مجلة الرسالة/العدد 149/أندلسيات:

مجلة الرسالة/العدد 149/أندلسيات:

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 05 - 1936



أبو الفضل بن شرف

الشاعر الفيلسوف

للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي

(الناظم الثائر، الكثير المعالي والمآثر، الذي لا يدرك باعه، ولا يترك اقتفاؤه واتباعه؛ إن نثر رأيت بحراً يزخر، وإن نظم قلد الأجياد دُرّاً تباهي به وتفخر، وإن تكلم في علوم الأوائل بهرج الأذهان والألباب، وولج منها في كل باب؛ وقد كان أول ما نجم بالأندلس وظهر، وعُرف بِحوْك القريض واشتهر، تُسدّد إليه السهام، وتنتقده الخواطر والأوهام، فلا يصاب له غرض، ولا يوجد في جوهر إحسانه عرض، وهو اليوم بدر هذه الآفاق، وموقف الاختلاف والاتفاق، مع جري في ميدان الطب إلى منتهاه، وتصرف بين سماكه وسهاه، وتصانيف في الحكم ألف منها ما ألف، وتقدم فيها وما تخلف، فمنها كتابه المسمى يسر البر، ومنها الكتاب الملقب بنجح النصح وسواها، من تصانيف اشتمل عليها الأوان وحواها). . . هذا هو كل ما قاله الفتح بن خاقان في ترجمته لهذا الأديب الشاعر، الفيلسوف، النطاسني أبي الفضل بن شرف. وقد جرى الفتح في هذه الترجمة على شنشنته في سائر تراجمه، فلم يذكر اسم المترجم له، ولا اسم أبيه ولا منشئه، فضلاً عن أنه أغفل تاريخ مولده ووفاته. . وكذلك لم نر لغير الفتح ترجمة لهذا الأديب الكبير يصح أن تسمى ترجمة يعول عليها. . . ولكنا مع هذا أترانا لا نعرض لترجمة أمثال هذا الأديب البارع المتفنن الذي نبغ منه شعرٌ شاعر وحكمة بالغة وكان إلى ذلك نطاسياً عظيما، كما يؤخذ من كلام الفتح، ومن ثم يعد بحق من مفاخر الأندلس؟ وما قيمة عملنا إذا نحن ضربنا الذكر صفحاً عن مغموري أفاضل الأندلس أولئك الذين لم يوف المؤرخون تراجمهم حقها. .؟ وإياك والظن أنا نعني بقولنا مغمورين أنهم لم يكونوا مشهورين في عصورهم، وإنما نعني أنهم مغمورون في نظر أدباء هذه الأجيال. وقليل لعمري من سمع منّا بهذا أبي الفضل بن شرف سماعه مثلاً بابن هانئ وابن خفاجة وابن زيدون وابن عمار وابن وهبون وابن عبدون وأمثالهم ممن اضطرب ذكرهم وكانوا من المشهور (وأما بعد) فهل تدري من هو أبو الفضل بن شرف هذا؟ أظنك لا تجهل أديب القيروان وكاتبها وشاعرها أبا عبد الله محمد ابن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني قرين ابن رشيق ومنافسه في خدمة المعز بن باديس ومنادمته والمتوفى سنة 460هـ؛ إذن فلتعلمن أن المترجم له هو ابن هذا الأديب القيرواني العظيم واسمه جعفر بن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن شرف المذكور. . دخل الأندلس مع أبيه، وهو ابن سبع سنين، وقيل إنه ولد في الأندلس بعد أن نهد إليها أبوه وأقام بقرية من قراها تسمى برْجَه ومن ثم يقال للمترجم أبو الفضل بن شرف البرْجي. وللمترجم ابن فيلسوف شاعر مثله هو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المذكور - وهو القائل:

وكريم أجازني من زمان ... لم يكن من خطوبه لي بُد

منشد كلما أقول تناهى ... ما لمن يبتغي المكارم حد

هكذا يحدثنا المقري عند إيراده قافيَّة المترجم التي يمدح بها المعتصم بن صمادح أحد ملوك الطوائف والتي ستمر بك قريباً. ومن هذا ومن قول الفتح في كلمته التي صدرنا بها هذه الترجمة، (وهو اليوم بدر هذه الآفاق) يستنتج أنا المترجم أبا الفضل بن شرف هذا أدرك ملوك الطوائف ودولة المرابطين، أي أنه عاش في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس

وقد حدثنا الفتح في كلمته بأنه شاعر وأنه فيلسوف وأنه طبيب. أما أنه طبيب فلم نقف له على أثر في الطب ويبدو أنه كان يحترف الطب ويتكسب به وإن لم يؤلف فيه، وربما ألف وضاعت تواليفه فيما ضاع من شتى التواليف. وكذلك الحكم في أنه فيلسوف إذ لم يذكر لنا المؤرخون شيئاً من آثاره في الفلسفة، ولعلهم يعنون بفلسفته ما أثر عنه من الحكم مثل هذه الكلم الجوامع، والحكم الروائع التي أثرت عنه وهي: (العالم مع العلم كالناظر للبحر، يستعظم منه ما يرى وما غاب عنه أكثر. الفاضل في الزمن السوء كالمصباح في البراح، قد كان يضيء لو تركته الرياح. لتكن بالحال المتزايدة أغبط منك بالحال المتناهية، فالقمر آخر ابداره، أول إدباره. لتكن بقليلك أغبط منك بكثير غيرك، فإن الحي برجليه وهي ثنتان، أقوى من الميت على أقدام الحملة وهي ثمان. المتلبس بمال السلطان كالسفينة في البحر إن أدخلت بعضه في جوفها أدخل جميعها في جوفه. التعليم فلاحة الأذهان، وليست كل أرض منبتة. الحازم من شك فروّى، وأيقن فبادر. قول الحق من كرم العنصر كالمرآة كلما كرم حديدها أرت حقائق الصفات. ليس المحروم من سأل فلم يعط، وإنما المحروم من أعطى فلم يأخذ. يا ابن آدم! تذم أهل زمانك وأنت منهم، كأنك وحدك البريء، وجميعهم الجريء، كلا بل جنيت وجني عليك، فذكرت ما لديهم ونسيت ما لديك. اعلم أن الفاضل الذكي لا يرتفع أمره أو يظهر قدره، كالسراج لا تظهر أنواره أو يرفع مناره، والناقص الدنيء لا يبلغ لنفعه إلا بوضعه، كهوجل السفينة لا ينتفع بضبطه، إلا بعد الغاية في حطه). . . . إلى أمثال هذه الكلمات البديعة الحكيمة الشاعرة الناصعة البيان، المنيرة البرهان، التي لا تصدر إلا عن حكيم جهبذ من الراسخين، وأديب بارع من ذوي القرائح المطبوعين. ويشبه هذه الكلمات من شعر المترجم له قوله:

إذا ما عدوك يوماً سما ... إلى رتبة لم تطق نقضها

فقبل - ولا تأنفن - كفه ... إذا أنت لم تستطع عضها

وإذ قد وصلنا إلى شعر هذا الشاعر الفيلسوف كما يطلق عليه الأندلسيون فلنذكر أن شعره الذي وقع إلينا ينم على أنه شاعر متفنن رفيع الطبقة رصين الشعر، دقيق الفكر، لطيف التمثيل. ومن قصائده الفائقة قصيدته القافية التي أنشدها المعتصم بن صمادح أحد ملوك الطوائف، وكان قد قصر أمداحه عليه، وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات. ولما وفد عليه وأنشده هذه القصيدة كان في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة وإليك هذه القصيدة:

مَطَلَ الليل بوعد الفلق ... وتَشكيّ النجم طول الأرق

ضربت ريح الصبا مسك الدجى ... فاستفاد الروض طيب العبق

وألاح الفجر خدا خجلا ... جال من رشح الندَى في عَرَق

جاوزَ الليل إلى أنجمه ... فتساقطن سقوط الورق

واستفاض الصبح فيه فيضة ... أيقن النجم لها بالغرق

فانجلى ذاك السنا عن حلك ... وانمحى ذلك الدجى عن شفق

بأبي بعد الكرى طيف سرى ... طارقا عن سكن لم يطرق

زارني والليل ناع سُدْفَه ... وهو مطلوب بباقي الرمق ودموع الطَّلِّ تَمريها الصبا ... وجفون الروض غرقى الحدق

فتأنى في إزار ثابت ... وتثنى في وشاح قلق

وتجلى وجهه عن شعره ... فتجلى فلق عن غسق

نهب الصبح دجى ليلته ... فحبَا الخد ببعض الشفق

سلبت عيناه حَدَّي سيفه ... وتجَلى خده بالرونق

وامتطى من طرْفه ذا خبب ... يلثم الغبراء إن لم يعتق

أشوس الطرف عرته نخوة ... يتهادى كالغزال الخرق

لو تمطى بين أسراب المها ... نازعته في الحشا والعُنق

حسرتْ دُهمته عن غُرة ... كشفت ظلماؤها عن يقق

لبست أعطافه ثوب الدجى ... وتحلى خده باليقق

وانبرى تحسبه أجفل عن ... لسعة أو جِنة أو أوْلَقِ

مدركا بالمهل ما لا ينتهي ... لاحقا بالرفق ما لم يلحق

ذو رضى مستتر في غضب ... ذو وقار منطوٍ في خرق

وعلى خَدّ كعضب ابيض ... أذن مثل سنان أزرق

كلما نصبها مستمعاً ... بدت الشهب إلى مسترق

حاذرت منه شبا خَطيّة ... لا يجيد الخط ما لم يمشق

كلما شامت عذارى خده ... خفقت خفق فؤاد فرق

في ذرى ظمآن فيه هيف ... لم يدعه للقضيب المورق

يتلقاني بكعب مصقع ... يقتفي شأو عذار مفلق

إن يدر دورة طرف يلتمح ... أو يجل جول لسان ينطق

عصفت ريح على أنبوبه ... وجرت أكعبه في زئبق

كلما قلبه باعد عن ... متن ملساء كمثل البرق

جمع الصرد قوى أزرارها ... فتآخذن بعهد موثق

أوجبت في الحرب في وخز القنا ... فتوارت حلقا في حلق

كلما دارت بها أبصارها ... صورت منها مثال الحدق زلّ عنه متن مصقول القوى ... يرتمي في مائها بالحرق

لو نضا وهو عليه ثوبه ... لتعرى عن شواظ محرق

أكهب من هبوات أخضر ... من فرند أحمر من علق

وارتوت صفحاه حتى خلته ... بحيا من لكفيك سقى

يا بني معن لقد ظلت بكم ... شجر لولاكم لم تورق

لو سقى حسان إحسانكمُ ... ما بكى ندمانه في جلق

أو دنا الطائيُّ من حيكم ... ما حدا البرق لربع الأبرق

أبدعوا في الفضل حتى كلفوا ... كاهل الأيام ما لم يطق

(يتبع)

عبد الرحمن البرقوقي

منشئ البيان ورئيس قلم المراجعة بمجلس النواب