة، وأن عليه إذن أن يحسن استعمالها ويحذر إهمالها. على أن الإنسان لم يترك في هذا إلى مجرد الاستنتاج. فقد أنبأه الله صراحة في القرآن في معرض المن عليه أن علم الإنسان مصدره السمع والبصر والعقل كما ترى في آية النحل: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)، وأوجب عليه آيات كثيرة أن يحسن استعمال سمعه وبصره وعقله، نذكر منها آية واحدة هي فصل الخطاب في هذا الباب ألا وهي قوله تعالى من سورة الأعراف: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) فأنه ليس هناك أكثر حضاً على إحسان استعمال العقل وأدواته من هذه الآية الكريمة التي لم تكتف بتسوية الإنسان بالبهيمة أو جعله شراً منها إذا هو أهمل عقله وسمعه وبصره، بل أنذرته أبلغ إنذار أنه إن فعل ذلك فقد هلك إلى الأبد وحشر نفسه في زمرة أهل النار

فهذا أصل التجربة والمشاهدة قد لقي في صميمه من التوكيد في الإسلام ما يصغر بجانبه ما لقي من التوكيد في العلم وإن كان هو قوام العلم الحديث. والسر في هذا أن العلم لا يزال في الدور الذي يدرس فيه الفطرة ابتغاء الوقوف على أسرارها فحسب، أما الدين فيأمر باستكناه أسرار الفطرة ليزداد الإنسان بها هدى إلى رب الفطرة الذي فطرها وفطره، والإنسان إن لم يهتد إلى ربه فأنه لا محالة من الهالكين. ومهما يكن من اختلاف الغاية بين الدين والعلم فإن كل غاية العلم هي بعض غاية الدين، والطريق الذي يسلكه العلم إلى غايته هو جزء من الطريق الذي يأمر بسلوكه الإسلام

على أننا نحب أن نزيد هذا التطابق بين الطريقين توكيداً بالتنبيه إلى آية واحدة في القرآن جمعت للإنسان أصول النظر العلمي وأثبتتها من الدين مجتمعة بعد أن أثبتتها من الدين متفرقة، تلك هي قوله تعالى من سورة الإسراء: (ولا تَقْف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) فأنها من ناحية تأمر الإنسان بالوقوف عند حد ما يعلم (ولا تقف ما ليس لك به علم) ومن ناحية أخرى تدله على طريق استبانة الحق فيما لا يعلم، والاستمساك بما يتبين له من الحق عن ذلك الطريق، طريق إحسان استعمال السمع والبصر والعقل (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وفي قوله سبحانه (كل أولئك كان عنه مسئولاً) في موقعها من الآية تقرير مسئولية الإنسان عند ربه عن حواسه وعقله كيف لم يستعملهن عند الشك حتى يتبين وجه اليقين، وكيف حين استعملهن لم يحسن استعمالهن، أم كيف وقد أحسن استعمالهن لم يستمسك بما وصل إليه من الحق عن طريقهن حتى صار هو ومن أهملهن سواء. ولو حاول العلم أن يزيد في توكيد أصوله على هذا ما استطاع، ثم هو ليس ببالغ شأو الدين في هذا التوكيد لأنه لا يملك المهمل أصوله حساباً ولا عقاباً

وبعد، فلعلنا نكون قد وفينا هذا الموضوع الخطير بعض حقه من البحث، وبلغنا الغرض الذي بدأنا هذا البحث من أجله، وأثبتنا أن العلم الحديث بينه وبين الإسلام كل ما بين الجزء والكل من تطابق مادام قد ثبت أنه قرآني الموضوع والاسم والروح والطريقة؛ فهو بجملته وتفصيله قطعة من الإسلام، حتى فروضه العلمية ونظرياته التي يلتمس بها سنن الفطرة لها في الإسلام متسع، لأنها ليست إلا ضربا من الاجتهاد الذي يثبت الله عليه المجتهد، أخطأ أم أصاب. وهذا التطابق العجيب بين العلم والإسلام هو الذي كان متوقعا مادام الإسلام هو دين الفطرة، ومادام العلم قد أصاب الفطرة وإن في بعض نواحيها. وليس يمنع العلم أن يصيب الفطرة في بعضها الآخر المتعلق بحياة الإنسان الاجتماعية. إلا أن هذه الحياة خارج نطاقه، وستظل كذلك لامتناع إخضاع الفرد بله الجماعة للتجربة العلمية والاختبار. فليس هناك للإنسانية إذن أي أمل في أن تصيب سنن الفطرة في الاجتماع عن طريق العلم، فهي لن تزال في مدنيتها بعيدة عن سنن الفطرة وعن سبل السلام حتى تقيم وجهها للدين حنيفاً (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله)

محمد أحمد الغمراوي